مراجعات كتب

«رولان بارتْ بقلم رولان بارتْ»…الشذرةُ بوصفها نَوْبةَ عِشقٍ/ عبدالدائم السلامي

 

 

مثّل رولان بارت لكثير من قرّائه حالة إغراء لغوي دائمة، ظلَّ فيها «يُفكّر في الكتابة بألفاظ الموسيقى»، وهو ما جعل نصوصَه كتابةً جَذْلى ضدَّ عنف الواقع، وضدَّ عنف «الدُّوكسا»، بل هي كتابةٌ ضدّ «ماكيت» الكتابة النقدية، وضدّ إيتيكاتها الرائجة في زمنه. ولعلّ في هذا ما دفع إلى ترجمة كتاباته إلى لغات عديدة على غرار ترجمة ناجي العونلّي لكتابه «Roland Barthes par Roland Barthes» (وهي الترجمة التي ستصدر قريبا عن دار الجمل في بيروت) حيث بذل فيها العونلّي جهدا كبيرا للمحافظة على مناخات الكتابة البارتية، وحرص على تحرير طاقاتها الإيحائية في لغتنا العربية عبر حُسنِ صَوْغِ الجملة وفتنة تركيبها، وتنويعِ صِيَغ الفعل فيها.

 

كتابةُ التوقُّعِ

 

«رولان بارت بقلم رولان بارت» كتابٌ شَذْريٌّ نشره بارت سنة 1975، وصنّفه النقّادُ في ذلك الوقت ضمن خانة «الكتابة الأخلاقية» من جهة كون صاحبه قد أعاد فيه تقويمَ مسيرته الحياتية والفكرية شارحًا مُضْمَراتِها ومُقوِّمًا بعضَ تَجَلِّياتِها. والحقّ أن هذا الكتاب جاء متمرِّدًا على كلّ تصنيف مضمونيّ أو شكليّ، كأنّما هو «يُشير إلى ضرورة معاودة صوغ الأجناس»، فهو ليس سيرة ذاتية لأنه أقرب إلى الأُوتُوبُورْتريه، وهو ليس سردًا لأنه أقرب إلى التأمّل، وهو ليس حديثا عن الكتابة فحسب وإنما هو أيضا حديث عن الكاتب، وعن صُوره، وعن جسده الذي يمثّل «موضوعَ الْتذاذٍ مباشر» و»لا يمكن أن يتعوّد على العموميّة، وعلى قدرة العموميّة التي تكمن في اللّغة». والكتاب في نهاية أوصافه كتابةُ توقُّعٍ، وكتابةٌ مفتوحةٌ على المُمْكناتِ، كتابةٌ لا تدّعي ترميم ماضيها، وإنّما هي «تنتقل بهدوء إلى التخلّي عن الديون البورجوازية، باتّجاه الزَّيْغِ، الحدِّ الأقصى للمعنى». وإذن هو «ليس كتابَ «اعترافات»، لا لكونه غيرَ صادق، وإنّما لأنّ لديْنا اليوم معرفةً تختلف عن معرفة الأمس، يمكن أن تُلخَّص كالتالي: «ما أكتبُ عنّي ليس البتّة نهائيّا ومحسوما: بقدر ما أكون صادقا، أكون قابلا للتأويل». فهل من الوجيه اعتبار هذا الكتابِ سعيا من بارت إلى التعليق عن نصوصه السابقة وعن ذكرياته الخاصّة؟ يُجيبنا بارت عن هذا السؤال بقوله: «التعليق عليّ؟ يا له من أمر مُملّ. لم يكن لديّ حلّ آخر سوى معاودة كتابتي – من بعيد، من بعيد جدّا ـ ومن الآن: أنْ أضيفَ قولا إلى الكتب، والأغراض، والذكريات، والنصوص، بدون أن أعلم البتّة هل أتحدّث عن ماضيّ أو عن حاضري. بهذه الكيفيّة، أُلقي على الأثر المكتوب، على الجسد وعلى المتْن الماضييْن ضربًا من الباتشوورْك (الترقيع)، غطاءً مزيجًا يتكوّن من مربّعات مُحاكَةٍ. وبدلا من التعمّق، أبقى على السطح، لأنّ الأمر يتعلّق هذه المرّة بـ»أنا» (بالأنا)، والتعمّق ينتمي إلى الآخرين».

ونحن نجد في هذه الشذرات ما يؤكّد أن بارت لم يرُمْ إعادة إنتاج نصوصه السابقة وإنّما كان يصنع بِرُقَعِ تلك النصوص وأحوال كتابتها كياناتٍ نصيّةً جديدةً هي نصوصٌ لـ«أنا» مغايِرةٌ وذاتُ تماسٍّ مع راهنه، فالكتاب هو «كتابُ الأنا» ولأفكاره علاقةٌ معيَّنة بالحداثة، وحتّى بما يُسمّى الطليعة، ولكنّه يقاوم فيه أفكارَه: ما ينفكّ أناهُ بما هو عينيّةٌ عقليّة، يقاومها. ومع أنّ هذا الكتاب يقوم في الظاهر، على سلسلة «أفكار»، فإنّه ليس كتابَ أفكاره، إنّه «كتابُ الأنا، كتاب مقاوماتي لأفكاري، إنّه كتابُ تنْحية». وهي تنحيةٌ يشرحها بارت بقوله إنه لا يبحث عن ترْميم ذاته (كما يقال عن صرْح فنّيّ)، أي إعادة بريق الصَّرْح كما لو كان جديدا، وإنما هو يصنع صرحًا جديدا من رُقَع الأوّل، نصًّا مغايِرًا، نصَّ الذّاتِ وهي تُفتِّتُ العالَم وتتفتَّتُ فيه، فـ»أنْ يكتب المرء عن نفسه فهذا ما يمكن أن يبدو على أنّه فكرةٌ دعيّةٌ، ولكنّها أيضا فكرة بسيطة: بساطةَ فكرة الانتحار».

ولا شكّ في أنّ الكتابة الزائغة، الواقعة على حافّة الانتحار، إنّما تقودها عند بارت قوّةٌ إتيقيّةٌ جوهرُها «أنْ نَخْسِرَ طواعيّةً كلَّ بطوليّةٍ، حتّى في الاستمتاع». يُسمّي بارت هذا الترجرج: زَيْغًا، أتوبيا، ويشرحها بكونها «مذهب المُقام الزائغ»، ونُلفي لهذا الزَّيْغ حضورا ثرًّا في باقي نصوصه، بل وفي وُجوده التاريخيّ أيضا، وهو زَيْغٌ سهّلت قِيامتَه كتابةٌ شذريّةٌ بقدر ما تُصرُّ كلُّ شذرة من شذراتِها على إظهار وحدتِها المضمونية فإنّها تتعاضد جميعًا على تأكيد وحدةِ معنى الكتاب، وصورةُ ذلك تَشْظِيةُ عالَم المألوفِ الماديِّ والرمزيِّ للوقوف على مظاهر بلاهته، وعلى ترهُّلِ معانيه، وتخليقُ معنًى لأشيائه وأحيائه جديدٍ. واتكاءً على منطِقِ هذه الوحدة المعنوية يجوز لي القول إنّ التشذيرَ في كتاب «رولان بارت بقلم رولان بارت» يتوزّع على ثلاثةِ محاور أو هي بالأحرى ثلاثة نصوص مُتضامّة فيما بينها، وهي نصُّ الأسلوب، ونصّ الفكرة، ونصّ الحياة.

 

نَصُّ الأسلوب

 

«الكتابةُ تبدأ بالأسلوب» هكذا يُحدِّثُنا بارت، وصورة ذلك هي حَمْلُ الأسلوب إلى مناطق أخرى للّغة وللذات، بعيدا عن كلّ تقنينٍ أدبيّ مصنَّف، تقنينٍ بائد ونمطيٍّ. وهذا النّمطيُّ ذاته هو ما اجتهدت الكتابة البارتية لتتجاوَزَه بغيةَ تحقيقِ نضارةِ في النصّ تجعله نصًّا متَّقدًا، نصًّا سحريًّا، لن ينتهي أبدا، كلّه فيُوضات وتعدّيات ومهارب وانزياحات ونقْلات وانحرافات. ويقوم عُمرانُه على دعامة الإيجاز «الذي هو شكلٌ غير معروف جيّدا، يُربك من حيث يمثّل حرّيةَ اللّغةِ المرعبةَ التي تَعْدِمُ – بكيفيّة مّا- القيسَ المُلزِمَ: لأنّ صِيَغَه مصطنَعةٌ بالتمام، وملقَّنَةٌ تلقينا صرفا». وقد شخّص بارت هذا الأمر بقوله «النمطيُّ هو ما أخذ يُتعبني. ومن ثَمَّ العَقّارُ الذي يُشار إليه منذ الدرجة الصفر للكتابة: نضارةُ اللّغة». وبتلك النضارة ترحَّلَ بارت بالمعنى صوبَ تكثُّره وتشتُّته، صوب «التعديد والتكثير والتدقيق بلا كبْح». ولا تتحقّق كتابةُ التعديد والتكثير والتدقيق بلا كبْح إلاّ عبر تقنية التشذير، تلك التي مال إليها بارت منذ كتاباته الأولى، باعتبار أنّ الشذرات هي «نوباتِ عشق»، وهي أيضا «أحجار على محيط الدائرة: أنبسطُ دائريًّا: عالَمي الصغير كلُّه مفتُّت تفتيتا، ماذا يوجد في المركز؟».

وتتجلّى الشذرة بالنسبة إلى بارت درجاتٍ مُتعدِّدةً للمخيال، وكتابةَ البحثِ الدائمِ عن البدايات، عن بدايات لا تحتمل نهاياتٍ لها، ولا تفكِّرُ فيها، فقد كان «يحبّ أن يجد البدايات وأن يكتبَها، ومن ثمّ يميل إلى التكثير من هذه اللذّة: لذلك يكتب شذرات: بقدر ما توجد شذرات، توجد بدايات وتوجد لذّاتٌ، ولكنّه لا يحبّ النهايات: إذ أنّ خطر الانغلاق الخطابيّ كبير جدّا: خوفٌ من عدم معرفة كيف يُقاوم الكلمةَ الأخيرةَ، الردَّ الأخيرَ».

هكذا اختار بارت تقنية التشذير أسلوب كتابة وبرّر ذلك بقوله «إنّ انعدام الانسجام يَفْضُلُ النظامَ الذي يُشوِّه». وبالفعل لم ينقطع بارت مُذّاك، عن اتباع الكتابة الشذريّة، في كلّ نصوصه. ذلك أنّ الشذرةَ لا تكون مفصولةً عن الشذرات المجاورة لها وحسب، وإنما يطغى عليها «البناءُ بالمجاوَرة وبلا وصل داخليّ […] وبالتالي، فإنّ فهرسَ نصٍّ مّا ليس أداةَ إحالة وحسب، إنّه هو نفسُه نصٌّ، نصّ ثان هو نتوءٌ للنصّ الأوّل: ما هو جموحٌ وهذيانٌ (انفصالٌ) في عقل الجُمل».

ويستبق بارت سؤال قارئه: «أمَا مِن تنظيمٍ ممكٍنٍ لسلسلة الشذرات؟» ويجيبه بالقول: «بلى: الشذرةُ هي مثل الفكرة الموسيقيّة للدوْر: كلّ قطعة هي كَفِيَّةٌ بنفسها، ومع ذلك ليست البتّة إلاّ الفجوةَ القائمة بين القطعات المجاورة لها: فلا يُعرَك الأثرُ إلاّ بما هو خارج النص».

 

شبَحُ الكُلِّ الشاملِ

 

لم تمثّل «الشَّذْرة» أسلوبَ بارت الكتابيَّ وحسبُ وإنّما كانت أيضًا أسلوبَ تفكيرٍ عمادُه الخروج الدائم على النّمطيّ، على الدّوكسا بوصفها «الرأيَ العامَّ، فكرَ الغالبية، وِفاقَ البورجوازيّة الصغرى، صوتَ الطبيعيّ، عنفَ الابتسارات»، بل هي في رأيه قانونٌ لقمع الخطابِ الخاصِّ، و»كلّ قانون يقمع خطابا، ليس له علّة كافية» لدخول اللغة. ولذلك كان التفكير «الشذريّ» سبيلَه إلى تفجير ما سمّاه «شَبَح الكلِّ الشامل» الممتلئ بالحُمق والتكرار، بل وكان سبيله إلى البحث عن صورةِ ثقافة هي في الوقت نفسه مختلفةٌ وجمْعيّةٌ: أي متعدِّدَةٌ، وتمثّل الحدَّ الثالث «الذي يُخرّب التقابلَ الذي نَنْحَبِس داخلَه: ثقافةَ جماهير أو ثقافةً عُليا». وعليه كان هناك نصّان في كتاباته، نصٌّ أوّل «منفعِلٌ تُحرّكُه أشكالُ استنكار وخوفٌ وردودٌ داخليّة وعُصاباتٌ صغيرة وأشكالُ دفاع ومشاهدُ»، ونصٌّ ثانٍ «تحرّكه اللذّة».

والظاهر أنّ نَبْذَ بارت للدوكسا (الرأي العامّ، الرأي الدّارج) نابعٌ من وعيه بأنها لا تعدو كونَها «موضوعا فاسدا»: فلا حَدَّ بالمضمون، بل لا حدّ إلاّ بالشكل، وهذا الشكل الفاسد هو ولا ريب: التكرار، (لكنْ، أوَ لا يكون ما يتكرّر حسَناً في بعض الأحيان؟ الغرض [الثيمةُ] الذي هو موضوع حسنٌ للنقد، أليس هو شيءٌ يتكرّر؟)، حسنٌ هو التكرار الذي يتأتّى من الجسد. أمّا الدوكسا فهي موضوع فاسدٌ لأنّها تكرار ميْتٌ لا يتأتّى من جسد أيّ شخص، اللهمّ إلاّ من جسد الموتى تحديدا». ولأنه لا يحتمل الدّوكسا، ولكي يتخلّص من سلطتها، راهن بارت على المفارَقة (البَرَادوكسا)، غير أنّ هذه البارادوكسا تتلوّث بدورها، وتصير هي نفسُها تعيّنيّةً جديدةً، دوكسا جديدةً، ومن ثمَّ يتعيّن عليه من جديد الذّهابُ إلى أبعد من ذلك باتّجاه مفارقة جديدة، وهكذا دواليْك. ولكن كيف يتمّ تجاوز سلطةِ الدّوكسا وتكراريتِها؟ رأسُ الأمر في ذلك بالنسبة إلى بارت يمرّ عبر الشغف بسؤال: «ماذا يعني هذا»؟ وهو «شغَف ثابتٌ (ووهميّ) بأنْ يضع إلى جانب كلّ واقعة، حتّى التَّفِهة، بدلا من سؤال الطفل: لماذا؟ سؤالَ اليونانيِّ القديم، سؤال المعنى كما لو أنّ الأشياء كلّها ترتعدُ معنًى: ماذا يعني هذا؟ لا بدّ بأيّ ثمن، من تحويل الواقعة إلى فكرة، إلى توصيفٍ وتأويل، أي بإيجاز، أن يُطلَق عليها اسم غير اسمها. وليس هذا الهَوَسُ تسليما بالترّهات وإنما هو «هوَسٌ بجَعْلِ أبسط الوقائع تعني شيئا مّا، هوَسٌ يطبَعُ الذاتَ اجتماعيّا كأنْ برذيلة: ينبغي عدم فكُّ سلسلة الأسماء، وينبغي عدم فكّ قيْد اللّغة: الإفراط في التسمية هو دائما محلُّ سخرية»، وسببٌ للملل. ولذلك يؤكّد بارت أنّه في كتابه هذا، لا يسرد شيئا من دون أن يعني به شيئا مّا، كلّ شذرة هي تخليقٌ لمعنى لا صلة له بكُتَلِ المعاني العامّة، المعاني الشاملة، ولا توجد واقعة مسرودةٌ في الكتاب وهي في وضعِ انعدامِ التَّمَعْني، «إنّها حركة الحكْي هي التي تَنْتَزِع من كلّ شذرةِ واقعٍ درسًا، معنًى». وربّما بسبب ذلك ظلّ بارت يعتمد – في تعاطيه الفكري مع الواقع- على سياسة القَطْع/التشجذير، بل ظلّ يحافظ في نصوصه على سوسيولوجيّة سياسيّة ويُسقطُها: يحافظ عليها باعتبارها توقيعا، ويُسقطُها من حيث هي تُثير الملَل وتؤول إلى النمطيّ والتكرار.

والشذرةُ، فضلا عن ذلك كلّه هي نصّ حياةٍ عاشها بارت وعنوانُها «مللٌ مع ذُعرٍ، يبلغ حدَّ الضّيق الشّديد»، عاشها مُحارِبًا فيها (وفيه) ثلاثَ عجرفات: «عجرفة العِلم، وعجرفة الدُّوكسا، وعجرفة المُناضل»، حارب تلك العجرفات مؤمنا دائما بذلك الإيقاع اليونانيّ، ويعني به «تعاقب التزهّد والاحتفال»، نابذًا الإيمانَ بالإيقاع السطحيّ للحداثة، من حيث هو «عمل/أوقات فراغ». وبذلك طغى مفهوم «الشذرةّ على حياته التي لخّصها في آخر هذا الكتاب على النحو التالي: «دراسة، أمراض، تسميات في مناصب. والباقي؟ اللقاءات، الصداقات، علاقات الحبّ، السفرات، القراءات، السعادات، الاستنكارات، حالات الضيق…».

القدس العربي»

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى