مراجعات كتب

رغبة «الكائن» كما يرويها خليل النعيمي/ محمد برادة

 

 

في روايته التاسعة «قصاص الأثر» (المؤسسة العربية، بيروت – عمان)، يعود الكاتب السوري المقيم في باريس خليل النعيمي إلى رصد «الكائن» عبْر رحلة ذات خصوصية، تمتدّ من الكهولة إلى الموت، بحثاً عما يعطي الكينونة َمـعناها المتجلّي في رفض ما هو قائم والتمرد على الموروث المُهترئ،على نحو ما قرأناه في روايته السابقة «تفريغ الكائن». إلا أن «قصاص الأثر» في شكلها وحواراتها الداخلية الطاغية المندرجة في دائرة التخييل الذاتي، تأخذ ملامح خاصة باتجاه الترميز والمحكي الشعري، ما يتيح تأويلات مفتوحة للنصّ.

يطالعُنا بناء «قصاص الأثر» من خلال فقرات تُكوّن 152 مقطعاً يسردها راو عليم من خلال ضمير الغائب مع تبئير ملتصق بالزوج المكلوم الذي يقرر الرحيل بعد أن أصبحت علاقته الجنسية والعاطفية مع زوجته متوترة غير قابلة للاحتمال. لا يحمل الزوجان أي اسم، والأحداث المتصلة بـ «حاضر» الرواية محدودة، والطابع الغالب هو الوصف والاستبطان التحليلي لما يصطخب بين جدران «ذات» الزوج المهجور. كأنّ السارد العليم يتوسّل كاميرا بطيئة الحركة لوصْف المشاهد الخارجية، وفي الآن نفسه يفسح في المجال أمام الزوج ليُفضيَ بما يعتمل داخل نفسه الغارقة في مشاعر الألم والحنين ومتاهة أسئلة الوجود…

أما مسار الرواية وأحداثها المحدودة، فتقوم على رحلة مُعاكسة يقوم بها الزوج انطلاقاً من «حاضر» الخيبة والخذلان، مُيمماً صوْبَ الماضي المشرق، حيث أرض الطفولة في بادية الجزيرة المعانقة نهرَ الخابور، وحيث منبع الذاكرة الممتلئة بذكريات مضيئة عن مغامرات الحب واكتشاف المعرفة، وتذوّق طراوة الجسد الأنثوي… يتسلل الزوج إذاً، عند مطلع الفجر من دون أن يخبر زوجته بمقصده، متوجها إلى أرض الطفولة علّهُ يجد فيها ما يطفئ غضبه ويُعوّضه عن الحب الذي بدّدهُ صدأ المعاشرة ووطأة السنين.

وعلى امتداد الرحلة، يظل الزوج يجترُّ علاقته بزوجته، مُستعيداً ذكريات مشرقات مع أبيه، متخذاً من ثعْلب صادفه بين الأحراش، رفيقاً يحكي له تعاسته ويطلب منه النصيحة. وعندما يصل إلى نهر الخابور، يتعرّى ليغتسل ويسبح، فتفاجئه امرأة جميلة تترجّاهُ أن يُركبها ظهره لتعبر النهر، لأنها لا تحسن العوم. لم يستطع الزوج أن يقاوم الإغراء، فأوصلها إلى الضفة الأخرى، بحيث تلاحم جسداهما في ممارسة إروسية ولّدتْ حباً جارفاً عند امرأة النهر التي كشفت له أنها حفيدة العنقاء. لكن الزوج المجروح بخيبته في حب الزوجة، لم يستجب للغرام الجديد فرحلتْ المرأة متسللة، وتركته نائماً، ما أتاح لأفعى متجولة أن تلدغه لدغة مميتة. لما تفطنت الزوجة إلى طول غيابه، استعانت بـ «قصاص الأثر» للعثور على الزوج المختفي. وتكشّف البحث عن جثة الزوج ملقاة قرب ضفة النهر.

نلمس في هذا الإطار الحكائي ومكوناته، شكلاً أليغورياً يجمع عناصر واقعية وأخرى عجائبية، تفتح الباب أمام تدفق الرموز والدلالات، بخاصة بعد تعليق «قصاص الأثر» على موت الزوج، قائلاً لزوجته: «الرجل مات مرتيْن: مرة عندما هرب منك، ومرة عندما هربتْ هي منه». عندئذ نحسّ كأن هذه الرحلة التي تنبني عليها الرواية، تُعيدنا إلى خُطاطة محفورة في أرخبيل العواطف البشرية منذ أقدم العصور، وهي تلك الخطاطة التي تكشف تعقيدات الحب وعلائق العشق من جانب واحد، والتي طالما استوحاها الشعراء وكُتاب التراجيديا.

نهاية لا بداية بعدها

أكثر من عنصر في بناء «قصاص الأثر» (شكل الأليغوريا، التخييل الذاتي، الاستبطان التحليلي، كثافة اللغة…) يمهد السبيل أمام تعدد الدلالة وتبايُن مناحيها. لذلك، يصعب أن نركز على جانب واحد من دلالات النص. وما نؤثره هو إبراز ما يبدو لنا معبراً عن أزمة الكائن حين يفقد مقومات كينونته، ويجد نفسه في مهب الرياح نتيجة استعصاء لغزية أسئلة الوجود. ونسجل في البدء، أن السارد يلح على أن الزوج يؤمن بضرورة التناقض وبدور النقائض في تحريك عجلة الحياة: «كان يعتقد أن قوة الكائن تنبع من كونه لا يحتاج إلى أحد. وبتأثير حركات الثعلب الهيّاب، اكتشف أن «العكس تماماً هو الصحيح»، وأن الحاجة إلى الآخرين، حتى ولو كانوا «ثعالب»، هي أهمُّ مقومات الوجود. وأهمّ أنواع الحاجات هي «الحاجة إلى نقيض» (ص 31).

ومن هذا المنظور، سيحلل ما حلّ به من هجران الزوجة وانطفاء عاطفتها المشبوبة: «كل شيء يمكن أن يتحول إلى نقيضه، بما في ذلك الحب» (ص 144). ولكن، على رغم إقراره بالجدلية الفاعلة من وراء ستار، فإنه يسعى إلى استيعاب ما حدث في غفلة منه. فقد عثر على صورة له أيام الشباب، برفقة صديق، وكان الفرح والأمل يطفحان من نظرتيهما، فأخذ يقارن بين صورته بالأمس وما آلت إليه في حاضره: «إن كنتُ أنا، فعلاً، هو هذا الذي أراه في هذه الصورة من قبل، فمَن أنا الآن؟». هو لم يدرك في تلك اللحظة، لحظة انبثاق الصورة بين عينيه، أن مظهر الأسى والخذلان الذي يسمُ محيّاهُ اليوم، نابع مباشرة من تفتّت «حلم الحياة الذي لم يتحقق»، ولكن هل سيدركه قبل فوات الأوان»؟ (ص 47).

وفي سياق البوْح والاستبطان، يُـقرّ الزوج بأن ارتباطه بالحياة خضع كثيراً لشغفه بالجنس وتبجيل الإروسية في وصفها «جوهر الوجود»: «ربما كان ذلك النوم المنفرد والمُتعس هو سبب رحيله في الحقيقة، وليس كلمة: ابعدْ». انفصال جسدها عن جسده جعل روحه تجفّ، وأحشاءه تذوي. فالجسد «هو جسر الحياة الذي ينقلنا من بؤس الوجود إلى فردوس المتعة» (ص 43). إلا أن الإروس لا يستطيع أن يخلص الكائن من مآزقه، لأن «التاريخ الشخصي» يتحكم في توجيه خطواتنا وسلوكنا، ويدفعنا إلى الهاوية. مع ذلك، سرعان ما تبدو جميع هذه التعلات التي نلتمس عندها الخلاص، ضعيفة، هشـة، حين يتراءى الموت في الأفق: «ولن نكون إلا عاجزين عندما يملأ الخوف قلوبنا، ونحن نرى العدم الأسود يفغر فاهُ لابتلاعنا، ولا نستطيع لما حلّ بنا تبديلاً» (ص 93). كأنما الكائن المعتز بحريته وتمرده وشهوانيته، يكتشف فجأة أن إرادته أوهى من خيط العنكبوت، لأنها خاضعة لما يتعداها، إذ لا تستطيع أن تتحدى قوة العدم… وينتهي المطاف بالزوج، عبر استحضاره حياته وعلائقه العاطفية والتواصلية، إلى أن ما يتبقى في النهاية، هو «عنف اللغة» الذي لا ينفصل عن «عنف الحياة».

ويستدل على ذلك قائلاً: «حينما كانت الرغبة حاسمة ولا ترتوي، لم نكن بحاجة إلى «اللغة» لنزيل آثار السوء. كان أحدنا يفيض في الآخر فيضاً، يشبه الفيْض الصوفي (…) أما اليوم، بعد أن حلّ «صمتُ الجسد بعد صمت اللسان»، فغدا الانفصال عن الآخر، أو الاتصال معه، معتماً ولا مرئياً (…) فسيطرت اللغة العنيفة التي هي التعبير الأسمى عن ذلك النضوب، على كل شيء فينا، حتى صرنا نعتقد أننا من المرمر خُلقنا، وليس من الطين» (ص 99). وعندما يتابع الزوج المتفلسف تأملاته، يقرر أن «الكائن الذي يتحرك داخلنا يعرف أن مشروعه الشخصي هو تاريخه الآتي، وليس الماضي، أياً كان شأنه» (ص 100). ولم يقتنع بذلك، فأنقذته خاطرة طارئة: «وفجأة خطر له أن ما يبحث عنه لم يعد موجوداً (…) هذه الخاطرة المباغتة لم تشكل له عزاء فقط، إنما صاغتْ له «رؤية جديدة» لعالم صار «قديماً» (ص 161). على هذا النحو، يفك الزوج ألغاز الأسئلة التي قضّت مضجعه وهو يستعيد لحظات أساسية في مسار حياته منذ الطفولة إلى ساعة الانفصام عن الزوجة والرغبة الجنسية والحياة. وعلى رغم جمال التأملات وعمقها، يبدو «الكائن» فاقداً للبوصلة، منسحقاً تحت وطأة الأسئلة.

لكن هذه الرحلة الموغلة في التأمل والاستبطان التي يأخذنا إليها خليل النعيمي في روايته «قصاص الأثر» لا تكتمل إلا من خلال الانتباه إلى اللغة التي يتوسل بها للتعبير عن هذه التجربة الوجودية التي يستقطرها من تجربة الحياة. إنها لغة تجمع بين الكثافة الشعرية، والتصادي مع لغة الكلام في بادية الجزيرة، إلى جانب ابتداع كلمات لا تطابق تحديدات القاموس، ولكنها تنقل الصوت المعبّر، أو تؤثر المأثور والراسخ في الذاكرة بدلاً من القاعدة، على نحو ما لجأ إليه من تأنيث كلمة ّالماء «وفاءً لاستعمالها في أرض طفولته. والتجريب في لغة الرواية إثراء لها، على نحو ما أنجزه النعيمي. ومن ثم، فـإن قيمة «قصاص الأثر» لا تقتصر على متعة تلاحُم التخييل الذاتي بالمرموزة الفلسفية، بل تتعدى ذلك إلى متعة الكتابة وانتقاء اللغة الدقيقة، الموحية.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى