رسالة تونس
ساطع نور الدين
الوضع في مهد الثورات العربية، تونس، ليس مثاليا، لكنه نموذجي. الصراع الدائر بين التيار الاسلامي الحاكم والتيار المدني المشارك، يحتدم يوما بعد يوم، ويتحول الى مواجهة تقليدية بين سلطة اسلامية نصّبتها الثورة ومعارضة ليبرالية نظّمتها الصدفة..
لن تكون هناك دولة عربية بمنأى عن هذا الشكل من الصراع. تونس هي المختبر الأول والأهم، لأن تجربتها الاسلامية فريدة وحالتها المدنية رائدة.. ولأن هاتين الظاهرتين المميزتين تتعرضان اليوم لاختراقات متطرفة، تشدهما في اتجاه الاشتباك المباشر الذي يحتمل استخدام السلاح يوما ما، على الرغم من الحصانة التي يتمتع بها المجتمع التونسي ازاء التسلح واللجوء الى القوة لحسم الخلافات السياسية.
السلطة التنفيذية التي تقودها اليوم حركة النهضة الاسلامية بدأت وبسرعة فائقة التصرف كقوة قمع للتظاهرات وتقييد للحريات وضبط للاعلام، وتكيّف مع السلفيات التي أطلت برأسها في مرحلة ما بعد الثورة، لتختبر الانفتاح السياسي، وتتحدى شعارات الإسلاميين وبرامجهم في إدارة الدولة والمجتمع.
العناوين المتداولة في تونس هذه الايام وعلى رأسها الدعوة التي وجهها الرئيس منصف المرزوقي الى إقرار قانون يجرّم التكفير ووصفه للمتشددين الإسلاميين بالجراثيم، فضلا عن الجدل الذي أثارته جولة السلفي المصري وجدي غنيم في تونس وخطبه النارية في الدين والسياسة والخلافة والمرأة.. تعبّر عن اضطراب لا يمكن للمعادلة السياسية الراهنة التي تجمع الإسلاميين والليبراليين واليساريين تحت سقف واحد ان تصمد أمامه طويلا
لن تستطيع حركة النهضة الحاكمة حتى ولو شاء بعض شيوخها وقيادييها ان تعيد انتاج استبداد جديد، لا يحتمله التنظيم ولا يقبله المجتمع الذي استرد حريته للتو، لكن التحدي السلفي الذي لا يزال يقدّر بالألاف، لكنه استقطب عشرات الألاف لسماع الداعية وجدي غنيم، يمكن ان يشكّل ذريعة للمزيد من التشدد في احتواء الحياة السياسية التونسية الصاخبة.. التي يعيبها أيضاً تطرف ليبرالي لا يقل سوءا عن التطرف الاسلامي وينادي بالجنس والعري وحتى المخدرات للنكاية او الغواية.
الاستقطاب يزداد حدة يوما بعد يوم بين الجانبين اللذين يستكشفان فرص الحرية السياسية والاجتماعية شبه المطلقة. فرص التوصل الى قوة وسطى بين الطرفين تنعدم تدريجيا، وتهدد بتقويض السلطة التي صيغت على عجل وبدافع الانتقام من الماضي الدكتاتوري اكثر من الاهتمام بالمستقبل. حجج تقصير المرحلة الانتقالية الراهنة تكسب مزيد من المصداقية، لأن الحكام الإسلاميين يمارسون ما يشبه التقية، ولأن المعارضين المدنيين يحتجون بطريقة اسلامية.
الوضع في تونس ليس مثاليا او نهائيا، لكنه افضل بما لا يقاس من استبداد انتج هذه العيوب الاسلامية والمدنية.
السفير