صفحات العالم

ساحة الهوامش

يوسف بزي
في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الثورة السورية، تداعى ناشطون ومثقفون إلى اعتصام في ساحة الشهداء بوسط العاصمة (السبت 17 آذار). وهم عملوا طوال أسبوع على بث الدعوة إلى المناسبة ونشرها في أوساطهم الاجتماعية وعبر وسائل الإعلام، ومن خلال صفحات التواصل الاجتماعي الانترنتية. كذلك سعوا إلى التواصل مع أوساط حزبية لديها القدرة على التعبئة والحشد، طالما انهم طمحوا إلى الرد على ما شهدته الساحة نفسها من تظاهرتين متقابلتين، إحداهما للتيار السلفي على رأسها الشيخ (الداعية) أحمد الأسير، والثانية لحزب البعث السوري على رأسها فايز شكر. مشهد التظاهرتين كشف عن “فراغ” سياسي، ووهن لبناني عام إزاء الحدث السوري، و”نأي بالنفس” لا يتناسب لا مع عمق التحالف بين نظام بشار الأسد وقوى 8 آذار، ولا مع عمق العداء بين ذلك النظام وقوى 14 آذار.. عدا عن إدراك جميع اللبنانيين التأثير المصيري للحدث السوري على مستقبل لبنان الدولة والكيان.
هؤلاء الناشطون سعوا في اعتصامهم المنشود إلى الاعتراض على الاتفاق الضمني بين الطوائف المتصارعة وأحزابها، والذي يقضي بعدم النزول إلى الشارع تجنباً لأي صدام بينها، رغم المنسوب المرتفع في التحريض وفي الاصطفاف الحاد بين مؤيد للنظام السوري وداعم للثورة السورية. فيكتفي “حزب الله” بخطب حسن نصرالله وفق مناسبات الحزب التقليدية، كما تكتفي 14 آذار بالتجمع الأنيق في مركز “البيال” المغلق. وعلى هذا المنوال أفضى هذا الاتفاق الضمني (الافتراضي) إلى إخلاء الساحة وتركها لصالح هامشين: مجموعة سلفية تأتي بنحو ألف مشارك تسطع فيها نجومية المغني فضل شاكر (مع ما يعني ذلك من تفارق مع “السلفية” وسينوغرافيتها)، ومجموعة بعثية تأتي بنحو 300 مشارك يعلوها هتاف “شبيحة للأبد كرمالك يا أسد”.
وفي الحالين والمشهدين، ينكشف مفعول ذاك الاتفاق الضمني عن امتناع السياسة وتخثّرها ثمناً لـ “الاستقرار”، فيما المعركة المحتدمة تبقى لفظية وإعلامية فحسب. حتى إن الرئيس نبيه بري امتدح “تيار المستقبل” و”حركة أمل” و”حزب الله” في امتناعهم جميعاً عن النزول إلى الشارع والتواجد في الساحات، وكأنه، في هذا السياق، ينأى بنفسه حتى عن اظهار دعمه للنظام السوري، مترفعاً وجمهوره عن مشاركة حزب البعث في عراضاته وتظاهراته.
الناشطون الذين دعوا إلى إحياء الذكرى السنوية لاندلاع الثورة السورية وتضامناً معها، واظبوا طوال عام على تنظيم الاعتصامات والتظاهرات والوقفات التضامنية، خصوصاً في ساحة سمير قصير، برمزيتها الثقافية والمدنية واللاحزبية. وهم مرة واحدة نجحوا في حشد نحو ألفي مشارك في اعتصام كبير في ساحة الشهداء في أيار 2011، حين كان “الشطر” اليساري المقاوم من المجتمع الثقافي المدني منحازاً إلى مبدئية الحرية والعدالة، قبل أن يعود إلى اولوية الحفاظ على محور الممانعة، منسحباً بصمت من صفوف مؤيدي الثورة السورية، فعادت الاعتصامات إلى ساحة سمير قصير كي تكون هكذا مجموعة صغيرة وعنيدة، محاطة بقوى أمنية ضخمة تحميها فيما سكان بيروت يتذمرون من قطع الطرق وما تسببه من زحمة سير خانقة.
يوم السبت 17 آذار الحالي، وبعد جهد تعبوي مكثف، اجتمع نحو 500 مواطن لبناني في ساحة الشهداء، منهم نحو 150 سورياً، شكلوا كتلة نابضة وحية في قلب التجمع، فتنكبوا وحدهم إطلاق الهتافات والشعارات وتشكيل حلقات الرقص، ورفع اللافتات والصور، وممارسة “طقوس” التعبير على شاكلة ما نشاهده في تظاهرات المدن السورية وقراها. فيما كان اللبنانيون أشبه بالمتفرجين الصامتين لا يعرفون ما الذي يجب فعله. وهذا الفارق بين السوريين واللبنانيين هو أولاً الفارق بين “المشارك” في الثورة و”المتضامن” معها. وهو ثانياً الفارق المريب وغير المريح ثقافياً واجتماعياً بين السوري واللبناني، ويظل حاضراً وفاقعاً حتى في لحظة النوايا الصافية وصدق الود الوجداني.
قبل هذا الاعتصام بيوم، كان وليد جنبلاط قد قام بفعل رمزي صادم، حين وضع علم الاستقلال السوري (علم الثورة) على ضريح والده كمال جنبلاط. وقبل ذلك كان مهرجان 14 آذار صاخباً في اعلان تأييده للثورة السورية وفي “شراكته” للربيع العربي. وقد ظّن منظمو الاعتصام ان هذين الحدثين لا بد ان يشجعا الكثيرين من الجمهور اللبناني على النزول إلى ساحة الشهداء.
لكن ذلك لم يحدث فعلياً. بالطبع شهد الاعتصام كثافة حضور مقارنة بالاعتصامات السابقة، بلغت ثلاثة أو أربعة أضعاف عدد المشاركين، وشهد للمرة الأولى مشاركة “الأمانة العامة” لقوى 14 آذار، كذلك المشاركة الرمزية- رفيعة المستوى ـ للحزب الاشتراكي، ولقصر المختارة بالذات (حضور السيدة نورا جنبلاط). وكان لافتاً الحضور المنظم لمجموعة من الناشطين الآتين من الضاحية الجنوبية الذين وزعوا منشوراً يتضمن الخارطة السورية وقد كتب عليها “كل أرض كربلاء” وذيلت بعبارة للإمام الحسين “كونوا أحراراً في دنياكم”. هذا وجاء وفد رسمي من “القوات اللبنانية” مع مجموعة من نحو 80 من طلابها، وماثلها في الحضور “اليسار الديموقراطي”. ومن خليط المواطنين والمثقفين والصحافيين والناشطين اكتملت صورة هامشية جديدة لا سلفية ولا بعثية.
المتن إذاً للطوائف ولامتناع السياسة. وفي الهوامش يحتدم القول السياسي وفعله الميداني. وعلى هذه المعادلة ترسو الحالة اللبنانية ازاء الحدث السوري. الحدث الذي سيغير وجه المنطقة. وكأن لبنان في الثورات العربية هو “ساحة الهوامش”.
المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى