حازم نهارصفحات سورية

زلمة” الدولة الفلانية”

حازم نهار

 لم تعد مسألة انتخاب رئيس جدي للائتلاف الوطني تحظى بالاهتمام كما في السابق. وأسباب ذلك عديدة، منها أن هذا الأمر قد أصبح ممجوجاً كونه غدا غاية في حد ذاته، إضافة إلى كثرة الوعود المعلنة وغير المنفذة من قبل الائتلاف وداعميه، فضلاً عن المعاناة الهائلة للسوريين التي تنتظر من ينهيها أو يخففها. كذلك فإن هذا التبديل المتكرر للرؤساء بفواصل زمنية قصيرة إنما يصب في إطار المراهقة السياسية وديمقراطية “الولدنة” لا في سياق الممارسة الصائبة للديمقراطية.

 لعل أكثر انتقاد متداول اليوم فيما يخص “الائتلاف الوطني” هو التعبير المتكرر: “فلان الفلاني هو زلمة الدولة الفلانية”، ويأتي هذا الاستخدام من أطراف عديدة، سواء من النظام ومواليه، أو من أهل الثورة أنفسهم أو من قبل معارضات أخرى على خلاف مع الائتلاف، وهو نقد صحيح في العموم. وعلى الرغم من علمنا بالأهداف الخفية الكامنة وراء إطلاق هذا النقد، فإنه من الجدير الانتباه أن للثقافة السياسية السائدة دورها في هذا الشأن. فتعبير “زلمة الدولة الفلانية”، وكذلك تعبير “العميل” لا يطلقان إلا عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع دول الخليج والدول الغربية، بينما لا يطلقان عندما يتعلق الأمر بالدول “القومية” و”الاشتراكية” و”الممانعة” و”التقدمية”، مع أن جميع الدول تتساوى في بحثها عن “زلمها”.

 نادراً ما يجري استخدام مثل هذه التوصيفات عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الدول آنفة الذكر. لم يكن شائعاً مثلاً القول أن أحمد بن بلة هو “زلمة” عبد الناصر، أو أن نصر الله هو “زلمة” الفقيه الإيراني، أو أن أحمد جبريل وعبد الله أوجلان وإميل لحود، وغيرهم، هم “زلم” الأسد الأب والإبن، أو أن كل “قادة” الدول “القومية”، كصدام والأسد والقذافي وبوتفليقة، هم “زلم” روسيا. بالطبع ليس من الضروري أن يكون كل “زلمة” دولة ما عميلاً لها، فهذا الأخير يعني أن الفرد في حل من أي التزام وطني ويعمل وفق أجندة تلك الدولة فحسب.

 بالطبع، من حق كل معارضة بناء علاقات خارجية مع الدول، تماماً كحق السلطات الحاكمة، فهذه العلاقات جزء من وجودها السياسي، على اعتبار أن كل معارضة هي سلطة بديلة أو حكومة ظل. وهذا أمر طبيعي في معظم دول العالم، ونادراً ما تستخدم تعابير مثل “زلمة” الدولة الفلانية و”عميل” الدولة الفلانية، بل يقتصر استخدام هذه التعابير على الأعمال ذات الطابع التجسسي والاستخباري. لا أحد يقول مثلاً عن رئيس أمريكي أو أوربي نجح في الانتخابات بأموال دول أخرى أنه “عميل” لهذه الدولة أو أنه “زلمتها”، فموازين القوى تلعب دوراً في توصيف الاستزلام والعمالة.

 لقد بنى النظام السوري أكبر شبكة من العلاقات، وعلاقاته مع الشرق والغرب، مع أمريكا وروسيا، مع الإسلاميين والعلمانيين، مع المسلحين وغير المسلحين، مع القاعدة والجماعات المتطرفة، مع الخليج وإيران، مع حزب الله وحماس، وجميع هذه العلاقات تصب في خدمة هدف أساسي هو بقاؤه واستمراره، وما كان للنظام أن يستمر من دون المساعدة الخارجية المتنوعة والقادمة من أطراف متناقضة سياسياً وأيديولوجياً، وهو يقوم بتغطية كل علاقاته المتناقضة تلك بخطاب حقوقي أو أخلاقي أو أيديولوجي. بمعنى آخر، فإن الأنظمة الشمولية، كالنظام السوري، وكذلك الأنظمة الهشة، كأنظمة دول الخليج، هي سلفاً أنظمة ناقصة السيادة الوطنية كونها تعتمد في وجودها على الموازين الإقليمية والدولية وليس على الشرعية الشعبية، وهذه الأنظمة تدفع معارضيها بالضرورة نحو نسج علاقات خارجية بقصد فكفكة وجودها، بحكم انعدام مسارات التغيير الداخلي الديمقراطي، كما ندرك أنه ليس هناك ثورة انتصرت من دون دعم خارجي، سواء الثورات التي قامت ضد المستعمر أو ضد الحكام المستبدين، وهذا ليس عيباً بحد ذاته، لكن النقد يطال الطريقة التي تدار بها العلاقات الخارجية للمعارضة وحدودها وأشكال الدعم وتأثيرها على مستقبل البلد وقراره الوطني.

 ننظر وراءنا فنجد أن إدارة العلاقات الخارجية للمعارضة السورية عموماً، بدءاً من الثورة وحتى اليوم، كانت هزيلة وكارثية. وعلى الرغم من أن هناك معارضات عدة نسجت علاقات مختلفة إلا أن هناك صفات جامعة فيما بينها، فقد اتصفت علاقاتها الخارجية بما يلي:

 1- علاقات خارجية فردية؛ فقد أديرت هذه العلاقات من جانب أفراد، وليس مؤسسات سياسية، لذلك كانت علاقات ساذجة، فهذا علاقته بالأتراك جيدة، وذاك بالفرنسيين، وآخر بالقطريين، وغيره بالروس…وهكذا. وليس من النادر أن تسمع أحدهم يفاخر بأن وجوده في “الائتلاف الوطني” مثلاً جاء بقرار من الدولة الفلانية، وهذا ما جعل من تعبير “زلمة الدولة الفلانية” صحيحاً في الكثير من الأحيان، مع العلم أن الدول يمكن أن تبيع “زلمها” بقشرة بصلة في لحظة ما، كما لاحظنا كيف لعبت “خفة” عدد من الأفراد في الإساءة للمعارضة وسورية والسوريين. ولا يخفى حجم الإساءات التي يجرها الاعتماد على الفرد فحسب في مثل هذه الأحوال لأنه عرضة للتحول إلى “زلمة” لهذه الدولة أو تلك، خاصة إذا ما كان مفتقراً للفكر والأخلاق اللذين هما جناحا كل سياسة صائبة.

 2- علاقات خارجية غير متوازنة؛ فأطراف المعارضة جميعها لم تبن علاقات متوازنة مع الدول، إذ اقتصرت علاقات بعض أطرافها على “الدول الصديقة للنظام”، وبعضها الآخر على ما سمي “الدول الصديقة للشعب السوري”، وكل طرف من أطرافها شن هجوماً على أحد معسكري الدول. وبنتيجة ذلك، أصبح وجود هيئة التنسيق مثلاً حاجة سياسية روسية إيرانية، بغض النظر عن حجمها وفاعليتها، حتى لو لم يبق فيها سوى حفنة من الأفراد، وبغض النظر عن رغبة أعضائها، إذ إن “حصر” الهيئة لعلاقاتها الخارجية بدول “المنظومة الاشتراكية” و”المنظومة المقاومة” له دلالاته الأيديولوجية ومؤشراته على مستوى السقف الذي رضيت به، خاصة في ظل رؤية هذه الدول للحل في سورية، وفي ظل مشاركتها ودعمها غير المحدود للنظام. إذا كانت روسيا وإيران لم تستطيعا الإفراج عن عبد العزيز الخير وزملائه، فماذا يمكن أن تتوقع هيئة التنسيق منهما؟

 كما يدلِّل نمط العلاقات الخارجية لهيئة التنسيق على شكل من أشكال عدم الثقة بالذات في التعاطي مع الدول الأخرى، أو ربما على “الفرح” بتوصيفات النظام للمعارضة بين “شريفة” و”غير شريفة”. لقد سجن النظام السوري عشرة مثقفين سوريين في أيار 2006 لأنهم وقعوا بياناً مع إخوانهم اللبنانيين باسم إعلان بيروت-دمشق، فما كان ليتهاون مع سعي المعارضة لإقامة علاقات خارجية مع مثقفين لبنانيين، فما السر الذي جعله يسمح لهيئة التنسيق بإقامة علاقات مع دول لو أن هذا الأمر لا يصب في مصلحته الآنية. وكذا الأمر بالنسبة للائتلاف الوطني الذي يعيش على التنفس الاصطناعي الخارجي فحسب، والذي اقتصرت علاقاته على الدول “الداعمة” له، وكأن الدول الأخرى غير موجودة على الخارطة السياسية أو غير فاعلة في المعادلة السياسية الخارجية الخاصة بسورية.

 3- الافتقار إلى رؤية متماسكة للعلاقات الخارجية؛ إذ لا توجد أي وثيقة عند أي طرف في المعارضة تعالج علاقات سورية الخارجية أو تضع محددات لعلاقات المعارضة بالدول. كان هناك دائماً مكتب علاقات خارجية في كل هيئات ومجالس المعارضة لكن من دون وجود وثيقة معتمدة تحدِّد مبادئ السياسة الخارجية، مثلما كان هناك مكتب إعلامي من دون وجود محددات وثوابت للخطاب السياسي الإعلامي تمنع الأفراد من أي كلام غير مسؤول. باختصار، فإن نمط الإدارة السائد عموماً هو من نمط عمل “الدراويش” الذين يتعاملون مع الوقائع والأحداث والحاجات على الطريقة “السبحانية”، على الرغم من أن المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية أمر حاسم في ما يتعلق بمواقف الدول تجاه النظام السوري وإزاء دعم الثورة السورية.

 4- افتقاد المنهجية العلمية؛ فالعلاقات الخارجية تقوم أساساً على معرفة الدول وأوضاعها السياسية ومصالحها الاقتصادية ونقاط ضعفها وقوتها، وعلى إدراك التعقيد الذي يلف عالم السياسة والعلاقات بين الدول، ففي هذا العالم تحدث مساومات ومقايضات عديدة، وقد يكون هناك تعاون خفي في مجالات محددة في الوقت الذي تكون فيها العداوة والخصومة هي الظاهرة، وأحياناً تتقاطع مصالح الأعداء في لحظة ما، بينما تلعب الأيديولوجيا والأديان والمذاهب دوراً ثانوياً جداً في كل ذلك. وفي هذا السياق، يغدو من الغباء تصديق كل ما يصدر عن دبلوماسيي الشرق والغرب، ومن السذاجة الاعتقاد أن الدول يمكن أن تحترم من “ينام” في حضنها أو من يبني علاقته بها بالاعتماد على “الشحادة” ، أو أن التقاط الصور مع الوزراء والسفراء مؤشر على العلاقات الطيبة.

 هل هذا نقد؟ نعم، لكنه يأتي من باب الحرص على تجاوز المعارضة بكل أطرافها للعيوب والثغرات والقصور، وليس من باب الإساءة أو التشهير، فهذا أمر سهل وغير مغرٍ. يسأل البعض عن الحل. الحل واضح، فكل نقد يتضمن بصورة أو أخرى بعض مكامن الحل. لكن أهم شرط للحل هو توافر شيء من التواضع الذي يسمح بالاعتراف بالفشل. عندها يمكن فقط الانتقال من تعبير “زلمة الدولة الفلانية” إلى مفهوم “رجل السياسة” أو بالأحرى “رجل الدولة”. وقد يكون الحل الجوهري، بحسب ما أرى، البدء من الآن ببناء أنماط جديدة من العمل السياسي، والذهاب نحو تشكيل قوى وأحزاب سياسية حقيقية تتجاوز التجربة السابقة التي قامت على تشكيل ائتلافات ومجالس وهيئات إما على أساس الأفراد أو بالانطلاق من قوى سياسية هشة ومتخشبة ومعزولة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى