رسالة مفتوحة إلى المتسرّع برهان غليون
مصطفى علي الجوزو
أعرفك منذ كنت أٌعدّ الدكتوراه في باريس، في السبعينيات من القرن الماضي. كنت أرى فيك الطيبة والمرح والدماثة، ولم أشكّ يوماً في صدق انتمائك العربي، لكني لا أخفي أني تعجبت حين انتخبوك، هذا العام، رئيساً للمجلس الوطني السوري الانتقالي المعارض، لأني لم اكن أتوسم فيك ذاك الرجل القيادي المؤهل لتزعّم ثورة، وإن كنتُ أحتاط من حكمي هذا عليك بكون لقاءاتي بك عَرَضية لا تسمح بإطلاق الأحكام، ولستُ في الفِراسة في مكانة الشافعي، والفراسة، في النهاية، ظنٌّ غير جازم. وحين ضرب الخلاف بِجِرانِه بين شخصيات المعارضة السورية في الخارج، ولاسيما في تركية، وجدتُ لهم العذر في اختلاف الطباع والثقافات والتجارب وببعض الضعف البشري، لكنني لم أتصور يوماً أن يبلغ بأحدهم، وهو أنت، ذلك الضعفُ، المشربُ بالسذاجة، أو على الأقل باللأكاديمية، فضلاً عن اللاديموقراطية، مبلغَ تبنّي مقولات الدول الاستعمارية!
أقول هذا بعد سماعي ثم قراءتي لترجمة تصريحك الذي أدليته لصحيفة وول ستريت الأميركية، والذي قررت فيه مسبقاً مواقف الحكومة السورية المفترضة التي ستؤلفها المعارضة بعد سقوط النظام السوري الحالي، ولاسيما قطع العلاقات العسكرية مع إيران، ووقف إمداد الجماعات المسلحة في الشرق الاوسط، كحزب الله وحماس، بالسلاح، والعمل على استرجاع الأراضي السورية المحتلة بالتفاوض. لقد كان هذا التصريح مذهلاً، وتوقعت أن يكون الكلام المنسوب إليك غير دقيق، وأن تسارع إلى تكذيبه، فقيل لي أن بعض مقابلاتك التلفازية تؤكده!!
وكيلا يلتبس عليك الأمر، أؤكد لك أنني أعتبر ما يجري في سوريا اليوم ثورة حقيقية، وأستنكر ما تُعامل به السلطات والميليشيات السورية الرسمية المتظاهرين، وأرى أن الإصلاح الذي وعد به الرئيس بشار الأسد كان ينبغي أن يتم فور انتهاء اجتماعه الأول إلى الشخصيات المعارضة، وبصورة جديّة وجذريّة، وبغير مراوغة ومماطلة و«مَكْيَجة»، وأنه لو فعل ذلك لحقن كثيراً من الدماء، ولجنّب سوريا كل الخسائر المادية والمعنوية التي أصابتها، ولخرج بطلاً للإصلاح لا متّهَماً بجرائم ضد الإنسانية، ولم يضطر إلى جمع المتظاهرين المشكوك في تأييدهم للنظام ـ ولا عاقل يصدق أن الملايين تخرج لتأييد نظام يقرّ هو نفسه بفساد أجهزته وكثير من قادته ـ ولم يضطر إلى حمل وزير خارجيته على تقمّص شخصية كولن باول ليعرض أفلاماً مأسوية مطعونا في صحتها. وما دام المصدر الإعلامي المسموح له بنقل الوقائع واحداً، فهو محل طعن. وأدنى شروط العدالة أن يتساوى الخصمان في الحق بإبراز الإدلّة، وحين يمنع أحدُهما الآخرَ من ذلك يجعل نفسه موضع تهمة شبه مؤكدة.
لكنني أَستهجن أن يرهن الثائر نفسه لحلم سُلْطي… هذا إذا صحّ أنه ثائر حقاً، وإذا صحّ كذلك أن المجلس الوطني سيؤلف حكومة محتملة بعد سقوط النظام. أجل، أَستهجن أن يتنكر للقضية التي لا يكاد يختلف عليها وطنيان: قضية المقاومة ضد الاغتصاب الصهيوني. والمؤسف أن المستسلطين يبدأون باستدراج رضا الدول الكبرى، عبر تنازلات مسبقة مبنية على مجرد افتراض سُلْطي. وتكون النتيجة، كما حصل في الضفة الغربية: مطالبة بمزيد من التنازل، ووعود لا تتحقق إلا بالتنازل الكلي، وتكون خسارة القضية والكرامة هي المكسب الوحيد. إن الذي يبيع نفسه يصبح سلعة، والسلعة المستعملة يتضاءل ثمنها بمرور الزمن حتى تصبح غير صالحة للاستعمال، فترمى، أو تُتلف.
لقد نفهم أن تتحفّظ يا أخ برهان من العلاقة السورية الإيرانية بسبب موقف إيران المعادي للثورة السورية، ودعمها المطلق لنظام دمشق، وجناياتها في العراق، واحتلالها للجزر العربية الثلاث، وتدخّلها في كثير من الشؤون العربية، ونهجها المذهبي الفج. كما قد نفهم موقفك من حزب الله، المدافع بغير اعتدال عن النظام السوري، والمزايد أحياناً على مزاعمه، والغاضّ الطرف حتى عمّا اعترف به النظام نفسه من فساد، والمتّهِم للثوار بالتآمر والعمالة، والموحي أن الممانعة مسوّغ للجرائم ضد الإنسانية؛ ونقدر أنك ربما تساءلت: ترى لو كان القتلى في سوريا على مذهب الحزب، هل كان سيعلن الموقف نفسه؟ لكن الذي لا نفهمه أن تتوعد أنت حركة حماس بحرمانها إمدادات السلاح. هل لأنها تلقت مساعدات من إيران وتأييداً معنوياً منها وكانت له شاكرة؟ وتركيا والشعب المصري أيضاً أيدا المقاومة الفلسطينية بقوة، وربما أمداها بالعون، فلماذا لا تشمل تركيا ومصر بعقوباتك الموعودة؟ ولا أعتقد أنك تريد قطع الماء والهواء عن المقاومة الفلسطينية لتضطر إلى الاستسلام للمغتصب الصهيوني، ولا أن تنصّب نفسك منفذاً للمفكرة الأميركية الصهيونية في محاربة ما تسميه واشنطن الإرهاب، وما يكاد يشمل كل العرب والمسلمين. لكنك تضع نفسك موضع الشبهة، وهي شبه خطيرة لا نحبها لك ولا للمجلس الذي تَرْأَس.
ثم إن المفروض أنك تؤيد الثورة من أجل الحرية والديموقراطية، فأي حرية وديموقراطية في أن تستبق قرارات الحكومة المقبلة المفترضة؟ ومَن يؤكد لك أنك ستكون رئيساً لتلك الحكومة أو حتى وزيراً فيها؟ إنك تصادر مسبقاً إرادة الشعب السوري الذي يفترض أن ينتخب ممثليه في مجلس الأمة، وأن تنبثق عن ممثيله حكومة وطنية، وأن تضع حكومته ومجلسه دستوراً جديداً يقرّه أو يرفضه من طريق الاستفتاء العام، وأن يقرر بنفسه من يحالف ومن يقاطع. لقد أَنبْتَ نفسك عنه في مقابلة صحافية لا تعدو كونها تصريحاً شخصياً لا يجوز أن يحمل عبء المستقبل المبهم وآفاقه الغامضة. وإذا كانت هذه بداياتك وأنت خارج السلطة لا تملك أكثر من حق القول، فكيف ستفعل لو تسلمت الحكم، وكانت بين يديك كل آلاته المدنية والعسكرية؟ إنك تبالغ في إرضاء الدول الكبرى الحليفة للعدو المغتصب، فأنت تقع في شبهة العداوة للأمة ولقضيتها الكبرى، فإذا صارت الشبهة تهمة، ونرجو ألا تصير، كان من الخير لك ان تستقيل وتصمت، فلعل الشعب العربي يغفر لك نزوتك هذه. أمّا الله فلا نتدخل في مغفرته أو عقوبته.
وحين تعود إلى أكاديميتك وموضوعيتك، وأنت باحث، بل مدير مركز دراسات في جامعة السوربون بباريس، ستتبين أنك خلطت بين أمور لا يحسن بأكاديمي أن يخلط بينها، ولو احترف السياسة؛ فالنظرة إلى وجه حزب الله المقاوم تختلف عن النظرة إلى وجهه المذهبي وارتباطاته السياسية بسوريا وإيران، وإن كان الوجهان متكاملين؛ فتصدّيه للمحتل الصهيوني سنة 2000 وإجباره على الخروج من لبنان، ثم تصدّيه لذلك العدو نفسه سنة 2006 ومنعه من الهيمنة على لبنان عامة وجنوبه خاصة، عملان بطوليان قلما شهد لهما العالم العربي مثيلاً، فضلاً عن أن وجوده على الحدود اللبنانية الفلسطينية بسلاحه المتطور وخبرته القتالية واللوجستية يعدّ درعاً للبنان من دخول الصهاينة إلى أرضه مجدداً؛ علماً أن السلاح الثقيل ممنوع أميركياً على الجيش اللبناني، بما يجعل قدراته الحربية محدودة نسبياً. وهذا يعني أن وجود حزب الله في لبنان ليس حقاً له، بل هو ضرورة قومية. أما علاقاته السياسية والمذهبية التي لا نقرّ بعضها فهو لا يلزم بها أحداً، وذلك حسبه.
أما حماس فهي المنظمة الفلسطينية الوحيدة التي أنشأت دولة فلسطينية حقيقية، بفضل مقاومتها وإيمانها بحقها، وإعدادها الحسن للحرب على المحتل، وعقيدتها القتالية المتينة، ولولاها لم يفكر أحد بإمكان قيام دولة لشعب فلسطين. ولذلك كان همّ الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تصويرها تصويراً شيطانياً، ووصمها بالإرهاب لتسويغ الحرب عليها، ودفع حركة فتح إلى محاولة تطويعها وتذويبها، بل السعي إلى محاربتها، ومنع الحركتين من المصالحة والتوحد. أما تفكيرها السياسي المرتبط بالعقيدة الدينية فأمر يخصها، ويصونه مبدأ حرية الاعتقاد، والتفكير في تأثيره في النظام الفلسطيني المفترض سابق لأوانه، وخاضع على كل حال للحق الديموقراطي للشعوب في اختيار أنظمتها وممثليها في الحكم. تبقى علاقة حماس بسوريا وإيران، وقد بيّنا مسوّغها، بما يعفينا من الرجوع إلى تناولها.
يبدو، إذن، أنك قد ضعفت أمام أضغاث الأحلام السياسية، وتباعدت عن منهجيتك وموضوعيتك والتنزه عن الأنانية، ولعل من شأن هذا أن يُضْعف حقك في التحدث باسم الثوار، وفي إنتاج تصور لمستقبل بلدك. ومن تكن هذه حاله، ويتمتع بضمير حي، يعتزل العمل السياسي، وينصرف إلى البحث والدراسة. والسلام عليك.
السفير