رسالة إلى مُحتقِري الشعر والشعراء/ عقل العويط
في ما يأتي، درسٌ لنا وللبنانيين جميعاً. لقد استطاع لبنان أن يمارس وجوده الكيانيّ برحابةٍ نسبية، عندما، في بعض اللحظات التاريخية، أتاح له “زعماؤه”، وواضعو اليد عليه، فرصة التعبير عن كيانيته هذه، مفسحين المجال لِما هو متمايزٌ عن صغائر السياسة، ولِما هو أبعد منها قليلاً، أو أعمق قليلاً.
كانت الظروف والأسباب الحيوية، موضوعية، داخلية وخارجية، وكان هؤلاء “الزعماء” وواضعو اليد، يتّصفون بأعراف السياسة التقليدية نفسها، وبتقاليدها، وبفنونها، مقرونةً عندهم بشيءٍ من التأصّل واللياقة والحكمة.
كان ذلك الزمن، في جانبٍ منه، زمن التهيّب الذي يحترم القوانين والمبادئ والأصول، بما أتاح للرحابة الروحية والعقلية أن توسّع المكان والفضاء والمعنى. لم يكن السياسيون ولا الإداريون ولا أصحاب الأموال ولا رجال الدين شعراء بالتأكيد (ولم يكن مطلوباً منهم أن يكونوا كذلك)، لكنهم كانوا يتهيّبون الشعر والشعراء، و”يعدّون إلى العشرة” قبل أن يرتكبوا هفوةً أو شناعةً في حقّ التهذيب اللغوي والأدب والتأدّب، كما في حقّ سلّم القيم، والمعايير، والمعاني، والرموز، والدلالات.
فلنقارنْ بين أحوال لبنان و”أهله”، قبل ستّين سنةً، أكثر أو أقلّ، وبين أحواله و”أهله” المالكين اليوم سعداء في ظهرانينا. بين “معايير” أولئك و”معايير” هؤلاء. بين “لغة” أولئك، و”لغة” هؤلاء، بين “فساد” أولئك، و”فساد” هؤلاء، وبين “وطن” أولئك و”وطن” هؤلاء.
كان ثمّة تهيّبٌ نسبيّ، لكنْ عظيمٌ للغاية، إذا ما قورن بواقع الحال في الحرب، وبعدها، وخصوصاً خلال الخمس والعشرين سنةً الأخيرة، حين انفخت الدفّ، و”انقطع شلش الحياء”، وصارت الحياة الوطنية والسياسية وكراً علنياً منظّماً و”حرّاً” للدعارة الرخيصة: على عينك يا تاجر!
“زعماء” لبنان الدنيويون والدينيون هؤلاء، وواضعو اليد عليه، من داخل ومن خارج، ذبحوا الخَفَر والتهيّب. وذبحوا المعايير. وذبحوا اللغة. وذبحوا الشعر والشعراء. فأصبح لبنان على القارعة.
لبنان الرحابة الروحية والعقلية، هو الذي أصبح على القارعة. أما لبنان الدعارة فبقي في التداول “الرسمي”. هو هذا اللبنان، الذي يتناتشون ثياب رئاساته وزعاماته وأمواله وطوائفه، ويتقايضونها بأقلّ من ثلاثين!
لم يعد هناك مكانٌ روحيٌّ وعقليّ يلجأ إليه “آدميٌّ” واحد، في لبنان هذا. لقد طفح الكيل، ونحن نتفرّج. أو نصفّق. أو نغضّ. أو نتواطأ. أو… نموت قهراً.
مِن أمامنا بحرُ الهرب، ومِن ورائنا فظائعُ الحروب والأرض الخراب ولعنات الموتى. أما الداخل اللبناني فحديقةٌ منذورةٌ لليأس، ومقبرة، وفي أحسن الأحوال وكرٌ للدعارة. ثمّة حلٌّ واحدٌ للبنان: أن نجعله، مرةً ثانيةً، بالقوّة المدنيّة، جمهوريةً مدنية، وأرضاً للشعر والشعراء، وفسحةً للإنسان والعقل والحرية!
النهار