روزا ياسين حسن: كتبتُ عن سوريين لا تذكرهم الفضائيات
ديمة ونوس
تضيق فسحة العيش شيئاً فشيئاً. فيغدو البقاء في تلك الفسحة الخانقة، فعل مقاومة وإلغاء للذات لا يحتمله الجميع. ثمة من بقي وثمة من رحل. وليس الرحيل مجرّد انسحاب أو انهزام. هو أيضاً بداية جديدة ورغبة في العيش والكتابة. هكذا حملت الكاتبة السورية روزا ياسين حسن أوراقها ومشاهداتها على مرّ سنة ونيف من عمر الثورة، ورحلت إلى ألمانيا لتبث الروح في تلك الأوراق، كي لا تبقى الذاكرة مخبأة في الأدراج وبين دفتي الدفتر. تحاورها “المدن” في حياتها، أمس واليوم..
– مرّت سنوات ثلاث على بدء الثورة السورية، كيف تنظرين اليوم إلى أحلامك وهواجسك بعد مرور كل هذا الوقت؟ هل تجدين نفسك أمام عبث لا جدوى من الخروج منه، أم أنك ما زلتِ تحتفظين ببعض الأمل؟
يصعب عليّ أن أصنّف نظرتي اليوم هذا التصنيف التضادّي، وربما الاختزالي. أعتقد بأن الأمور أكثر تعقيداً واشتباكاً. أعتقد أنه رغم كل ما قد يعتمل في معظمنا من غضب وخيبة أمل، ورغم كل ما آلت إليه الأمور من سوء وتعقيد، تبقى إرادة التغيير أمراً إيجابياً، إرادة التغيير هي وحدها التي ستنقل تاريخنا من زمن إلى آخر.
هناك تغيير في بنى المجتمع السوري حصلت وتحصل، وللتغيير دوماً ضفاف إيجابية وأخرى سلبية، لكنك تعرفين، دولة الاستبداد حين تفنى لا يطاول شرّها المستبدّين وحدهم، بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار، بتعبير الكواكبي، لذلك فهي تضرب ضرباً عشوائياً وتحطّم نفسها وأهلها. الطغاة نقلوا الكثير من أخلاقهم إلى معارضيهم بعدما دمّروا ما دمّروه من البلاد والنفوس طيلة سنوات ثلاث، هذا صحيح، لكني أعتقد، كذلك، بأن العنف لا يولّد إلا العنف، إنها عجلة تطحن كل من يأتي في دربها. النظام السوري أذكى النار بداية تحت قدور الفتنة الطائفية، معتمداً على تاريخ طويل ومتشابك في المنطقة، وعلى خوف مكثّف في صدور الأقليات له نسغه التاريخي القديم، وعلى لعبة الخارج والمؤامرة وما إلى ذلك.. لكنه نجح، إلى حدّ بعيد، في تهشيم وتشظية المجتمع السوري! دعمته في ذلك جهات أخرى سواء أكانت دولاً تقف إلى جانبه تنفّذ أجنداتها الطائفية والسياسية، أم دولاً تقف ضده تدعم جماعات معارضة مقاتلة دون أخرى، وتفرض بالمال شروطها ومصالحها الطائفية! حين تحلّ لغة الدم تغيب لغة العقل، العنف والموت وتدمير أسس الحياة وافتقار المجتمع السوري إلى الانتماءات السياسية والوعي السياسي، تلك التي غيّبتها الديكتاتورية، مهّد الدرب لكل ما سلف، وجعل الإيديولوجيا الدينية قادرة على الحلول في تلك الفراغات، فالعنف يولّد التعصّب كذلك، وبالتالي ما زالت الجماعات المتطرفة التي تمتطي الثورة تزداد، والقادمون بحجة الدفاع عن “الشعب السوري” و”الجهاد” على أرضه يتزايدون!
ما يفزعني حقاً هو أن يتحوّل الموت إلى فعل يومي اعتيادي وبالتالي مقبول ومبرّر! أي تسويغ الموت وتبريره تحت كافة المسميات. كل هذا الموت السوري زاد من حجم الأحقاد في الصدور إلى حدّ لم يعد من السهل تبديدها.
– إذاً ما زال لديك أمل ما. هل ثمة دور للمرأة السورية وسط كل هذا العنف؟
شخصياً أرى أن الدور الأساسي في الحلّ هو للمرأة السورية، وهنا يكمن أملي الأكبر، فعليها تكثيف محاولتها للإبقاء على مشعل الحياة متّقداً، والسير به نحو الضفاف الآمنة. للمرأة قدرة دائمة على الوقوف في وجه الموت/الفناء، حزن الأمهات السوريات، ذاك الذي جلّل البلاد في السنوات الثلاث الماضية، كان أشبه بطاقة لرفض الموت. مئات آلاف الأسر المفجوعة على عموم التراب السوري، وأجيال محرومة من التعليم لسنوات. كل هذا عبء يقع على عاتق المرأة السورية تلك التي ترتّب الحياة للاستمرار دوماً. كما يُلقى عليها عبء الإصرار على الوجود الفاعل كي لا تُبنى سوريا الجديدة من دونها، فقد كانت البوادر واضحة في التمثيلات السياسية المعارضة! لكن العبء الأكبر على المرأة السورية يتلخّص في تفكيك شبح الحرب الأهلية الكفيلة بوأد تطلعات الحرية، الثورات تنتهي والحروب تنتهي، إلا الحروب الأهلية فلا أحد يعلم متى تنتهي! وما الذي من الممكن أن تخرّبه في الذواكر والمستقبل! حقيقة العمق النسوي المختبئ يقترب كثيراً من عمق الثورة، هو هامش في مواجهة المتن، وهو ما قامت الثورة لأجله يوماً: هوامش مغيّبة مقصاة في مواجهة متن طاغ ومسيطر.
– لم يكن خروجك من سورية سهلاً، قاومتِ الفكرة كثيراً قبل أن تقرري السفر إلى ألمانيا. هل تشعرين في لحظات خاطفة بالندم؟
قاومت الفكرة حتى الوقت الذي أحسست فيه بأن أهمية وجودي هي بعودتي إلى عملي الأساسي: الكتابة، سلاحي الأمضى الذي أتقن استعماله، وحتى الوقت الذي صرت فيه أضعف من مقاومة الموت المحيط. لذلك حملت ذاكرتي وتوثيقاتي والشخصيات والأحداث التي عشت معها في روحي، حملت ابني وخرجت. خرجتُ من سوريا لكنها لم تخرج مني! هذا ما يجعل الغربة جحيماً يومياً من القلق والحنين والغضب والخوف والترقّب.
ظروف اللجوء استثنائية بالنسبة للجميع في كل الأزمان. نلفي أنفسنا خلال لحظات أشجاراً اقتلعت عنوة من جذورها ورُميت في مكان غريب، بعيدين عن مواطن ذاكرتنا وأحبابنا وتفاصيل حياتنا المعتادة. الشعور بالعجز يتكاثف بوحشية هنا، أما الشعور بالذنب فيحسّ به أي ناجٍ مهاجر. بالنسبة لي الكتابة وحدها جرّدتني من الندم، الكتابة وحدها نجحت في نشلي. حين تركت بلادي حملت توثيقاتي التي دوّنتها عن السوريين وحكاياتهم، وكتبت روايتي “الذين مسّهم السحر: عن شظايا سوريا 2011- 2012″، عن نتف الحكايا وقصص الذاكرة. الكتابة تعينني على الاستمرار وعلى إيصال رأيي وحقن أيامي بالمعنى. كتبت عن السوريين المهمّشين في العتمة، أولئك الذين لا تذكرهم الفضائيات ولا يحتفي بهم أحد، استردّيت بعضاً من حقّهم، ودوّنت حكاياتهم المنسية. حكايات كل السوريين ومن كل الأطياف، أولئك الحقيقيون الصامتون والمعذّبون، الذين دفعوا الأثمان الحقيقية، كلماتي عنهم أعانتني على غربتي.
– إذاً ستصدر روايتك الجديدة بعد فترة قريبة. كتبتها في ألمانيا وهذه تجربتك الأولى في الكتابة خارج المكان المعنية به، وخارج الزمان ربما.. كيف أثّرت الجغرافيا في خيالك الروائي؟ وكيف أمسكتِ بخيوط التواصل مع الداخل؟
ما زال الوقت مبكراً لأستطيع التقاط كامل الاختلافات التي ألمّت بكتابتي، أو أن أفهم في العمق كنه ذلك التبدّل، يمكنني أن أتكلّم عن بعض الانطباعات ليس إلا. أعتقد بأن الكتابة من الخارج تشبه نوعاً ما النظر من خارج الدائرة، ستلتقطين المشهد بشكل أوسع وأكثر علواً وإحاطة ولكن ستنقصك التفاصيل والدقائق. البعد وسّع، لربما، من زاوية المشهد، وجعلني أرى ما لم أكن أراه حين كنت وسطه! جعلني أتعرّف على ثقافات أخرى من داخلها. لكن الغربة الطارئة جعلتني أقتنع بأنّا كنا أسرى لجملة من القناعات والأفكار المكرّسة الجامدة ورثناها دون تفكيك، وقد أثّرت سلباً على مسيرتنا وعلى حضورنا كأشخاص وكمشهد عام، وها نحن اليوم نرى نتائجها جلياً!
أكاد أجزم بأني الآن فهمت جملة (الفيلسوف الفرنسي) جيل دولوز، عن ثورة 68، وسأسقطها على الوضع السوري بحذافيرها: “لم تكن فسحة للخيال بل كانت جرعة للواقعية”. نعيش كسوريين اليوم جرعات حادة من الواقعية بعيدة من حلمنا.
-ما رأيك بالنتاج الأدبي السوري منذ انطلاق الثورة وحتى الآن، إنه نتاج ضحل أعرف ذلك، لكن ثمة فورة نحو الكتابة لدى جيل جديد، يجيد استخدام التكنولوجيا، فصار الفايسبوك مثلاً ملعباً للكتابة وتبادل الآراء..
ما زال الوقت مبكراً كي تبدو معالم المشهد الروائي السوري، ما حصل ويحصل في سوريا هو هزّة كبرى، تشبه الهزّات الكبرى التي حصلت في العالم عبر التاريخ من ثورات وحروب وكوارث، لن تعود سوريا كما كانت قبلاً، ولن يعود السوريون كما كانوا، سيتبدل كل شيء، والكتابة إحدى تجلّيات هذا التبدّل العميق. فترة الثورة مكثّفة بشدة في زمن قصير، الكتّاب أسرى انفعالاتهم ما زالوا، والانفعال آني فيما الثقافة والإبداع تراكميين، لكن ما يكتب وكتب سيكون أساساً جيداً للأدب الذي سيأتي لاحقاً، هي فترة جيدة للتفريغ والتعبير والتأسيس. ثمة آلاف القصص وأكثر ستنشر بعد، سيكتبها من استطاع النجاة. أعتقد بان الأجيال الجديدة في المشهد عليها أن تصرّ على الاحتفاظ بمشاركة القارئ في التفسير والفهم والنبش، إلى مشاركة في الاكتشاف، وبالتالي مشاركة في الوصول إلى صيغة لغوية مبتكرة، وليس التحنيط في قوالب التلقين والتسييس والأحكام الجاهزة.
ليس لدي تصوّر دقيق عن تفاصيل التغيير لكن التغيير قادم كمعجزة.
– قبل الثورة، كانت رواياتك فعل تمرّد في زمن تحكمنا فيه آلة قمعية متوحشة، هل توافقين على أن القمع يفتح في الروح قدرة أكبر على الإبداع، أم أن العكس هو ما حصل معك في روايتك الجديدة التي ستصدر قريباً؟
لا أعتقد ذلك، الإبداع روح ساكنة يمكن تحفيزها. بالتأكيد كان القمع والعنف محفّزاً للكثير من المبدعين كي يكتبوا، لكن لم يكن هو المحفّز لغيرهم. القمع لا يتلخّص في القمع السياسي فقط، هناك قمع اجتماعي واقتصادي وثقافي وديني، وهذه لا تقتصر على نظام بعينه أو بلد بعينها، والثورة لا تكون في وجه النظم السياسية فقط، الثورة كذلك على الأنظمة الاجتماعية والدينية وعلى الاستغلال الاقتصادي، وبالتالي أنا ككاتبة ينبغي أن أحمل روحاً ثائرة أينما كنت، كما أحمل ذاكرتي وأمضي، ذاكرة مشبّعة محمّلة بسنوات طويلة طويلة من القمع أيقظت روح الثورة بداخلي. القمع يتبدّى بشكل مبطّن ومخفي ورمزي أعتى وأقسى من العنف المباشر، والثورة ضدّه لا تقلّ تطلّباً وإلحاحاً، بل والرهان يعتمد عليها، وهي لا تنحصر في أوقات اندلاع الثورات فحسب، بل تتطلّب نظرة نقدية متأهبة على الدوام، نظرة نقدية فاعلة شكاكة ضد اليقين، وعليّ ككاتبة التسلّح بها دوماً حتى وأنا في أوروبا.
– ما الذي جعلك تبتعدين في السنتين الأخيرتين؟ ولا أقصد وجودك في ألمانيا، بل ابتعادك عن فايسبوك، وعن كتابة المقالات بشكل دوري وكأنك في عزلة!
عزلة! لا أعرف إن كان يمكنني وصفها بالعزلة. “الصمت” في أحيان كثيرة لغة وبلاغة، ونوع من الردّ على “الضوضاء”. أنا متابعة جيدة لمعظم نتاجات المشهد الثقافي والسياسي، ولم أنقطع عن كتابة المقالات إلا قبل شهور. لكن ربما كنت، وما زلت، بحاجة إلى زمن أراجع فيه كل ما مرّ، فترة من الكمون وإعادة التفكير بسنوات مكثّفة للغاية مرّت. أعتقد بأننا كلنا بحاجة إلى إعمال الفكر والتأمل في كل ما جرى ويجري. كما أعتقد بأن الجلوس في بؤرة الضوء يعمي البصر، تغشى الرؤية فلا يستطيع الكاتب التقاط التفاصيل المحيطة، لا يرى إلا نفسه “المضيئة”! في العتمة يستطيع الكاتب الرؤية بشكل أوضح، وحينها سيلتقط تفاصيل ودقائق وسيراقب وينبش ويقرأ ويحلل.
لنقل أيضاً كانت هناك أسباب أخرى لابتعادي عن الضوء، فقد كنت أكتب روايتي، كما قلت سابقاً، وهي بالنسبة لي مشروع حياة، ديواني وحافظة الكلمات من النسيان، وتاريخي السري الذي أدوّنه بعيداً عن التواريخ الرسمية والمعروفة. ثانيها إني أعتقد بأن الفايسبوك في حالاته المتقدّمة أشبه بكمين، فخّ يشعرنا بالفاعلية والتأثير في الوقت الذي لا نفعل فيه شيئاً إلا الجلوس وراء شاشة ملوّنة. هو بالتأكيد لديه جوانبه الإيجابية التي أحاول الاستفادة منها، كنقل المعلومة والخبر والحدث والتواصل مع الأصدقاء، الذين تبعثروا في أنحاء الأرض، والحوار مع الآخرين! لكن أجدني أحياناً غير قادرة على تحمّل الجوانب السلبية فيه، فقد أمسى الفايسبوك مسرحاً عريضاً للشتائم والتخوين وحملات الإساءة وتشويه السمع، مسرحاً عريضاً لإخراج كل قيح دماملنا المتراكم، الطائفية والعصبوية والعنصرية والفئوية والشخصية وغيرها، كما أضحى مسرحاً للاستعراضات والنجومية.
شخصياً أفضّل الاختباء والعمل بصمت، وأعمالي هي التي ستنقلني إلى القارئ، ولست من أنقل أعمالي إليه، وحين سنلتقي على صفحات الرواية سنتعارف جيداً، نتناقش، نختلف، نتصادم، نتفق، ونعيش كل انفعالاتنا من خلال الكلمات. الضوء يغشي بصري وعقلي وأفضل العمل بجدّ في العتمة.
المدن