روسيا إمبريالية
سلامة كيلة
يبدو أن هناك من مازال يعتقد بأن روسيا مازالت هي الاتحاد السوفياتي، وأن سياستها مبنية انطلاقاً من كونها نظاما اشتراكيا. وهناك من يسميها دولة بازغة رغم أنها تطورت منذ زمن طويل، وأصبحت دولة صناعية حديثة في ظل الاشتراكية.
كلا الموقفين ينطلق مما هو سياسي، أي من طبيعة التوضعات الدولية، فيحاول رفض تسمية إمبريالية وإعطاء اسم بازغة كون روسيا تظهر في “صدام” مع “الثالوث الإمبريالي” (حسب تسمية سمير أمين)، رغم أن “صدامها” هو في الغالب مع أميركا، أو أنها تحاول منافسة أميركا في السياسات العالمية. ليبدو أن العالم ينقسم من جديد بين أميركا والرأسمالية القديمة من جهة، وروسيا/ الصين وبعض البلدان “البازغة” (حسب تسمية سمير أمين) من جهة أخرى.
لكن ما هي طبيعة هذا الانقسام؟ هل هو ذاته الانقسام القديم بين البلدان الإمبريالية والبلدان الاشتراكية؟ لاشك في أن تصدّر روسيا كطرف “مضاد” لأميركا يعطي هذا الإيحاء، لكن فقط حين النظر الشكلي والعابر. وحين اعتبار أميركا والرأسمالية القديمة هي الإمبريالية دون ملاحظة إمكانية نشوء إمبرياليات جديدة. والانطلاق من تكريس هذه “البديهية” كمطلق لا يمكن تجاوزه.
وهل الصراع بين هذه الإمبريالية والدول البازغة هو صراع ضد الإمبريالية أو أنه صراع بين رأسماليات يريد كل منها تكريس سيطرته وحصد الأسواق والهيمنة؟
أولاً يجري تناسي بأن الرأسمالية في تكوينها “الأصلي” هي إمبريالية، حيث أنها حال تسيطر قومياً تنزع مباشرة إلى التوسع العالمي، فليس من الممكن أن تتطور الصناعة وتستقر دون أن تحظى بأسواق كبيرة، وليس من الممكن للرأسمال أن يظل منحصراً في السوق القومي. لهذا سيكون كل صراع بين “رأسمالية ناشئة” (أو بازغة) وأخرى قديمة هو صراع بين إمبرياليات لإعادة تقاسم الأسواق، وإعادة ترتيب السيطرة العالمية.
ليس من رأسمالية ليست إمبريالية، هذه مسألة يجب أن تكون واضحة، حيث حالما تبلور النمط الرأسمالي كنمط عالمي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الرأسمالية إمبريالية بالضرورة.
فقد تشكل الرأسمال المالي، وأصبح تصدير الرأسمال سمة أساسية فيه، وتشكلت الاحتكارات، وبالتالي أصبح تقاسم العالم هو أساس الصراع بين الرأسماليات. وإذا كان نشوء الاشتراكية، وهزيمة الرأسمالية الألمانية الإيطالية اليابانية، قد فرض تشكل رأسمالية “موحدة” في مواجهة الاشتراكية، ليتأسس التناقض بين الإمبريالية والاشتراكية، فقد أدى انهيار الاشتراكية، وتحوّل كل من روسيا والصين إلى الرأسمالية، إلى إعادة تأسيس عالم منقسم بين رأسماليات بعد أن حاولت الإمبريالية الأميركية فرض سيطرة أحادية على العالم.
روسيا تحوّلت من الاشتراكية إلى الرأسمالية في العقد الأخير من القرن العشرين. وإذا كانت الإمبريالية الأميركية قد عملت على تهميشها، وتحويلها إلى “رأسمالية عالمثالثية”، أي رأسمالية تابعة، وعمل يلتسين على أن تصبح رأسمالية ريعية تعتمد على تصدير النفط، فقد فرض تطورها الصناعي والعلمي الذي تحقق خلال المرحلة الاشتراكية أن تصبح رأسمالية مثل الرأسمالية القديمة (أي رأسمالية صناعية).
لهذا تسعى روسيا إلى أن تجد أسواقاً لصناعاتها (والعسكرية خصوصاً)، وأن توجد مناطق نفوذ وسيطرة. لقد أعيد تشكيل الاقتصاد الروسي في مرحلة بوتين على أساس رأسمالي حديث، وباتت معنية بـ “التوسع” العالمي لكي يتسق تطورها بدل أن تنهار رأسماليتها نتيجة ضيق السوق. لكن يجب التنبه إلى أن هذا التشكل الرأسمالي تحقق في إطار التشابك مع النمط الرأسمالي ككل، فهذا أمر لم يعد ممكناً تجاوزه في التكوين الإمبريالي العالمي، لكن وانطلاقاً منه يجري الصراع من أجل فرض عالم جديد يقوم على تقاسم “منصف” للرأسمالية الروسية. وهذا ما يجري الآن بعد تراجع وضع أميركا بعد الأزمة العميقة التي بدأت سنة 2008، وبالتالي مع انفتاح أفق إعادة صياغة جديدة للعالم لا تقوم على سيطرة أحادية لأميركا.
روسيا منذ انهيار الاشتراكية انحكمت لفئات مافياوية تنزع لفرض النمط الرأسمالي، ولقد باعت “القطاع العام” بأبخس الأثمان لكي تتشكل رأسمالية مافياوية جديدة “من عدم”. ومن ثم مالت هذه الرأسمالية لإعادة صياغة الاقتصاد عبر الدولة التي فرضت إيقاع التطور الرأسمالي الصناعي. وكانت تشعر بالحصار الأميركي لتوسعها العالمي، وبمحاولة منعها من الوصول إلى الأسواق العالمية رغم الليبرالية المفرطة التي فرضتها على روسيا وكل البلدان التي كانت اشتراكية أو “تحررية”.
لهذا كانت أزمة سنة 2008 التي وقعت بها الرأسمالية (والنمط الرأسمالي ككل)، خصوصاً أميركا التي كانت هي القوة المهيمنة في النمط الرأسمالي، هي المدخل لمحاولة فرض دورها العالمي، وفرض مصالحها على الإمبرياليات الأخرى. ومن ثم إعادة صياغة العالم على أساس جديد، يقوم على تقاسم جديد، وربما يفرض تشكّل عالم متعدد الأقطاب، أو عالم منقسم إلى قطبين.
والصين تسير في هذا المسار. فالسلع الصينية غزت العالم في عملية نهب كبيرة جعلتها تمتلك أكبر احتياطي نقدي في العالم، وهي هنا تمارس شكلاً “ميركنتلياً” عبر التجارة، لكنها تعمل من خلال التراكم الرأسمالي المتحقق على شراء الصناعات والشركات في كل بقاع العالم الرأسمالي، وتتحكم بالدولار عبر شراء سندات الخزينة الأميركية. وتتطور عسكرياً، كما تعمل على السيطرة على مناطق في آسيا وأفريقيا. وهي تتشكل رأسمالياً، بالتالي تعمل على فرض سيطرتها ونفوذها في العالم لكي تضمن تصريف بضائعها، والحصول على النفط والمواد الأولية.
هذه ليست دولاً “بازغة”، وليست بلداناً “تحررية” أو “معادية للإمبريالية”، بل هي بلدان إمبريالية تحاول المنافسة من أجل فرض سيطرتها الإمبريالية. وهي لكي تكتمل رأسماليتها يجب أن تصبح إمبريالية، أي أن تسعى إلى السيطرة والنهب والاستحواذ على الأسواق.
بالتالي، ليس علينا أن ننتظر إلى أن تتمكن الرأسمالية من فرض طابعها الإمبريالي لكي نقتنع أنها إمبريالية، هي صيرورة تبدأ بالتنافس مع الإمبريالية المهيمنة، ومن ثم تستغل ضعف هذه الإمبريالية لكي تحاول الإحلال محلها، بالضبط لأن بنيها الرأسمالية يفرض هذه الصيروة. وهذا صراع موضوعي لا يعني تأييد الطرف الذي يسعى للسيطرة لأننا ضد الطرف المسيطر، بل يعني أن نلحظ بأن صراعاً موضوعياً يجري بين رأسماليات يمكن أن يضعف سيطرة هذه أو تلك، وبالتالي يمكن الإفادة من ذلك في تطوير الصراع المحلي ضد الإمبريالية دون أن نقع في فخ الدفاع عن إمبريالية تسعى إلى السيطرة ضد أخرى.
هذا المنظور يكرر الموقف من “دول المحور” (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، حيث إنها كانت دولاً “بازغة”، وفي صراع مع الرأسمالية الاستعمارية. حيث جرى اعتبار أنها “معنا” لأنها تقارع الاستعمار البريطاني الفرنسي، لكنها كانت دولاً إمبريالية تصارع من أجل السيطرة على السوق والمواد الأولية لكي تحقق التطور الأرقى لرأسماليتها. وبالتالي كانت تسعى لاستعمارنا.
وهو منظور كما نلاحظ ينطلق من “السياسي”، أي من رفض الدول الاستعمارية أو الإمبريالية التي سيطرت وتسيطر على بلداننا، وليس من طبيعة تكوين هذه البلدان، وأسباب صراعها مع القوى التي تحتلنا أو تسيطر على مصيرنا. من الاحتلال والسيطرة السياسية وليس من التكوين الاقتصادي الذي يفرض هذه الضرورة للسيطرة والاحتلال.
وهو الأمر الذي يجعلنا نرى المحتل أو المسيطر، والذي نكون ضده، ونرى منافسه لكن على أساس أنه “حليف”، رغم أنه يسعى إلى السيطرة ليحلّ محل سابقه. لهذا نميل إلى تبرير وضع هذه البلدان المنافسة في كلمات منمقة مثل “الدول البازغة” أو الدول المعادية للإمبريالية، وتجاهل أنها دول إمبريالية كذلك، وتريد الإحلال مكان إمبريالية تتداعى، او إزاحتها من أجل السيطرة بدلاً منها.
لقد راهنت “الشعوب” في الشرق على انتصار هتلر لكي تتخلص من الاستعمار البريطاني الفرنسي، لكن هتلر كان يزحف من أجل أن يستعمر وليس من أجل أن يحرر الشعوب. وبعد أن هًزم زحفت أميركا للسيطرة رغم أنها كانت تبدو رمز “التحرر” (على ضوء مبادئ ويلسون المطالبة بحق الشعوب بتقرير مصيرها). والآن تبدو روسيا لبعض “اليساريين” كداعم للتحرر والتطور، وليجري اعتبار أنها حليف “موثوق”، رغم أنها تزحف للسيطرة على الأسواق والمواد الأولية.
والدعوات التي أطلقها بوتين في الفترة الأخيرة تؤكد أنه يكرر دعوات الليبرالية الإمبريالية التي حاولت فرض العولمة عبر التحرير الكامل للأسواق. وحتى علاقات روسيا مع سوريا منذ سنة 1992 توضّح الطابع الرأسمالي الذي يحكمها، حيث أصبحت لا تقوم إلا على أساس رأسمالي.
وهو الأمر الذي يحكم علاقتها مع إيران، حيث تدافع عنها دولياً مقابل الحصول على عقود تجارية.
وربما هناك من مازال يعيش “الوعي” ذاته رغم الرقي الكبير في الفكر والثقافة والعلم، حيث يرى العالم من منظور سياسوي ينطلق من التوضعات التي يتكوّن العالم على أساسها. ولأننا ضد الإمبريالية القديمة لا نرى بأن إمبريالية جديدة تتشكل، وأنها تسعى للسيطرة والهيمنة (مستغلة السمعة الطيبة للاشتراكية)، وأن العالم يسير نحو توضّع جديد يتجاوز الأحادية الأميركية، والهيمنة الشاملة للإمبرياليات القديمة، بتشكّل إمبرياليات جديدة يكون نتيجتها إعادة صياغة العالم، لكن في إطار إمبريالي.
لهذا لا يُدرس التكوين الاقتصادي لروسيا “الجديدة” (وكذلك للصين)، الذي يشير إلى تشكيل نظام رأسمالي على أنقاض الاشتراكية، وأن المافيا التي نهبت “القطاع العام” باتت رأسمالية تريد نهب العالم. وأن قوتها واستقرارها متوقفان على السيطرة على الأسواق، هذه حتمية لا يمكن تجاوزها في إطار التكوين الرأسمالي.
أكرر، بمجرّد البدء في التشكل الرأسمالي لا يمكن أن يكون هذا التشكل إلا تشكلاً إمبريالياً نتيجة طبيعة النمط الرأسمالي ذاته الذي اكتمل منذ أكثر من قرن، وبات يمنع التطور الرأسمالي (في سياق الآليات الرأسمالية)، والذي يفرض أن يكون كل بلد تعمل رأسماليته على التطور قادراً على التوسع والسيطرة. وهذا أمر روسيا بعد أن تطورت في ظل الاشتراكية وتحوّلت إلى الرأسمالية.
روسيا أصبحت إمبريالية، هذا ما يجب أن نلحظه ونؤسس عليه.
الجزيرة نت