روسيا والورقة السورية.. قواعد جديدة للعبة/ عامر راشد
انقلاب الحسابات
عود على بدء
احتلت الأزمة السورية مكاناً محورياً في مسار السياسات الخارجية الروسية خلال السنوات الخمس الماضية، واستطاعت موسكو أن توظف تدخلها العسكري في سوريا لتعزيز حضورها دولياً، مستغلة انكفاء إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وعدم فاعلية المواقف الأوروبية والدولية في الملف السوري، وحالة التخبط عربياً وإقليمياً.
بيد أن موسكو فشلت حتى الآن في تحويل حضورها الدولي -المعتمد على تدخلها العسكري في سوريا- إلى مكاسب سياسية إستراتيجية، راهن رجل الكرملين القوي على إمكانية انتزاعها واستخدامها رافعة رئيسية من روافع سعيه إلى تحقيق هدف فرض روسيا في موقع الندية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وكذلك التمكين لبلاده بوصفها شريكا قويا لا يمكن تجاوزه في القضايا الدولية، ويجب الإقرار بمناطق نفوذ له يمتد قوسها من بلدان الاتحاد السوفياتي سابقا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وبرزت في الأسابيع القليلة الماضية مؤشرات جديدة وهامة تؤكد أن المرحلة المقبلة تحمل في طياتها تحديات كبيرة وصعبة للسياسات الخارجية الروسية، لكن ربما يظل من الصعب التنبؤ بحجم تأثيرها على رسم تلك السياسات في المدى المنظور، وذلك بالقياس على طريقة تفكير الرئيس فلاديمير بوتين، وكيفية ترجمتها عملياً في التوجهات السياسية التي لا يمكن فصل الأهداف الخارجية فيها عن العوامل الداخلية.
فإضعاف القبضة السياسية والعسكرية الروسية في سوريا سيضرب في الصميم نهج عسكرة السياسة من قبل الكرملين، الذي من مشتملات استخداماته اللعبُ على تأجيج المشاعر القومية السلافية، وتزييف الوعي الجماعي لحرف الأنظار عن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة على نطاق واسع، وانسداد أفق تطور النظام السياسي الروسي.
وعليه؛ فثمة تقديرات أقرب للواقعية ترجح أن موسكو ستتخذ خطوات أكثر تشدداً في الملف السوري، لكن دون تصعيد النزاع إلى درجة تهدد بخروجه عن السيطرة. وهدف موسكو من وراء تلك الخطوات رفع سقف التحدي سياسياً لزيادة ثقلها في تحديد وجهة وأسس أي جهود تبذل للبحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية.
فروسيا تريد أن تكون تسوية الأزمة السورية ضمن صفقة شاملة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تحقق لها مكاسب على الصعيد الدولي، وفي الوقت ذاته المحافظة على قواعدها العسكرية ونفوذها السياسي والاقتصادي في سوريا، وأن يُأخذ بعين الاعتبار ما يعنيه ذلك من حضور روسي وازن في منطقة الشرق الأوسط ككل.
انقلاب الحسابات
وفي هذا السياق؛ يبدو أن الاستدارة اللافتة التي أقدمت عليها إدارة الرئيس دونالد ترمب نجحت في إرباك مركز صنع القرار في موسكو، بقلب حسابات توجهات السياسات الخارجية الروسية رأساً على عقب، حيث ذهبت أدراج الرياح مراهنات الكرملين على “سنوات عسل” مع الرئيس ترمب وفريقه.
وهو ما أكده الرئيس بوتين قبيل لقائه مع وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسونرداً على سؤال قناة “مير 24” حول العلاقات بين موسكو وواشنطن، وذلك بقوله: “إن مستوى الثقة في علاقات العمل بيننا -خصوصاً في مجال العسكري- لم يتحسن، بل على العكس تدهور”.
ومن شأن تدهور العلاقات الأميركية الروسية أن يُضعف فرص موسكو في إعادة تطبيع علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، التي باتت تنظر إلى روسيا كخطر إستراتيجي على أمن واستقرار المجتمعات الأوروبية، بعد أن أصبحت موسكو حاضنة وداعمة لقوى اليمين الأوروبي المتطرف والأحزاب الشعبوية الأوروبية سياسياً ومادياً في البلدان التي تواجه استحقاقات انتخابية مفصلية.
علاوة على متاعب السياسة الخارجية الروسية في العلاقات مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، سيكون لزاماً على موسكو أن تضع في حساباتها إمكانية حدوث انعطافة في المواقف العربية والإقليمية خاصة الخليجية والتركية، على ضوء التغير المهم الذي وقع في أسلوب تعاطي واشنطن مع ملف الأزمة السورية، وفي نطاق أوسع مع الدور الإقليمي لإيران وحلفائها في المنطقة.
ووفقاً لتقديرات دوائر مقربة من مركز صنع القرار السياسي الروسي فإن موسكو تتعامل بجدية مع هذا الاحتمال، وتدرس سبل استيعابه لمنع حصول انتكاسة في علاقاتها مع دول الخليج العربي وتركيا، بالتوازي مع العمل على تخفيف الضغط عن إيران الحليف الرئيسي لروسيا في المنطقة.
كما أن التراجع الذي يعصف بالاقتصاد الروسي منذ سبتمبر/أيلول 2014 سيؤثر -بشكل أو آخر- على الموقع التفاوضي لروسيا، فرغم التحسن النسبي في مؤشرات الاقتصاد الروسي لعام 2016، فإن روسيا ما زالت تحت تهديد سيف عدم الاستقرار الاقتصادي، وتأثير العقوبات الاقتصادية الغربية عليها.
ويشار هنا إلى أن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف أعلن -عبر تصريح له في مايو/أيار 2016- أن احتياطي البلاد يتآكل شيئا فشيئاً، وحذَّر من أن الاحتياطي قد ينفد كلياً بحلول 2017.
عود على بدء
منذ اندلاع الأزمة السورية أعلنت روسيا مراراً وتكراراً أن ثوابتها تجاه الأزمة السورية تتلخص في خمس نقاط أساسية، هي كالتالي: “التسوية السياسية عن طريق حوار غير مشروط، لا للحسم العسكري، إجراء انتخابات، ووضع دستور جديد، وقيام دولة ديمقراطية في سوريا”.
بل وأكثر من ذلك، قال الرئيس بوتين خلال مؤتمر صحفي عقده يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 2012: “نحن لسنا قلقين على نظام بشار الأسد في سوريا، بل نحن قلقون بسبب ما يجري هناك حالياً، نحن ندرك أن هذه العائلة توجد في السلطة منذ 40 سنة، ولا ريب أن التغييرات لا بد منها”، وأضاف: “إن ما يقلقنا هو مستقبل سوريا”.
بدت هذه الثوابت مقبولة لدى العديد من الأطراف السورية والإقليمية والدولية، كأساس للحوار مع موسكو والتعاون معها. إلا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا(بدأ يوم 30 سبتمبر/أيلول 2015) أظهر أن روسيا لم تكن معنية بالثوابت التي أعلنتها.
فرغم الذرائع التي ساقتها لتبرير تدخلها العسكري، مثل مواجهة المتطرفين من أصول قوقازية، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنع انتشار الفوضى.. الخ؛ فقد برز جلياً أن ما أرادته بتدخلها العسكري يتمثل في هدفين رئيسيين: الأول منع انهيار نظام الأسد، والثاني إحكام القبضة على الملف السوري لاستخدامه كورقة لتعزيز الدور الروسي في مواجهة واشنطن والغرب.
ووجد بوتين فرصة مواتية للإقدام على خطوته هذه، في ظل افتقار إدارة باراك أوباما لإستراتيجية واضحة وفاعلة تجاه الحرب الدموية في سوريا، وانكفاء السياسات الخارجية لواشنطن، وعدم تحريكها ساكناً ضد تدخل روسيا عسكرياً وتوسيع قواعدها وإقامة قواعد جديدة في سوريا. وبالفعل نجح بوتين في إظهار أن بلاده قوة كبرى لها اليد العليا في الملف السوري، كما نجح في تقزيم الدور الأميركي وتهميشه.
هذه الصورة بدأت تتزعزع نوعاً ما أمام أول اختبار جدي لها في سوريا، بعد الهجوم الصاروخي الذي نفذته مدمرتان أميركيتان على مطار الشعيرات العسكري، ردا على مجزرة الكيميائي في خان شيخون.
إلا أن التغير في موقف إدارة ترمب لم يتبلور بعدُ بشكل كامل، ولا يُعرف المدى الذي سيصل إليه، وقد يستغرق الأمر وقتاً ليس قصيراً، مما يبقي الباب موارباً أمام اعتقاد موسكو أنها ستبقى قادرة على الإمساك بالورقة السورية وتوظيفها، دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات جوهرية.
وفي كل الأحوال؛ من المستبعد أن تقدِم موسكو طواعية على إجراء مراجعات ذاتية لدورها في الأزمة السورية ومواقفها منها، كإجراء استباقي استناداً إلى تقدير انعكاسات التحول في الموقف الأميركي وارتداداته المتوقعة أوروبياً وإقليمياً وعربياً، لأن هذا سيرتب على روسيا دفع تكاليف باهظة تمس نهج عسكرة سياستها الخارجية، وتمس أيضاً ركيزة مهمة من ركائز البروباغندا الموجهة للداخل الروسي.
فتسليم روسيا بتراجع دورها العسكري والسياسي في سوريا سيشكل بالنسبة لها خسارة جيوستراتيجية كبيرة، ليس في سوريا فحسب بل في منطقة الشرق الأوسط ككل، وستتبعها ضغوط على أكثر من خاصرة رخوة لها في مجالها الحيوي، ستؤثر على مستقبل نظام حكم الرئيس بوتين.
وبافتراض أن إدارة ترمب ستبقى متمسكة بموقف حازم في الملف السوري، فإن لدى روسيا الكثير لتخسره لكنها لن تستعجل الخسارة، وستلعب بكل أوراقها حتى النهاية. ولا شك في أنها تنظر إلى تحالفها مع نظام حكم الأسد كورقة مهمة جداً، ثمن التنازل عنها هو الحفاظ على المصالح الروسية في سوريا والمنطقة في الترتيبات المستقبلية.
والإشكالية هنا تكمن في تعريف ماهية المصالح الروسية وتحديد حجمها، فما تريده موسكو شيء، وما يمكن أن تقبل به الأطراف الأخرى شيء آخر تماماً، أقل بكثير مما يطمح إليه رجل الكرملين القوى كجائزة ترضية للخروج من المأزق السوري.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017