رسالة عاجلة إلى أسقف روما أربعة أخطار تتهدّد المسيحيين في الشرق/ عقل العويط
تابعتُ وقائع اجتماعاتكَ الأخيرة مع أساقفة الشرق، وقرأتُ صرختكَ الجريحة، لكن المدوّية، في شأن الوجود المسيحي في الشرق، والتحديات التي تواجهه في أرضه. لكَ عندي هذه التأملات، أدرجها بمثابة رسالة شخصية عاجلة إلى حضرتكَ الأسقفية الرومانية، راجياً أن تقرأها بعناية ودراية، وأن تبدي التفاعل اللازم في شأنها، لإجراء المقتضى اللاهوتي والكنسي والوجودي على أرض الواقع الشرقي.
عزيزي فرنسيس أسقف روما،
سأخاطبك من دون مجاملات كثيرة، تاركاً للوجدان أن يخبركَ عن المعاناة الوجودية الكامنة وراء هذا المقصد.
هناك أربعة أخطار تتهدّد الوجود المسيحي في الشرق: المسيحيون أنفسهم، الأنظمة الديكتاتورية العربية، الاتجاهات التوتاليتارية ذات الخصوصية الظلامية الإسلاموية، من جهاديين وسلفيين وتكفيريين وأولياء فقيه، ودولة إسرائيل الصهيونية.
لو أردتُ أن أرتّب هذه الأخطار ضمن أولويات منهجية، من الأكثر خطورةً إلى الأقلّ خطورةً، لما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً. ففي اعتباري، أن كلاًّ من هذه الأخطار هو خطرٌ داهمٌ، وهو خطرٌ أوّل.
– هاكَ أولاً خطر المسيحيين الذاتي. فهم خطرٌ على أنفسهم، لأنهم منذ زمنٍ مشرقيّ ليس بقصير أصبحوا دون المسيح إشعاعاً بعدما كانوا يتمثّلونه في حضورهم الذاتي، مع أنفسهم كجماعة مؤمنة، وفي تفاعلهم الوجودي مع أهل بيئاتهم وأوطانهم. لقد صاروا دونه، لأنهم باتوا – كمسيحيين وأصحاب رسالة – مأخوذين بالترف المبسّط لحقيقة الشرط البشري، مشغوفين بخفّة الوجود المتكالبة، وغوايات العالم الأنانية، مقصِّرين عن فهم جوهر الدعوة المسيحية، وإدراك مستلزمات رسالتها، وبلورة هذه المستلزمات في حياتهم الإيمانية، كما في تجسّدات حياتهم القيمية، أكان ذلك على مستوى وجودهم كجماعة دينية مؤمنة، أم على مستوى اضطلاعهم بمسؤولياتهم حيال هذا الوجود، أفراداً ومواطنين أولاً، ومنخرطين، ثانياً، في حياتهم المجتمعية، وفي ممارسة الشأن العام على السواء.
لم يعد عندي ثقة في أن بعضاً جمّاً من هؤلاء المسيحيين، على اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم، اللاهوتية والليتورجية والطقسية، أو المدنية، قادرٌ حقاً على حمل رسالة المسيح في مثل هذه الأزمنة الصعبة، في ما بينهم أولاً، ثمّ في الحيّز العربي الإسلامي الأوسع ثانياً. لقد تخلّى رهطٌ كبير من هؤلاء عن فكرة الشهادة المتمثلة في المسيح المفتدي، كما تخلّوا عن الشظف الروحي المتمثل في كبرياء الكرامة الوجودية، وسماحة الكرم الفكري، ونبل التسامي بالحضور إلى مستوى الإشعاع.
بعيداً من أيّ استخلاصٍ تعميمي متعسف، أدعوكَ، يا سيدي الأسقف الروماني، إلى أن تنظر إلى ساداتهم ووجهائهم في الطبقتين السياسية والاجتماعية، كما أيضاً وخصوصاً إلى قساوستهم وكهنتهم وأساقفتهم، لتعرف جيداً مقصدي مما أقول عن انحطاط تحلّقهم حول جوهر المسيح، كعلامةٍ فارقة في تاريخ التجلّي البشري. لم يعد ثمة مسيحٌ حقيقيّ، يقيم بينهم، وإلى مائدتهم الروحية والعقلية، مذ باتوا زجاجاً وجودياًعاكساً لفيتيشية الواقع الشرقي، العربي والإسلامي، بعدما كانوا موشوراًprisme روحياً وفكرياً وقلبياً وجسدياً، مبدعاً، خلاّقاً، باهراً، ومشعّاً في النواحي كلّها، خارجاً وباطناً، سفلاً وعلواً، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. فكيف تقوم لهم قيامةٌ في هذا الشرق الحزين؟
لقد تتبّعتُ روح المسيح في ما مضى من أحوالهم، وعاينتُها، وتلمّستُ معالمها، ودلالاتها، وطرقها، وأثرها الهائل، المتجلّي والدفين، في هذا الشرق، جيلاً بعد جيل، وشهادةً بعد شهادة. لقد ظلّ المهجوسون بالمسيح بين المسيحيين حتى الأمس القريب، يتفقدون هذا الروح، ويستجلونه، في براهين حياتهم الحرّة الخلاّقة. وإذا كان ثمة محطات حديثة باهرة في هذا الصدد، يجب استدراج انتباهكَ إليها، فلا يسعني إلاّ أن ألفت حبريّتكَ إلى هاجس الحرية الذي بقي يمضّهم، ويشغفهم، ويشغل ليلهم ونهارهم، وخصوصاً في بيانهم التاريخي الشهير، في 20 أيلول 2000، مُطلقاً إشارةً مفصلية في العمل الكفاحي من أجل الاستقلال، داعياً إلى الانتفاض واستنباط الربيع على رغم قحط الديكتاتوريات المخيف.
يذهلني الآن، يا سيّد، أن أكون أبحث عن هذا الروح المُشرق، المحفِّز والمحرِّض، فلا أكاد أجد له أثراً متجلياً، لا في الكنيسة ولا في خارجها، إلاّ قليله القليل. فتبّاً لهؤلاء المسيحيين! بربّكَ، ماذا يفعلون بأنفسهم، وكيف يخورون متأخّرين عن مواكبة موجبات فعلهم التاريخي، بل كيف يخونون مسيحهم ورسالتهم ومجتمعاتهم، ويمضون أعمارهم الراهنة مقنَّعين بأدوارٍ انفصامية، متنكّرين لحقيقتهم في التاريخ والجغرافيا، مستدرجين النواح والرثاء، مستسلمين للهرب إما إلى الوراء وإما إلى الأمام. حيث لا مفرّ ولا مهرب.
– هاك ثانياً الخطر الذي يجب أن تكون قد عرفتَه جيّداً وسريعاً في زمن حبريّتك القصير هذا، لأنه واضحٌ كنور الشمس، و”أشهر من نار على علم”، على ما نقول في أمثالنا الشرقية. إنه خطر الأنظمة الديكتاتورية القائمة في المنطقة العربية، الذي لا أستطيع حياله أن أتفهّم إسراف بعض الأحبار المسيحيين في الكنيسة الشرقية، وبعض قادتهم السياسيين ووجهائهم وأولياء أمورهم، في دعم هذه الأنظمة، متورّطين فيها، ومنغمسين في مستنقعاتها، عن جهل، أو خوف، أو جبن، أو تنكّر لفحوى رسالة المسيح في هذه الأرض، كما في كلّ أرضٍ مظلومة.
لقد عاثت هذه الأنظمة عهراً وفساداً وقهراً وظلماً وتنكيلاً وقتلاً، بعدما صادرت إرادات الشعوب وتوقها إلى الحرية، وعملت على سوسها بالقوة والعنف والترهيب والإذلال والإهانة، معتبرةً أن النيل من كرامة الشرط البشري هو السبيل الوحيد لترسيخ سلطتها في الأرض.
ماذا فعل العديد من أحبار المسيحيين، ومن ساستهم وقادتهم وأولياء أمورهم، يا سيّد؟ بدل أن يشهدوا للمسيح، راحوا يشهدون لحكّام هذه الأنظمة. وبدل أن يحنوا رؤوسهم تواضعاً لعبور المسيح في قلوبهم وعقولهم ووجداناتهم، راحوا يحنون رقابهم هذه لتكون مطيّة للاستبداد ورجاله.
أرجو منكَ، يا سيّد، أن تتبيّن مكوّنات الخطر الكبير الذي أعتقد أنه يتهدّد المسيحيين، من جرّاء مواقف بعض رجال الدين والدنيا. إنه الخطر الماثل في تحوّلهم، من دون أن يدركوا ربما، شركاء في جريمة تُرتَكَب ضدّ الانسانية في سوريا، حيث الدمار الماحق، والتفكك المهول، ومئات الألوف من القتلى والجرحى، وملايين من النازحين والمهجَّرين.
أدعوكَ، يا سيّد، بحبٍّ واحترامٍ شديدين، إلى أن تزن بميزان الذهب، وبالقيراط، لا بالمساومات الدنيوية الباطلة التي اعتاد عليها رهطٌ من المتولّين على المسيحيين، ومن أمرائهم الدينيين والدنيويين، أن تزن مع مستشاريكَ، فداحة النتائج التي ترتّبت، ولا تزال تترتّب، على تماهي هذه الجماعة مع أنظمة الاستبداد العربية والشرقية. ثم قارِنْ هذه النتائج بما كان يمكن أن يكون عليه العكس، لو لم يتماهَ هؤلاء مع المستبدّ الغاشم وسلطانه المفسد في الأرض، الذي أوغر النفوس ليس ضدّ الديكتاتور وحكمه فحسب، بل أيضاً ضد مريديه وأتباعه، وخصوصاً بعض الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم “الأقليات” المسيحية. وقد صحّ فيهم القول العربي :”ما ندمتُ على صمتٍ قطّ”، وهم لا يكفّون عن فارغ الكلام وخطيره.
اعرفْ فقط، يا سيّدي، أني لا أريد، من موقعي ككاتب وإعلامي ومواطن علماني في بلدي المكتوي بنار الديكتاتوريات والظلاميات من كلّ حدب وصوب، أن أوحي إليكَ، البتّة، بأيّ مقصدٍ فئوي أو أناني، لا في هذا الاتجاه، ولا في غيره. ذلك أن جلّ ما أرجوه، أمام استفحال الأخطار الوجودية التي تتهدّد حقاً المسيحيين في الشرق، أن أراكَ تدرس، بتؤدة وحكمة وبصيرة، السلبيات والإيجابيات التي نجمت عن خمسين عاماً من اندراج بعض الجماعة المسيحية، وبعض أحبارها وساستها وأوليائها في ركاب المستبدّ الشرقي، والمسيحية منهم براء.
– هاك، يا سيّد، الخطر الثالث الذي يتهدّد الوجود المسيحي الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، من جرّاء صعود الاتجاهات الإسلاموية المخيفة.
إذا كان يجب أن يخاف المسيحيون أيضاً، فيجب أن يخافوا خصوصاً من هؤلاء المتطرفين، الجهاديين والسلفيين والتكفيريين وأولياء الفقيه. لماذا؟ لأن بعض قادة المسيحيين هم من بين الذين شاركوا، موضوعياً، في توليد هؤلاء المتطرفين، عندما ظنّوا أن الوقوف مع الحاكم المستبدّ هو الذي يحمي وجودهم من التطرف الإسلاموي. لقد “حماهم”، ربما (!)، لكنْ بعدما جعلهم “أهل ذمّة”، إنما إلى هذا الحين بالذات. فهل يتمكن من أن يحميهم غداً، أو حتى عندما يرخي هذا المساء سدوله، ويحلّ الظلام الديني الماحق والمستديم؟
عزيزي أسقف روما،
الكلّ يعرف أن العالم الشرقي، العربي والإسلامي، يشهد صعوداً متنامياً ومخيفاً للاتجاهات الإسلاموية المتطرفة. وإذا كان تاريخ المنطقة قد سبق له أن شهد مثل هذا الصعود التوتاليتاري الدامي، فإن استشراءه المستفحل في هذا الزمن المعاصر لبرهانٌ فاقع على هول دلالاته وأبعاده الراهنة.
لا أعتقد، يا سيّد، أن حماية الحضور المسيحي في الشرق تتحقق بمثل هذه الخفة المثيرة للشفقة، التي يعالجها بها العديد من المسؤولين الدينيين والدنيويين في الكنائس الشرقية، المفصولين عن الواقع، العاجزين عن إدراك معنى التاريخ، الذي لا يمكن أن يكون إلاّ بالحريّة. ثمة حاجةٌ إلى تفكّرٍ جوهري في المصير، يأخذ في الاعتبار كلّ العوامل والمكوّنات التي تسمح ببلورة شهادةٍ تاريخية جديدة، لرسالة المسيح في الأزمنة الشرقية الراهنة.
سيّدي الأسقف، يحصد المسيحيون، هنا، ما زرعه بعض قادتهم وأحبارهم، في هذا المجال. ليس لي أن أقدّم البرهان على الخطر الناجم عن استفحال الظاهرة الإسلاموية الظلامية المتطرفة، فهذه الظاهرة هي برهان نفسها. لكني، أقترح عليك، بتواضعٍ جمّ، أن تقرأ الحوادث ببواطنها وخلفياتها المضمرة، لا فقط بعلاماتها البيّنة. لا يوقف الظلام إلاّ النور. قلْ لهؤلاء من جماعتكَ المؤمنة، الآن، وفوراً، أن يستعيدوا اجتراح النور في المنطقة العربية، بعدما شارك بعضُهم المستبدَّ طويلاً في مراكمة الظلام، وفي اجتراحه، وتوليده.
لا يُنتصَر على الاتجاهات الظلامية الإسلاموية المتطرفة إلاّ بإعطاء الشعوب حرياتها، لا بإثارة غرائزها الظلماء، أدينية كانت أم مجتمعية أم سياسية، أم سواها.
– هاك يا سيّد، أخيراً، الخطر الرابع، الذي ربما يعرفه المسيحيون، وتعرفه كنيسة المسيح، شرقاً وغرباً، أكثر مما يعرفه سواهم وسواها.
دولة إسرائيل العنصرية هي الخطر، وهي الليل، وهي حليفة موضوعية للظلامية الإسلاموية الصاعدة في العالم العربي. لقد اشتغلت منذ خمسة وستين عاماً، أي منذ إقامة الكيان الصهيوني المغتصب على أرض فلسطين، على تفريغ بلد المسيح من أتباع المسيح، وهي تساهم مساهمةً حثيثة في تأجيج العصبيات الدينية المتطرفة التي تفضي إلى تخويف المسيحيين وتهجيرهم من الشرق.
شرقٌ من دون المسيحيين، يا سيّد، هو أقصى ما تتمنّاه الصهيونية في هذا الشرق المكلوم. أعتقد، كمواطن لبناني عربي علماني، أن لا سبيل إلى تأبيد الاغتصاب الاسرائيلي وإقناع الغرب بـ”حمايته”، إلاّ من طريق ارتفاع وتيرة الظلامية الإسلاموية. المسألة بسيطة: المسيح الإسرائيلي، مملكتُهُ من هذا العالم تحديداً، أما المسيح المفتدي والمخلّص فلا.
لن أطيل كلامي في هذا الصدد، ولا في غيره، فاللبيب من الإشارة يفهم. وأنتَ، يا سيّدي أسقف روما، قد اختاركَ الروح في هذا الزمن العالمي الصعب، لتقود الكنيسة إلى خارج المستنقع. ليس خارج مستنقع الاستبداد السياسي فحسب، بل خارج المستنقع الكنسي والإيماني بالذات.
عزيزي فرنسيس أسقف روما، لك سلامٌ من قلبي.
النهار