رواية المرأة: هل هي متأخرة أم مهمشة؟/ علياء تركي الربيعو
في كل عام، ومع اقتراب موسم إعلان جوائز الرواية العربية، يدور نقاش حول إدراج أعمال الروائيات على القائمة الطويلة أو القصيرة للمرشحين للفوز بجوائز الرواية العربية. على مدى السنين القليلة الماضية، لاحظنا تحسناً في إدراج أسماء لروائيات ضمن قوائم الجوائز. كما شهدنا قفزة نوعية متمثلة بمشاركة أربع نساء ضمن لجنة التحكيم لجائزة البوكر وللمرة الأولى لهذا العام، ولكن حتى هذا الأمر لم يسهم في زيادة عدد الروائيات المرشحات للجائزة، بل على العكس حدث تراجع. ففي القائمة الطويلة لجائزة البوكر لهذا العام ومقارنة بالسنوات الماضية، كانت هناك رواية واحدة فقط لروائية “زرايب العبيد” نجوى بن شتوان والتي استطاعت أن تصل إلى القائمة القصيرة أيضا، بينما الروايات الأخرى كانت لروائيين.
وإذا ألقينا نظرة على واقع الجوائز العربية في العقد الأخير، نرى بأنه لم تفز سوى تسع روائيات بجوائز الرواية العربية مقارنة بعشرات الروائيين، ففي جائزة البوكر فازت روائية واحدة حتى الآن، وهي رجاء عالم عن روايتها طوق الحمام” 2007، أما جائزة كتارا للرواية العربية فقد فازت بها إيمان حميدان عن روايتها “خمسون غراما من الجنة” 2016، ومنيرة سوار عن روايتها “جارية” 2015، وناصرة سعدون “دوامة الرحيل” 2015. بينما قُدمت جائزة الطيب صالح لروائيتين وهما هجيرة جويدري بوزيد “نورس باشا” المركز الثاني، وتوفيقة علي محمد خضور “سأعيد إنجاب القمر” المركز الأول. وتميزت جائزة نجيب محفوظ، بمنح جائزتها لكل من: لطيفة الزيات عن روايتها “الباب المفتوح” 2016، أمينة زيدان “نبيذ أحمر” 2007، ميرال الطحاوي “بروكلين هايتس” 2010.
وهذ الأمر يثير تساؤلات معينة: لماذا لا نشهد تزايداً لأعمال الروائيات في قوائم المرشحين للفوز بجوائز الرواية، هل فعلا ما تزال الرواية النسوية غير متمكنة جمالياً، أو أنها لا تنافس الرواية التي يكتبها الرجال كما يرى بعضهم؟ وهل يعقل أن تكون الروايات التي ألفتها النساء ليست جيدة بالقدر الكافي لتؤهلها للفوز بشكل أكبر بجوائز عربية؟ وكيف نرى الرواية النسوية أو الرواية التي تكتبها المرأة اليوم؟
لطيفة باقا:
الرجال في الأدب تلقوا وروداً أكثر والنساء لم يتلقين العدد ذاته
كنت أجيب كلما وصفت بـ”الكاتبة” أنني أرى نفسي امرأة تكتب ولا أرى نفسي كاتبة… لسبب بسيط هو أن شرط الكتابة كما حددته “فرجينيا وولف” في مقالها المعروف “غرفة خاصة بالمرء” لم يتحقق (وربما، لهذا السبب، سيكون عنوان كتابي الأخير غرفة فرجينيا وولف) هذا الوضع لم يمنع النساء من الكتابة، ولم يمنعهن من التفوق فيها، بل أحيانا تكون نصوصهن أكثر جودة وأكثر إدهاشا. الجوائز بشكل عام تشبه تلك الوردة التي نلقي بها لشخص بعيد كي نقول له إننا سعداء بمروره في حياتنا… الورود تُقذف أحيانا في الاتجاهات الخطأ ويتلقفها الأشخاص الخطأ. كما يحصل في الحياة يحصل في الأدب. الرجال في الأدب تلقوا ورودا أكثر والنساء لم يتلقين العدد ذاته. هل غابت المناصفة هنا؟ شخصياً لا أعتقد أن هناك حيفاً ذا طابع جندري في هذه القضية، هناك أشكال أخرى من الحيف، لكن ليس الحيف على أساس الجنس. الأعمال المنشورة لنساء هي أقل من تلك المنشورة لرجال… أما في ما يتعلق بالقيمة فأعتقد أنه بالنظر للوضع الذي تعيشه المرأة العربية فإن “حضورها” الثقافي شكل من أشكال النضال الذي ينبغي أن نثمّنه.
*روائية وقاصة مغربية
شكري المبخوت:
هل لكتابة النساء العربيّات خصوصيّة تميّزها؟
بعيدا عن الجوائز وما وراءها من تكريم أو تكريس لأسماء في محفل الأدب ليس لنا إلاّ أن نعاين تطوّر الروايات التي تكتبها النساء في العالم العربيّ. ويلمس هذا التطوّر في عدد الروايات التي تصدر في مختلف البيئات الحاضنة للثقافة العربيّة بروافدها المحليّة المختلفة. فثمّة داخل هذه البيئات تألّق للكاتبات الساردات اللاّتي يكشفن يوما بعد يوما عن حضور ما انفكّ يقوى لنصوصهنّ. ففي تونس مثلا حصدت أربع روائيّات جوائز الكومار الثلاث في السنة المنقضية مقابل روائيّ واحد (ذهبت الكومار الذهبي مناصفة بين نبيهة العيسي وآمنة الرميلي وانفردت بجائزة الكتاب الاكتشاف حنان جنان وكانت الجائزة التقديريّة مناصفة أيضا بين شادية القاسمي والمولدي ضو). لقد كانت دورة سنة 2016 لجوائز الكومار تحت برج المرأة بامتياز. ولكن هل يعني ذلك أنّ الرواية في تونس بصدد التأنيث؟ أم هي الصدفة التي تحكمها النصوص المتوفّرة في كلّ دورة وأذواق أعضاء لجنة التحكيم؟
من الثابت أنّ وراء هذا معطى اجتماعيّا ينبغي أخذه بعين الاعتبار. فالمسألة تطرح كذلك من جهة عدد الروائيّات اللاتي ينشرن مقارنة بالروائيّين. فمن المعلوم بداهة أنّ التناسب في مثل هذه المباريات الأدبيّة بين نسبة المشاركين ومنازلهم الاجتماعيّة واحتمالات “الفوز” قائمة بشكل من الأشكال. فمثلما يمكننا أن نتساءل عن حظ المرأة من الجوائز لنا أن نتساءل عن حظ الروائيّين الشبّان منها أو نصيب أصحاب الروايات الأولى أو أعمار الحاصلين عليها.
ومن البيّن أنّ دخول المرأة عموما عالم الكتابة، مهما أرّخنا له وذكرنا الرموز والأعلام، كان متأخّرا مقارنة بالرجال في مجتمعات ذكوريّة من حيث بنيتها يهيمن الرجال على مؤسّساتها وتطغى مشاركتهم على الحياة الثقافيّة عموما. فهذا أيضا خاضع لما تتيحه نسب المشاركة الاجتماعيّة والثقافيّة من احتمالات رياضيّة قابلة للعدّ والإحصاء. وأكبر ظنّي أنّ هذه النسب سائرة شيئا فشيئا نحو التغيّر في مجتمعاتنا العربيّة على اختلافها. وليس هذا من باب التخمين وإنّما تؤكّده إحصاءات ومؤشّرات عديدة علاوة على ما نعاينه واقعيّا.
فبعد أن بلغت نسبة تمدرس الفتيات في جلّ المجتمعات العربيّة النصف انتقلت الآن خصوصا في الجامعات إلى مرحلة يتجاوز فيها عدد الطالبات عدد الطلبة الذكور. وهو مؤشّر مهمّ يبرز بداية انتقال حقيقيّ يشمل مكانة المرأة ومشاركتها في مختلف مناخي الحياة. وعلاوة على هذا الجانب الكمّيّ فإنّ علامات تميّز الطالبات وتفوّقهن في مجالات كثيرة لا تخفى على الناظرين.
وإذا تخلينا عن النظرة الرومنسيّة للأدب باعتباره تفرّدا ومسارا شخصيّا غامضا ينبني على القدرة على التعبير عن الذات وهواجسها وأحلامها وانكساراتها ونظرنا إليه على أنّه مؤسّسة اجتماعيّة ودربة ومهارات تكتسب وممارسة إيديولوجيّة فإنّ في تطوّر مكانة المرأة خصوصا داخل المؤسّسة التعليميّة ما يدلّ على تطوّر مشاركتها في الحياة الثقافيّة بما في ذلك الإنتاج الإبداعيّ ومنه الرواية.
وليس هذا عندي من باب التفاؤل أو الانتصار للنساء وإنّما هو استقراء موضوعيّ يرتبط بما لاحظناه من تناسب بين عدد الإصدارات الروائيّة النسائيّة واحتمالات التفوّق.
لكنّ للتفوّق في المباريات الأدبيّة والجوائز جانبا نوعيّا يتعلّق بالإجابة عن السؤال التالي: هل لكتابة النساء العربيّات خصوصيّة تميّزها وتجعلها “تنافس” السرد الذي يتعاطاه الرجل؟
يخفي هذا السؤال قضايا عديدة. فالأدب الروائيّ جنس منفتح ولا ريب، بل هو جنس ما فتئ يؤكّد قدرته الاستثنائيّة على التحوّل الداخليّ واستيعاب أشكال من القول متعدّدة قد لا تبدو لأوّل وهلة منه. بيد أنّ هذه النظرة لا تكتمل إلاّ إذا اعترفنا بأنّ لهذا الجنس قواعد وسنناً مهما وسعنا منها وتحدثنا عن العدول والخروج عن السبل المسطورة. فمناقضة قواعد الجنس إن هي إلاّ تنويع على تلك القواعد نفسها.
ودون الدخول في تجنيح نظريّ لا يمكن في ظنّنا تقييم روايات النساء إلاّ في نطاق أمرين يبدوان متناقضين وإن كانا عندنا متكاملين. أحدهما هو مدى استجابة ما تكتبه النساء لقواعد الفنّ الروائيّ دون الوقوع في مما هو من السرد وإن لم يكن من الرواية كالخواطر والتأمّلات والاستطرادات والكتابة المفرطة في التزويق الشعريّ على حساب صياغة الحبكة وتنظيم الأحداث وبناء الشخصيّات… إلخ. وإحقاقا للحقّ فإنّ هذه العلل التي نجدها في كثير مما يكتب من روايات عندنا لا تختصّ بها روايات النساء وإن لم تخل منها. والآخر هو ما تتألّق به الروايات من “عفويّة” و”انسياب” يمنحانها، في ضرب من البصمة الشخصيّة، قدرة على إخفاء القواعد والسنن والخروج عن المألوف. ولا نقصد هنا ما يعبّر عنه بالجرأة في تخطّي الممنوعات والتعبير عن رؤية الأنثى للأشياء وللعالم ولنفسها، وأنا ممّن يعتقدون حدسا وخبرة محدودة لا محالة أنّ بين النظرتين الأنثويّة والذكوريّة فروقا، بل نقصد الأسلوب السرديّ والمقاربة الروائيّة أي ما به تكون الرواية متفرّدة فعلا. وفي هذا يكمن اختلاف التقييم الذي قد يمنح روايات النساء ما به تتفوّق على روايات الرجال.
واعتقادي أنّنا سنشهد في مستقبل الأيّام تزايدا كمّيّا للروايات التي تكتبها النساء بما سيؤهّل عددا منها لأن تكون في قائمات المرشّحين للفوز بجزء من الجوائز المختلفة. ولكنّني لا أظنّ أنّ الأمر يكمن في وجود جماليّات خاصّة بالرواية النسائيّة أو الرجاليّة، بل بالأسلوب الذي ستكون عليه بعض الروايات ذات البصمة النسائيّة ومدى قدرتها على المفاجأة والتجديد الأدبيّ وتوظيف خصوصيّة المقاربة الأنثويّة للعالم والتعبير عنه تخييليّا. فثمّة قرائن عديدة في ما تكتبه النساء العربيّات اليوم على أنّ السير في هذه الطريق مفض لا محالة إلى موقع أكثر تميّزا وتألقا للرواية النسائيّة.
فإذا أردنا إبرازاً أكبر للروايات النسائيّة فإنّ إحداث جائزة للرواية التي تكتبها المرأة سيكون من باب التمكين لها وإتاحة الفرصة أمام الناشرين والقرّاء للتعرّف على النصوص المتميّزة منها على نحو أفضل شريطة ان تكون جائزة بأفضل المواصفات العالميّة في تنظيم الجوائز الأدبيّة وتقوم على رؤية تقدّميّة تناسب الجيّد ممّا تكتبه نساؤنا في العالم العربيّ.
*روائي وأكاديمي تونسي
منصورة عز الدين:
كتابة المرأة حاضرة لكنها غير ممثلة في الجوائز
أرغب أولاً في تأكيد أن الحصول على الجوائز من عدمه ليس معياراً ملائماً للحكم على جدارة العمل الأدبي، فهناك أعمال مهمة جداً قد لا يلتفت إليها النقد أو الجوائز، كما أن هناك كتّاباً وكاتبات يمتنعون بإرادتهم عن تقديم أعمالهم للجوائز. ومن يتابع ما يُنشَر جيداً سيلاحظ أن الجوائز العربية ليست ممثلة جيدة لثراء المشهد الأدبي العربي وتنوعه والتيارات المختلفة الموجودة به. يمكنني المجازفة بقول إن معظم الجوائز العربية مشدودة أكثر للأعمال ذات الصلة المباشرة بالواقع السياسي والاجتماعي أو تلك التي تعبر عما يُطلّق عليه “أهوال الواقع” وقضاياه المباشرة، وهناك مقاطعة تكاد تكون تامة للأعمال التجريبية.
لكن في ما يخص كتابة المرأة (واسمحي لي باستخدام هذا المصطلح بدلاً من الكتابة النسوية، لأن ليس كل الكاتبات يكتبن أدباً نسوياً، كما أن الأدب النسوي قد يكتبه رجال) المسألة تتعدى توجهات الجوائز وتفضيلات لجان تحكيمها، إذ يحكمها أيضاً عدد الروايات المكتوبة بأقلام كاتبات والمشاركة في كل دورة. ويكفي النظر إلى هذه الأرقام الخاصة بجائزة البوكر العربية، ففي دورتها الأولى (2008) بلغ عدد الروايات المشاركة والمكتوبة من جانب نساء 20 رواية من مجمل 128 رواية مشاركة في الجائزة (15 %).
وفي عام 2009: 16 رواية من مجمل 104 روايات (15 %).
وفي 2010 : 21 رواية من مجمل 117 رواية (17 %).
وفي 2011: 31 رواية من مجمل 113 رواية (27 %) وهي أعلى نسبة خلال الفترة الزمنية التي أشير إليها، واللافت للنظر أن ذلك العام شهد وصول سبع كاتبات للقائمة الطويلة وفوز الكاتبة رجاء عالم بالجائزة مناصفة مع الكاتب المغربي محمد الأشعري.
في 2012: 13 رواية من مجمل 101 رواية (13 %).
في 2013: 19 رواية من إجمالي 133 رواية (15 %).
وفي 2014: 33 من إجمالي 156 رواية مقدمة للجائزة (21 %).
أما في 2016: فـ 39 رواية من إجمالي 180 رواية (22 %).
وفي دورة 2016: 38 رواية من إجمالي 159 رواية (24 %).
أما مشاركة النساء في جائزة كتارا في دورتها الأولى فوصلت إلى 157 رواية من مجموع 711 رواية بنسبة 22%.
وعن نفسي لا أرى أن الأرقام السابقة تعبر عن الحضور الفعلي للمرأة الكاتبة في العالم العربي، لكنها أكثر من دالة على نظرة الناشرين ودرجة تقديرهم لما ينشرونه من كتابات المرأة، وهذا أمر لافت جداً للنظر ومثير للأسئلة.
لا أقول إن كل ما تكتبه المرأة جيد، كما لا أحكم على أي عمل بناءً على جنس كاتبه، فالجودة الأدبية يجب أن تكون هي معيار الحكم على الأعمال الأدبية بغض النظر عن جنس الكاتب أو جنسيته أو مواقفه السياسية، فقط أقول إن كتابة المرأة حاضرة ومؤثرة في المشهد الأدبي، لكنها غير ممثلة بما يكفي في الجوائز. وكلامي هذا لا ينبع من شكوى شخصية، فأعمالي فازت بجوائز وتُرجمَت للغات عديدة.
* روائية مصرية
هيثم حسين:
الوسط الثقافي يعيش محسوبيات
أجد أنّ من الخطأ ربط القيمة الإبداعيّة لما تقدمه المرأة بالجوائز التي تمنح لها، لأنّ للجوائز معاييرها الخاصّة، تلك التي لا يفترض بالضرورة أن تكرّم الإبداع بحدّ ذاته ولذاته، فقد تتصدّر محسوبيّات وأسباب ودوافع أخرى، وتدفع إلى التتويج بهذه الجائزة أو تلك، لذا من الإجحاف بحقّ الإبداع النسويّ تقييده باعتراف لجنة تحكيم هنا أو هناك، ومن الإجحاف اقتصار التميّز على روايات لوائح تفرض على القرّاء واعتبارها مقدّسة تصدّرت مئات العناوين الصادرة في سنتها.
أعتقد أنّ الحديث عن زيادة نسبة أو حصّة للروائيات في الجوائز يحتمل حديثاً عمّا يشبه “الكوتا” النسائيّة، وهذا ما يتنافى مع مفهوم الإبداع بإطلاق، ويضع المرأة المبدعة في منافسة غير متكافئة، أو خاسرة مسبقاً، لأنّها مقيّدة، ولأنّها ستصبح طرفاً في معادلة المحاصصة، لا الجدارة والاستحقاق المفترضين، والمحاصصة في الإبداع باعثة على الشفقة. وحتّى وجود نساء في لجان التحكيم ليس دليلاً على أنّ المرأة يمكن أن تصدّر المرأة، فقد يحدث العكس، ولا يخفى على المتابعين ما يعيشه الوسط الثقافيّ من محسوبيّات وفساد معشّش، وقد تقف امرأة ضدّ إبداع امرأة، وقد تساهم في تهميشها أو إقصائها.
لا يتعلّق الأمر بتمكّن جماليّ أو تميّز كتابيّ إبداعيّ بقدر ما يتعلّق بكثرة “رجالية” مقابل الكثرة “النسائية” المفترضة، كما أنّه لا يتعلّق بربط بعضهم الرواية التي تكتبها المرأة بطباع ملصقة بالمرأة، من قبيل الإكثار من الثرثرة، ومحدودية السقف الإبداعيّ، والتشتّت في تحبيك العمل، وكأنّ هذه مزايا ذكوريّة بحتة، في حين أنّنا لو حاولنا إجراء مقاربة بسيطة لواقع الحال، يمكن اكتشاف موازاة في تصدير أعمال لا تعدّ من بين أفضل أو أبرز ما كتب في حينها.
على سبيل المثال، هناك روايات ذات مستوى متواضع فازت بجوائز، سواء كانت جائزة البوكر أو كتارا أو نجيب محفوظ، ويكون تواضعها قاسماً مشتركاً في روائيين وروائيات، ولا يقتصر على طرف بعينه، أي هناك نوع من عدالة تصدير أعمال لأسماء بعينها.. مثلاً رواية المرأة الوحيدة التي فازت بالبوكر مناصفة “بنصف البوكر إذا جاز التعبير” مع رواية محمد الأشعري حتّى الآن كانت “طوق الحمام” للسعودية رجاء العالم، ومن وجهة نظري هي رواية مليئة بالحشو والثرثرة ويمكن اختصارها إلى نصف حجمها من دون أن يتغيّر مسار الأحداث كثيراً، وكأنّ البحث عن القيمة يتمثّل في زيادة الصفحات، وربّما يكون التتويج بناء على الاسم أو على أعمال سابقة أكثر تميّزاً لها، وبمقارنتها مع رواية “ترمي بشرر..” المتوّجة بالبوكر لمواطنها عبده خال فنجدها ذات مستوى فنّيّ بائس أيضاً، ومن المثير للاستغراب تصديرها على أنّها أفضل رواية في تلك الدورة، ويمكن كذلك حذف عشرات، إن لم نقل أكثر من مئة صفحة وأكثر منها من دون أن يحدث تغيير يذكر على مجرياتها وحبكتها، وهنا الثرثرة والحشو مشابهان لما جاء في “طوق الحمام”.
الرواية بشكل عام تعيش فترة مميّزة من ناحية التركيز الإعلاميّ والدعائيّ والتسويقيّ عليها، وهذا البريق قد يعمي بعضهم، أو بعضهنّ، بالانكباب على النشر من دون تدقيق، وكأنّ الاسم وحده يكفل التصدير، ويكون من الخطر الانسياق وراء الضجيج المفتعل والبريق المضلّل، لأنّ من شأن ذلك الدفع إلى إنتاج أعمال لا ترتقي للمستوى المأمول، وهنا تتحوّل الجوائز وتواقيتها إلى قيود قد تضيّق مساحة حريّة الروائيّ أو الروائيّة وتجبره على دفع عمله قبل نضجه أملاً في ثمار محتملة. لذا فالمسألة لا تتعلّق بالرواية التي تكتبها المرأة، بقدر ما تتعلّق بعالم الفنّ الروائيّ ككلّ.
*ناقد وروائيّ سوريّ مقيم في بريطانيا
لمى سخنيني:
النص النسوي ما يزال يخضع للرقابة
إذا كانت المرأة لم تصل إلى الجوائز العالمية أو المحلية فذلك نتيجة حتمية لوضع المرأة الحالي في المجتمعات العربية ولنظرة المجتمع القائم على أسس وتقاليد ذكورية في أغلب الأحيان. فالنص النسوي (كما يحلو للنقاد تسميته) ما يزال يخضع لكثير من الرقابة من قبل النقاد على استحياء ومن قبل القراء بشكل أوضح. فالأحكام السائدة على هذه النصوص تتراوح ما بين عدم نضوجها فنيا إلى وجودها الدائم في فلك الرجل. وقد يصل النقد إلى محاكمة صورية للروائية. فالروائيات العربيات وحسب نظرة القراء لهن، لا يتمتعن برؤية واضحة عن مشاكل المجتمع العربي سياسية كانت أو اجتماعية، وبعدم كفاءتها للإنتاج والمعرفة. ففكرة تأنيث الأدب ووصفه بالنسوي، يقلل من قيمته الفنية والمهنية. بالإضافة إلى نعت المرأة بأنها كائن عاطفي يستغل عواطفه لبناء النصوص الفنية التي تفتقر للمصداقية، بينما يكون الرجل أكثر قدرة على صياغة أفكاره بطريقة ثورية تسعى إلى إعادة بناء هذا العالم، وإعادة سرد التاريخ القديم بصورة موضوعية. كما أنه يجري اتهامها بأن علاقتها مع الرجل والتي قد تبنى على الكراهية والمنافسة والرغبة الملحة في المساواة، هي المحرك الأول للرواية أو للنص الأدبي. فتكون النتيجة لكل هذه الأحكام المسبقة والآراء تهميش هذه النصوص وتجاهلها. فالنقاد والقراء يتناسون بأن للمرأة وضعاً مهماً في مجتمعها ولها صوتها الخاص اجتماعيا وسياسيا. ولكن ما أن ترفع صوتها مطالبة بحقها أو معربة عن قضية اجتماعية حساسة حتى تتهم بالانحلال الأخلاقي أو بالكفر في أحيان كثيرة. فلذلك نجد كثيراً من الكاتبات العربيات يتحفظن في التعبير عن مشاعرهن الحقيقية ويوارينها خلف غلائل من الرموز والاستعارات اللفظية أو الصورية. ومع ذلك فالنصوص الروائية التي كتبتها روائيات تؤكد أن النساء العربيات كن وما زلن يعشن بشكل فعال في مجتمعاتهن ومنخرطات في مصائر شعوبهن العربية.
تجربتي الروائية، جاءت من خلال تجربتي العلمية، فرفضي لتأنيث الأدب كان بنفس قوة رفضي تأنيث العلوم. فتجربتي كباحثة لي مكانة علمية مرموقة ومحاضرة للفيزياء على مدى سنين عديدة، شكلت لي صوتا علميا مسموعا وصوتا روائيا قويا. فمن خلال عملي واحتكاكي الوثيق بالطلاب والطالبات وزملاء وزميلات العمل شاهدت كيف يمكن لصوت المرأة أن يقمع، بأساليب قهر متعددة الأشكال. فالمجتمعات العربية مجتمعات قاسية، تصل أحيانا إلى حد العنصرية الطبقية والاجتماعية. فمجتمع متناحر على خلفيات متعددة يشكل عبئا على الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة. فمن وجهة نظري أي محاولات لفرض الهيمنة الفكرية والاجتماعية على المرأة يمكن أن تؤدي إلى عزوفها عن الإبداع بشكل عام وعن كتابة الأدب بشكل خاص، فنرى الأديبات العربيات مقلات بإنتاجهن الإبداعي، والعالمات العربيات قد أنهكن من محاولات فرض الذات. كما أن الجمعيات التي تعنى بأمور المرأة العلمية والأدبية والتي شكلت على هامش الجمعيات العلمية والأدبية العالمية، فشلت في مهامها الاجتماعية والعلمية وأصبحت تؤكد الصبغة “النسوية” على العلوم والآداب. فأي محاولة “لنسونة” الأدب قد تؤدي إلى تجريده من حقوقه الأدبية والجمالية التي تليق به. وبالرغم من كل هذه العوائق فقد تمكنت العديد من الأديبات العربيات المتميزات بصناعة أصوات خاصة بهن، وهن بكل تأكيد يملكن الكفاءة المهنية والجمالية الكافية للحصول على الجوائز الأدبية العربية.
*روائية وأكاديمية بحرينية
ماهر الكيالي:
الرواية النسوية غير متمكنة جمالياً
في الواقع تشهد الساحة الأدبية وعالم النشر تزايداً ملحوظاً في أعداد الأعمال الروائية التي تكتبها النساء ويجري ترشيحها للفوز بجوائز الرواية. غير أنه من الملحوظ أن عدد الروائيات بصورة عامة أقل بكثير من عدد الروائيين. وهذا ينطبق على العديد من البلدان العربية. المجتمعات العربية مجتمعات محافظة وهذا ينعكس على النتاج الأدبي عموما. أوافق أن الرواية النسوية غير متمكنة جمالياً كما أن منافستها للرواية الذكورية محدودة.
هناك اختراقات نسائية سواء من حيث المضمون أو الشكل وتحاول الروائيات في الكثير من الأحيان تطوير أدواتهن وأسلوبهن أو التطرق إلى مواضيع جديدة في كتابتهن الروائية.
نحن في المؤسسة العربية للدراسات والنشر رشحنا عدداً من الروائيات لنيل الجوائز الأدبية اذكر منهن: ناصرة السعدون والتي فازت بجائزة كتارا في دورتها الأولى، حزامة حبايب، هدية حسين ، ميسلون هادي ، بسمة النمري.
*مدير عام المؤسسة العربية للدراسات والنشر
بسمة الخطيب:
الدفاع عن كل ما تكتبه النساء لأنهن نساء هو أمر يظلمهن
الحقيقة أني لا أملك جواباً. أنا شخصياً لا أفهم آلية عمل معظم الجوائز الأدبية العربية. يقال في الإعلام وتدّعي تلك الجوائز أن لها معاييرها ونظامها الداخلي وقوانينها الفنية والأخلاقية، ولكن حين نتابع مسار عملها وآليات التطبيق لا نعثر على هذه الادعاءات. فتخرج أصوات كثيرة تقول إن الجوائز تخضع لمزاج لجان التحكيم، ولا شكّ في أن هوية أعضاء لجان التحكيم مؤثرة، ولكن يجب أن تكون معاييرهم الأدبية هي التي تتصدر عملهم وليس أمزجتهم. هذه اللجان تكون ثابتة أحياناً، ومتغيّرة غالباً. قد يعلن عنها وقد تبقى سرية. هناك جوائز لديها معايير أوضح وأكثر مصداقية من أخرى، وهناك جوائز تحكم الخناق عليها والتحكم فيها أمزجة وتوجهات الممول السياسية والشخصية، والحسابات الخاصة بجنسيات الفائزين، وتقسيم كعكة الجائزة على خريطة العالم العربي، وطبعاً العلاقات الشخصية… سأعطي مثالا: إحدى الجوائز ذهبت لكاتب يعادي جهراً الدولة التي تموّل تلك الجائزة، وخرج مسؤول في الجائزة يقول للإعلام يقول ما معناه: أرأيتم! هذا الكاتب يعادينا ويشتمنا ولكن جائزتنا نزيهة، ولم تلتفت إلا للقيمة الأدبية والفنية. وقد وجد بعض من يحاولون القراءة بين السطور، أن اختيار هذا الكاتب أتى لتبرئة الجائزة من التحيز السياسي على حساب النصّ، ولم يأت لإعلاء قيمة النص على الحسابات الأخرى، أي تمّ تبييض صورة الجائزة وتلميعها بمنحها لشخص من أيديولوجيا مخالفة على حساب القيمة الإبداعية والفنية.
السؤال الذي يشغلني هو لماذا لا نشهد في لوائح الجوائز الروائية أعمالاً جيدة بالمطلق، بغضّ النظر عن جنس الكاتب؟
فغالبية هذه الجوائز لم تنصف لليوم المؤلفين العرب الجيّدين والمجدّدين، إناثاً وذكوراً، بل كرّست المكرّس، وعمّقت الهوة بين الرواية العربية وشقيقتها العالمية، بدل ردمها، ودفن الاتجاهات التقليدية والمترهلة التي تحكمها منذ فترة.
هل فعلا ما تزال الرواية النسوية غير متمكنة جمالياً، أو أنها لا تنافس الرواية التي يكتبها الرجال كما يرى بعضهم؟ هل هناك من يعتقد أن الروايات التي تكتبها النساء غير متمكّنة جمالياً لأن من يكتبنها نساء؟ لم أقرأ تصريحاً واضحاً بهذا. وحتى لو كان هناك من يؤمنون به، فإنهم يحذرون من الجهر به، وربما يلتفون على مضمونه بطريقة أو أخرى. المهمّ أنني لا أحبذ التمييز “الجندري” عامة، والسؤال هنا اعكسه لمن يرون أن الرواية التي تكتبها امرأة لا تنافس الرواية التي يكتبها رجل، هل تنافس هدى بركات عبده خال مثلاً أو ربعي المدهون أو شكري المبخوت وهم من الفائزين بما يعرف بـ “البوكر العربية”، في حين نافست بركات بجدارة كتاباً وكاتبات عالميين في “جائزة مان بوكر العالمية” عن روايتها “ملكوت هذه الأرض”. وحين نالت بركات جائزة نجيب محفوظ عن روايتها “حارث المياه” ألم تفز بها عن جدارة؟ إن كان هناك من يتغاضى عن إبداع بركات وكثيرات من الروائيات العربيات الأخريات، فليأت ببرهانه.
كما ذكرت سابقاً، الروايات العربية الواعدة بالتجديد الجمالي والفكري وكسر النمطية عامةً لم تخترق جدار الجوائز العربية المحصّن بمشاكل الثقافة العربية نفسها، سواء كان كاتبها رجلاً أم امرأة. وبينما تفاءل بعضهم أن تقوم الجوائز برفع القيمة الفنية والإبداعية للرواية العربية، نجد أن الجوائز نفسها في أزمة وانحدار متدفق يجرف معه غرسات يانعة كثيرة. صحيح أن القيمة الأدبية لا تتأثر على المدى الطويل، وأن الرواية الفذّة تبقى فذّة حتى لو لم تنل جائزة، ولكن الأصحّ أن محاولات كثيرة للاختلاف والتجديد تُحبَط، ويُغطّي غبار الخيارات السيئة للجان التحكيم على وهجها، ما يعيق مسيرتها نحو النور آخر النفق، بدل أن تكون الجوائز الأدبية شمعة في النفق تأخذ بيد المؤلفين الموهوبين والمجتهدين.
أنا ضدّ التعميم. الدفاع عن كل ما تكتبه النساء لأنهن نساء هو أمر يظلمهن أولاً وآخراً، وليس من النزاهة الأدبية بشيء. والعكس صحيح. لا أعرف إن كان هناك من يظنّ أن المرأة الكاتبة تنزل من الفضاء الخارجي أو تأتي من ثقب أسود! وتنهل كتابتها من كونها امرأة فقط! إنها ابنة بيئتها وابنة الرجل وأخته وزوجته وأمّه، تتأثر به ويؤثر بها تستلهم منه ويلهمها. وهي تتفاعل مع الحياة في ميادين مختلفة من العمل إلى التعلّم إلى الإبداع إلى العلاقات الاجتماعية والأسرية… والحقيقة، يستوقفني هنا أمر مهم: نحن نشغل أنفسنا كثيراً بجندرية الكتابة، بينما لا نفعل في الفن التشكيلي أو المسرح أو غيره من الفنون، لا نقول الفن التشكيلي النسوي والرجالي، الموسيقى النسوية والموسيقى الرجالية… فالتركيز على جندر الرواية يؤثر سلباً على الرواية نفسها، يهدر الوقت والطاقة والجهد الذي يجب أن يُسخّر للنقاش حول جماليات الرواية وعناصر مضمونها وإشكاليتها العميقة، وطروحاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها. ربما علينا أن نناقش هذه النقطة. لماذا حين يتعلق الأمر بالكتابة الأدبية، تقفز هذه التصنيفات التي هي بحقّ تعيق المسار الصحيح لتطور عالم الكتابة ورؤاها ومكانتها في العالم الذي تنتمي إليه أو تتوق إليه.
*روائية لبنانية
ضفة ثالثة