رهان دمشق فشل في طرابلس
عثمان ميرغني
لم تكن المسلسلات التلفزيونية هي الشاغل الأكبر للناس في رمضان هذا العام كما كان الحال في الأعوام السابقة. فالعالم العربي كان مشدودا لمتابعة أخبار الانتفاضات والثورات، خصوصا تفاصيل المشهدين الليبي والسوري حيث بلغت المواجهة ذروتها بين المطالبين بالحقوق والحريات والتغيير، وبين أنظمة أثبتت أنها لا تتورع عن أي شيء في سبيل التشبث بسلطة زائلة. وإذا كان الليبيون يحتفلون بإطلالة العيد وسط أجواء فرح بتحقيق انتصارات مهمة جعلتهم يقتربون من إكمال ثورتهم، فإن عيد السوريين لم يعرف الفرحة مع استمرار عمليات القمع والتنكيل، وإصرار النظام على لغة وحيدة في مواجهة الاحتجاجات، هي لغة الرصاص والبطش.
المشاهد الاحتفالية بدخول قوات الثوار إلى طرابلس لم تفسدها إلا صور القتلى وقصص الإعدامات التي نفذتها قوات القذافي قبل اندحارها وهروب فلولها واختفاء العقيد. فكم كان بشعا ومؤلما منظر الصور التي عرضتها القنوات التلفزيونية لبقايا جثث محروقة وعليها آثار إعدام بالرصاص عثر عليها في مبنى كانت كتائب القذافي تستخدمه كمركز اعتقال في أحد أحياء طرابلس. لم تكن تلك الجريمة الوحيدة، فقد وثقت منظمات حقوقية حتى الآن جرائم قتل لعشرات المعتقلين الذين قامت كتائب القذافي بإعدامهم قبل انسحابها من مواقعها أمام تقدم الثوار في طرابلس.
لقد كان واضحا منذ الأيام الأولى للثورة الليبية أن نظام العقيد سيمعن في القمع والتنكيل، ولن يتوانى عن ارتكاب أبشع الجرائم في مواجهة المنتفضين ضده. فالقذافي حدد معالم الصورة الإجرامية منذ خطابه الأول الذي دعا فيه إلى «سحق الجرذان». كذلك فعل ابنه سيف الإسلام الذي كان يطمح في وراثة عرش والده، عندما هدد الليبيين بأنهر من الدماء في كل مدن ليبيا «وبدل أن نبكي على 84 قتيلا (كان يقصد قتلى الأحداث التي فجرت الانتفاضة في بنغازي) ستبكون على مئات الآلاف من القتلى»، على حد قوله.
لم يكن هناك شك في أن نظام العقيد سيمارس أقصى درجات جنونه، ويرتكب أسوأ الفظاعات في سبيل التشبث بسلطة لم يشبع منها بعد 42 عاما. فقد رأينا مبكرا ملامح من الدمار والتخريب والقتل الذي ارتكبته كتائب القذافي عندما دخلت إلى مدينة الزاوية، إذ لم تتورع هذه القوات حتى عن إزالة القبور بالجرافات. كما رأينا بعد ذلك آثار القصف العشوائي لمصراته واستخدام القناصة لمنع الناس من الحركة. فسياسة النظام كانت الانتقام من كل المدن ومن كل أفراد الشعب الليبي الذين ثاروا ضده، وهكذا تكررت عمليات الحصار للمدن وقصفها وقطع الماء والكهرباء عن سكانها.
الثوار يقولون إن قوات القذافي اعتقلت أكثر من خمسين ألف شخص منذ بدء الانتفاضة، وإنهم تمكنوا من إطلاق سراح نحو عشرة آلاف ويبقى مصير الكثيرين غير معروف. فبعض المعتقلين تمكنوا من الهروب من معتقلات القذافي بينما كان الثوار يحكمون قبضتهم عليها، وهناك مئات عثر على جثثهم بعد أن أعدمتهم كتائب النظام قبل أن تهزم أو تنسحب، لكن يبقى كثيرون في عداد المفقودين حتى الآن مما يثير المخاوف من العثور على مزيد من المقابر الجماعية التي خلفتها قوات النظام.
المفارقة أن المنتمين إلى كتائب القذافي الذين وقعوا في أيدي الثوار قالوا لصحافي من وكالة رويترز للأنباء تمكن من زيارة مكان اعتقالهم في أحد أحياء طرابلس إنهم يأملون في أن يتلقوا معاملة حسنة، وأن تكون هناك ليبيا جديدة تحترم حقوق الإنسان! لو يتذكر الذين يستبدون، والذين يعذبون ويقتلون الأبرياء، أن الأيام قد تدور عليهم، لما ارتكبوا تلك الفظائع والتجاوزات. لكن السلطة تفسد، والقوة قد تعمي، وأنظمة الاستبداد تنتج في العادة أجهزة أمنية وعسكرية تسودها ثقافة قمعية همها تخويف الناس وإخضاعهم.
نجاح الثورة الليبية وصمودها في وجه كل أدوات القوة والبطش التي استخدمها نظام العقيد يبعث برسالة إلى النظام في دمشق، خصوصا أن هناك تقارير عديدة تحدثت عن دعم سوري في البداية لنظام العقيد القذافي في مواجهته ضد شعبه. فإذا كان النظام السوري يأمل في أن يرى سياسة القمع والقوة تنجح في وضع حد للثورة الليبية، فإن آماله خابت ولعله يستوعب الدرس، وإن كانت التجارب تدل على أنه ليس هناك من يريد أن يتعلم أو يرغب في فهم رسالة الشعوب المنتفضة والمطالبة بالتغيير.
فعلى الرغم من رؤيته لنظام القذافي وهو يتهاوى ويترنح، يصر نظام الأسد على مواصلة رهانه على سياسة القمع والبطش والتنكيل لوضع حد للانتفاضة الشعبية. فقد سارع النظام للرد على دعوة الجامعة العربية لوقف إراقة الدماء ووقف إطلاق النار على أبناء الشعب والاستماع إلى مطالبه المشروعة، بالهجوم على الموقف العربي واعتباره البيان غير ذي قيمة «وكأنه لم يكن». وبذات العقلية التي اعتبر بها انتفاضة شعبه مؤامرة، وصف النظام الموقف العربي بالتدخل المرفوض في شؤونه الداخلية.
أين يترك ذلك الوضع السوري؟
الواضح أن سوريا مقبلة على أيام صعبة، فتعنت النظام سيرفع من حدة المواجهة مع الشعب المنتفض، وسياسة القمع والتنكيل ستعني وقوع المزيد من الضحايا وحدوث المزيد من الاعتقالات مما يزيد من حالة الاحتقان ويوسع الهوة بين النظام والشعب. وبعد سقوط نظام القذافي فإن أنظار العالم ستكون مركزة على سوريا ومتابعة تطوراتها، خصوصا مع التحركات لتشديد العقوبات على النظام في دمشق وتضييق خناق العزلة عليه. في مقابل هذه العزلة فإن النظام سيكون في وضع أصعب خصوصا أن الشعب السوري الذي أكد حتى الآن تصميمه على مواصلة انتفاضته، سيجد دعما معنويا كبيرا من مشاهدته للثوار الليبيين يحتفلون في طرابلس بسقوط نظام آخر راهن على القمع والقوة وفشل.
الشرق الأوسط