رسامو الكاريكاتور السوريون: في انتظار صحافة جديدة
يبدو الكاريكاتور السوري اليوم عند مفترق طرق، بعد المسافة التي أوجدها الرقيب في الصحف الرسمية عاماً بعد عام بين هذا النوع من الفن وبين المتلقي سواء على صفحات الجريدة، أو حتى في المعارض التي يقيمها رسامو الكاريكاتور. مسافة الرقابة هذه كانت ضد معنى هذا الفن وأصله، إذ يكفي أن نعرف أن كلمة كاريكاتور مشتقة من الكلمة اللاتينية “كاريكا” والتي تعني “هاجم” حتى نعرف أنّ طبيعة هذا الفن مخالفةٌ لأيّ شكلٍ من أشكال المصادرة واللّجم والتقييد. رسامو الكاريكاتور السوريّون في انتظار قانون إعلامٍ معاصرٍ يرفع يد الرقابة عن هذا المشاغب الصحفي الأصيل في طبعه الشكس، وخروجه التاريخي على كل أنواع الزجر وأساليب حراس البوابات التي وصلت ذراها في إغلاق جريدة “الدومري” العائدة لصاحب امتيازها الفنان علي فرزات.
سُحب امتياز “الدومري” من الفنان فرزات في آذار/مارس 2003 ومُنع توزيع العدد 115 من المجلة التي كانت بمثابة احتفاء لمساحة خاصة لفناني الكاريكاتور السوريين. يقول الفنان فارس قره بيت مستذكراً تلك المرحلة: “الصحافة السورية غير مؤمنة بفن الكاريكاتور على الإطلاق، فمن أكثر من عشرين عاماً نلاحظ عدم الإيمان بهذا النوع من الفن، مع أنه قبل هذه الفترة كان هناك احترام للمساحات التي يشغلها رسام الكاريكاتور في الجرائد المحلية. فيما بعد، بدأت هذه المساحة تضمحل مع انخفاض سوية رؤساء تحرير الجرائد الوطنية وظهور طبقةٍ من الرسّامين الدخلاء الذين تناسبوا طرداً مع مستوى إدارات تلك الصحف”. هذا بدوره أبعد أسماءً معروفةً من صفحات الجرائد السورية مثل علي فرزات وعبد الهادي شماع وحميد قاروط وعبد الله بصمه جي، وبالتالي تراجع هذا الفن من الحياة الثقافية السورية فأصبح وجوده وعدمه سيان.
“فن الكاريكاتور فنّ غير مرغوب به في سورية،” يقول الفنان عبد الهادي الشماع ويتساءل: “لماذا يتوجّب على رسّام الكاريكاتور السوري أن يرسم خارج بلده؟” الجواب حسب رأي الشماع هو لأن بلده لا تريده أن يرسم عنها والسبب الثاني هو أنّ الكاريكاتور في سورية لا يطعم خبزاً بل قشور بيض فقط، مثلما يقول الشماع. لذلك اعتزل هذا الفنان الكاريكاتور السّياسي مع أنّه رسم الكثير عن ياسر عرفات والسادات وسواهم من القادة العرب، إلا أنه لم يستطع أن يرسم مديراً عاماً واحداً في بلده.
الكاريكاتور السوري مازال يعيش في “أيام زمان”، فهو إما أن يشتم أمريكا أو يشتم إسرائيل. فرغم أنّ وسائل الإتّصال بلغت مرحلةً متقدمةً في نقل الخبر ونشره والتعليق عليه، إلا أنّ البعض ما زال يصر على أنّ يبقى الكاريكاتور في المتحف، وبالتالي كل من يرسم اليوم في الصحف السورية سيشعر بأنه مفلس إبداعياً كونه استهلك جميع الأفكار الممكنة. الغياب المريب لمساحة الكاريكاتور من جرائد “الثورة” و”البعث” و”تشرين” مثال على ذلك. ولكن هل ثمّة من يسأل عن هذا الغياب؟ هل ثمة شخص يعنيه ذلك؟
يشير الفنان عبد الله بصمه جي إلى أنّ معظم الصحف الحكومية والجرائد الخاصّة تروج للكاريكاتور الترفيهي والدعائي، وليس للرسوم التي تعلّق على أزمة تهم المواطن العادي. ويضيف بصمه جي: ” لنأخذ جريدة “بلدنا” على سبيل المثال، والتي أوقفت رسّامها الشّاب علاء رستم عن العمل بعد تقديمه رسماً انتقادياً لانتخابات مجلس الشعب، وتعرضت الجريدة آنذاك إلى إيقافٍ لصدروها ورقياً لمدة شهر. بعد ذلك استمرّت “بلدنا” في تقديم الكاريكاتور على صفحاتها، ولكن كاريكاتور مفرّغ من محتواه ولا يمتّ لما يحدث في الشارع بصِلة، عبارة عن رسوم مسحوبة من دسمها النقدي الساخر”.
تعكس أزمة الكاريكاتور في سورية وضع الصحافة والمستوى الذي آلت إليه خلال العقود الماضية. هناك عبارة شائعة في تقاليد المهنة الصحفية السورية، وهي عبارة منتشرة بين محرّري الجرائد الحكومية مفادها: “يا أخي من سيقرأ لنا؟ حط بالخرج!” هذا كلام يعكس اعتقاداً قديماً وراسخاً لدى معظم الصحفيين السوريين الذين يتساءلون باستمرار عن الناس التي تقرأ ما يكتبونه. لذلك لا خوف من كتابة حشوٍ مستمرٍ لا معنى له. ويقول الشماع: “المهم أن لا يشتكي أحد على الجريدة، وليس المهم أن تُقرأ. ولذلك درجت صحفنا لمسح الزجاج وكأغطية رفوف للمطابخ ورفوف المكدوس، هذا ما رسمته في إحدى لوحاتي الساخرة من الصحافة السورية”.
المفارقة الغريبة في سورية هو أنّ سقف الرقابة يبدو مرتفعاً في الدراما التلفزيونية على عكس ما نلاحظه في مجال الرسوم الساخرة. ويعطي قره بيت مثال مسلسل “بقعة ضوء” التلفزيوني والذي سُمح فيه للممثل ياسر العظمة أن يقوم بدور يوجه فيه انتقادات جريئة تخرق تابوهات اجتماعيّة وسياسيّة، فيما لا يسمح لرسام الكاريكاتور أن يقدم رؤيته الخاصة عن مشاكل السوريين.
حسب تجربة الرسام نضال خليل، فإن الرقابة على الرسوم الكاريكاتورية في سورية تتبع منطقاً ليس من السهل فهمه: “فأنا مثلاً رسمت العديد من الشخصيات السياسية في الحكومة السابقة. حقيقة خوفي لا يأتي من رسم الشخصيات السياسية، بل من حاشية هؤلاء الذين غالباً ما يكونون ملكيّون أكثر من الملك، وحراس على كل عمل إبداعي قد يفسرونه ويؤولونه كما يشتهون.” ويرى خليل بأنه ليس من الضروري أن يرسم رئيس الجمهورية حتى يصير حراً: “أحياناً فنان الكاريكاتور يرسم تفصيلاً صغيراً ذا حساسيةٍ اجتماعيةٍ قد يخلق أزمةً كبيرةً في البلد كله، قد أرسم تحرش بائع جوال بامرأة خدش حياءها، قد تتحوّل من هذا المستوى العابر إلى قضية رأي عام.”
ويتوقع الفنان فارس قره بيت أن ينتعش فنّ رسم الكاريكاتور في سورية إذا تغيّر المشهد الصحفي بشكل جذري: “أنا أعتقد عندما يصبح لدينا صحافة تعتمد على شباك التذاكر، أي على مبدأ الربح والخسارة، وتقوم الجريدة بالبحث عن فنان الكاريكاتور الموهوب، وتدفع له أجراً محترماً يليق بطبيعة الفن الصعب الذي يقدمه للجمهور، عندئذٍ سيصبح لدينا مساحة جيّدة لفن الكاريكاتور. عندها نخرج من دوامة الإعلام الخشبي الذي لا يلقي بالاً لمسائل التوزيع والتسويق والربح والخسارة، كون الدولة تتحمل كل هذه الأعباء وكلّ هذا الكمّ من الهراء في جرائدها.”