زفرة السوري الأخيرة” للفارس الذهبي
تأتي النهاية
بهتاف الحشود “الله، سوريا، حرية وبس”
كل الشعارات والمبادئ الجميلة التي كرّستها النظم الشمولية في عقول الناس، كل المنّجزات، وكل المبرّرات التي صاغتها لتفسير المظالم والمفاسد التي نخرت بناها الفوقية والتحتية، كلها، هل بوسعها أن تشفي جسداً معطوباً، أو تعيد إلى الحياة روحاً أُزّهقت في أقبية التعذيب؟! سؤال جوهري يطّرحه الفارس الذهبي على القارئ من خلال كتابه الجديد “زفرة السوري الأخيرة”، الذي وقّعه أخيراً في مسرح “دوار الشمس” ببيروت، ضمن إطار تظاهرة “منمنمات: شهر لسوريا” التي تضمنت إلى جانب حفل توقيع الكتاب جملة من الفعاليات الثقافية والفنية، تنوّعت ما بين العروض المسرحية والأفلام، والحفلات الموسيقية والمعارض التشكيلية.
استوحى الذهبي عنوانه الجديد من “زفرة العربي الأخيرة”، وهو الاسم الذي أُطلق على صخرة في جبل طارق، حيث وقف الأمير عبدالله الصغير، وبكى كالنساء مُلكاً لم يصنه كالرجال، بعد أن هُزم أمام جيش إيزابيل وفرديناند، وأسلم مفاتيح غرناطة. والكتاب يضم بين دفتيه نصين مسرحيين، الأول بعنوان “زفرة السوري الأخيرة”، ويهديه المؤلف إلى مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق، والثاني “صهيل الحصان العالي” مهدى إلى شهيديّ الثورة السورية، المخرج باسل شحادة، والإعلامي أحمد الأصم.
“زفرة السوري الأخيرة” مسرحية سياسية انتقادية تقع في تسعة مشاهد، تحكي قصة جنرال عراقي التجأ إلى منزل عماد سوري إبان غزو العراق، وتأتي التفاصيل والأحداث في قالب حبكة تقليدية، تبدأ من فضاء معتم، وصوت عاصفة عاتية، وطرق على الباب في ساعة متأخرة من الليل، بعدها يدخل سعدون الغارق بالوحل والأمطار بيت رفيق السلاح القديم أبو كمال، ويكتشف أن رفيقه مات منذ عشرة أعوام، وعبر عبارات التعارف الأولى، الاستفسارات الخجولة والحالة المثيرة للاستغراب بين الضيف وأفراد العائلة المضيفة، يتعرف القارئ على شخصيات النص الأساسية التي سوف تقود المسار العام نحو ذروته: الإبن كمال، أمه أروى، أخته ريما.
يتطور مسار الحبكة على أرضية أحداث العراق 2003 ومؤثراتها على الساحة السورية، حيث يستعيد النص الإحساس بالفجيعة والسخط الذي عم الشارع السوري بعد الغزو واحتلال البلد الشقيق، وجعل غالبية الناس تتعاطف مع صدام حسين، وتحتفي باللاجئين العراقيين، كما جعل العديد من شباب سوريا ينضمون إلى المقاومة العراقية… الإحساس الفجائعي أفرز حالة من التضامن، لم تكن قادرة على التمييز بين الجلاد والضحية لدى الغالبية العظمى من السوريين. هذا التضامن سوف يرفع الموازين لصالح الجنرال اللاجئ، وسوف يُعجب به الجميع، ويتعاملون معه بوصفه بطلاً قومياً، عدا ريما وصديقها خالد، لن يجدا فيه سوى مجرم حرب فار من وجه العدالة، يستحق الطرد بدل الإيواء.
الأفعال التي تدفع بمسار الحبكة نحو الأمام، تصدر بالدرجة الأولى عن الجنرال العراقي، ومن بعده كمال، بينما يقتصر دور الأم والابنة على موقف القبول أو عدمه وبعض الحوارات التي تشي بذلك، في إشارة واضحة إلى مجتمع ذكوري يحكمه العسكر في كلا البلدين الشقيقين، أما الحدث الانقلابي الذي يحمل ذروة الحبكة، فيأتي مع قرص مدمج تجلبه الأخت، يحوي لقطات للجنرال وهو يقوم بتعذيب المساجين، مشاهد مرعبة سوف تغيّر مواقف التأييد والتضامن إلى الإدانة المطلقة، وسوف تنهي المسرحية بانتحار كمال، بعد أن أدرك حجم الخديعة التي كان ينام في ظلالها مرتاح الضمير.
الشخصيات وحيدة الجانب، تعكس المواقف ووجهات النظر المتباينة من الحدث الأم، أي ما يجري في العراق، غايتها خدمة مقولة النص وسؤاله الأساسي، هي أشبه بحوامل أفكار ودلالات، أكثر من كونها شخصيات مركبة، تفصح عن ملامح وخصوصيات نفسية وذهنية بعينها، تنبع من سيرتها الحياتية، وهو أمر عكس نفسه سلباً على لغتها وأدواتها التعبيرية، التي أتت أقرب إلى الخطب والشعارات، من مثال تبريرات سعدون للتعذيب في السجون: “صنعنا الصواريخ، وصعدنا إلى الفضاء، وبنينا مفاعل ذرّة، وجيشاً بخمسة ملايين مقاتل، ولم يكن من الممكن أن ندع هؤلاء المسيّرين نياماً، أن يهدموا منجزات ثورتنا…” (ص109).
سعدون شخص فضولي، متسلط، جبان، بلا روادع أخلاقية، يفرض مزاجه وسطوته بالتدريج على البيت المضيف ومن فيه، يدخل الغرف ويعيد ترتيب الأثاث من دون استئذان: “لماذا تضعون صورة العماد في تلك الزواية البعيدة… ينبغي على صور القادة دوماً أن تبقى أمامنا لنتذكر أعمالهم أينما ولينا وجوهنا” (ص41)، يتدخل في خصوصيات الآخرين ويملي شروطه عليهم، يسمّم كلب الجار لأن نباحه يزعجه… وحين يُسأل عن ماضيه، يمتلك الوقاحة الكافية كي يقول: “لا أعلم كم من الرجال آذيت، وكم من العظام كسرت، كانوا يأتونني بالرجال معصوبي الأعين مرتجفين، والبعض منهم كانوا يبولون على أنفسهم، والجميع ينادونني سيدي أرجوك… كنت أثأر لنفسي عن كل الضرب الذي تلقيته، وأنا صغير، وأنا في دورة التدريب، وأنا في السجن العسكري…” (105-19)
كمال شاب طوباوي، رضع “مبادئ الحرية والوحدة والاشتراكية” مع حليب أمه، وكان يغفو في حضن أبيه على الأناشيد الوطنية، يدرس الحقوق كي يدافع عن المظلومين والفقراء، ويرى في احتلال العراق نكبة الأمة الثانية بعد فلسطين: “كيف لي أن أنزل إلى الجامعة وأضحك وأتسلى وأدرس، وهناك على طرف بلدي شعب شقيق يُذبح ويُسلخ من قبل الأمريكان” (ص72)، وهو ما يفسر هول الصدمة التي تلقاها بعد أن شاهد فيلم التعذيب: “البدلة العسكرية ليست للبطش بالناس ولا بالعباد، اتعلم ما معنى النجوم على كتفيّ الضابط؟ معناها أن عليه أن يرقى بنفسه فوق تلك النجوم من شدة فخره بشرفه العسكري” (ص110).
الأم أروى، امرأة جميلة، رقيقة، تزوجت وهي في السابعة عشر من عمرها ضابطاً في الجيش، سرعان ما تمّت ترقيته ومنحه بيتاً وسيارة في المدينة، لم تكن ترى زوجها إلا لماماً، ثم فارق الحياة، هكذا وجدت الشابة الريفية نفسها ربة منزل وحيدة، مسؤولة عن تربية الأولاد، ما يفسر قبولها السريع للاجئ الغريب، كتعويض عن حالة النقص والحرمان التي عاشتها لسنوات طوال.
على النقيض من هؤلاء، كانت ريما وصديقها خالد منسق الحركة اليسارية للطلاب في الجامعة، كلاهما شارك باعتصام يطالب بمحاكمة علنية لرموز النظام السابق في العراق على المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان: “إن هؤلاء القادة ما هم إلا عصابة حقيرة، أمسكت بزمام البلاد لأكثر من عقد… أخرونا عن ركب البشرية، كبلونا بالسلاسل، تحت شعار المحتل الصهيوني” (ص73).
النص المسرحي الآخر “صهيل الحصان العالي” عبارة عن مونودراما بمشهد واحد وشخصية وحيدة، البطل فيها أيضاً جلاد، لكن في السجون السورية، وهو يروي قصة عشقه للخيل، كيف بدأت وإلى أين وصلت: “أنا أجزم بأني وقعت في غرام هذا الحصان… كانت الساعات الطويلة التي قضيتها وأقضيها معه، لا تروي عطشي له…” (ص154) هذا العشق الذي بدل موقع العاشق في الحياة من عسكري سجين مع معتقلي الرأي في سجن تدمر، إلى ضابط أمن معروف بشراسته في انتزاع الاعترافات عنوة.
وعلى خلاف النص السابق فإن مسار الحبكة لا تهيمن عليه الأحداث الخارجية، بقدر ما تمليه بنية الشخصية المحورية، ميولها الفطرية، أهواؤها، ظروفها الخاصة… شخصية تسرد سيرتها بالتدريج عبر مونولوجها وتداعياتها، تتوقف عند الأفعال والحالات المؤثرة في حياتها، تحشد التفاصيل ذات الدلالات، تلتقط التحولات الجوهرية في عالمها، ما يكسب القصة أمدائها الواسعة وخصوصيتها، ويجعلها تنبض بالحياة: “كنا في المهجع أربعين شخصاً على الأقل، وفي رواية أخرى ثلاثين، بينما كان الشاويش يعاملنا كعشرة… لكن الأرواح التي كانت مقيمة معنا، كانت كثيرة جداً… فهناك نساء عاريات، لا تبردن، معلقات على الجدران وبين الأسرة، وهنالك لاعبو كرة قدم لا يلعبون… ممثلات مصريات، وكان أيضاً حنظلة…. كان المهجع مغلقاً كالكهف، جدرانه زاخرة برسوم بدائية رسمها أحد ما عبر هذا الزمان الطويل، رسوم بألوان من بقايا القهوة الجافة، وبقايا الخضار والطبخ، ربما نحن من رسمناها، نحن أهل الكهف… يا إلهي كم لبثنا…لا أحد يدري” (ص129-130).
تبدأ المونودراما من رجل عجوز يداعب حصانه، ويعترف له أنه سيستخدم السلاح للمرة الثانية بعد خمسة وعشرين عاماً، ليحمي نفسه من المضللين العملاء الإرهابيين، يذكّر الحصان كيف تعرّف عليه أول مرة: كان شاباً صغيراً، آمر حربي سجين لمخالفته الأوامر العسكرية، أتت برقية بإعدام أحد النزلاء من مثقفي الثورة، في اليوم المشؤوم ساد الصمت لأكثر من عشر ساعات من دون أكل أو نوم، ومع آذان الفجر نهض الجميع إلى الصلاة بما في ذلك المسيحيين، وبعد تنفيذ الحكم سمع الصهيل من الشباّك العالي، عشق الصوت، وقرر أن يفعل كل ما بوسعه لامتلاك الحبيب، أصبح شاويشاً، وهو مسجون يختاره السجانون لطباعه الخسيسة، وبعد أن صدر عفو عام، خرج من السجن والتحق بأجهزة الأمن، وأثبت كفاءته: “كنت أعتقل العائلة، بدل أن أعتقل المطلوب فقط، أدمر البيت بدل أن أفتشه…”، واقتنى حبيبه الحصان الذي بات شاغله في النهار، ومؤنس وحدته في الليل.
لماذا الحصان…؟! يجيب العاشق: “هو لا يهتم بمن أنجبه، أو بمن أطعمه، هو يدين بالكثير من الولاء لمن روضه وكسر أنفه وامتطاه… أسرجه وركّب الحديد في فمه وقدميه…” (ص158)، ومن عمق ظلام الخشبة تأتي النهاية مع اختلاط الصهيل بهتاف الحشود الهادر “الله، سوريا، حرية وبس”.
[ “زفرة السوري الأخيرة”، نصان مسرحيان، في 169 صفحة قطع متوسط.
[ الفارس الذهبي.
[الكتب خان، القاهرة 2013.
تهامة الجندي
المستقبل