ساعة الموت المعجل
لما الخضراء – كمال جمال بك
دمّع بعضنا، وضحك بعضنا الآخر أو ابتسم بمرارة، حين دغدغتنا، قبل سنوات، ريشة علي فرزات. كاريكاتير تظهر فيه ساحة كبيرة بجموع غفيرة تنهمر فوقها القذائف، والجميع يتتابع عبر شاشة تلفاز عملاقة صورتهم في تلك اللحظة بالذات، حكاية موتهم على شاشات الفضائيات.
وكأنما قيّض لريشة فرزات أن تطير عبر الزمن وترى غد سوريا في مرآة الفن.
قبل عامين، وقبل أن ينخرط الشعب السوري في معركة الاصطفاف إلى جانب الثورة أو النظام، كان السوريون يحرصون على أن يطلوا على صورتهم من مختلف النوافذ الإعلامية الرسمية والعربية والدولية، رغم مرورهم آنذاك بما قد يصطلح على تسميته ساعة “ذروة خلط الأوراق إعلاميا”.
ومع تشكل ملامح الثورة، بدأت الاصطفافات الشعبية تنعكس في الإعلام، لتقسم السوريين بداية، فرقاً ثلاثاُ، أكبرها صامت مترقب متشكك في ما يقال عبر الإعلام، والثاني متعاطف مع الثورة، والثالث منحاز إلى النظام، لتتقلص الهوة بين الفئات الثلاث مع مرور الوقت، فينضم السوريون في معظمهم إلى أحد فريقين، يرى كثيرون إن أحدهما ظل يزيد لحساب الثورة، والثاني ينقص من حساب النظام .
ذلك أن قدرة إعلام النظام على خلط الأوراق وحياكة حبكات بوليسية، لم تصمد طويلا أمام تهاوي هذه الروايات مثل أحجار الدومينو – مناطقياً أولاً – أمام مشاهدات الناس للوقائع الحية في كل مدينة أو حي تشتعل فيه الثورة، واختلاف صورة الحدث السلمي كما يراه الناس بعيونهم، عما يجري عرضه في وسائل الإعلام الرسمي عن مسلحين ومندسين.
وكان أول سقوط لإعلام النظام في درعا مع اشتعال الشعار الشهير “كاذب كاذب كاذب… الإعلام السوري كاذب”، ومنها تمددت شرارة الأحكام على إعلام النظام لتبلغ حد التدنيس، وتقلب الكثير من الصامتين وبعض الموالين إلى صفوف المعارضة، بحكم ممارسات الإعلام الرسمي، الذي ساهم جديا في إسقاط القناع الأخلاقي عن وجه النظام حتى لدى بعض من أتباعه من غير ذوي المنافع الكبرى أوالاصطفافات الطائفية.
ومن موقع المظلوم الرافض لحالة العجز في مواجهة طغيان الإعلام الرسمي على الساحة السورية، حوّل نشطاء الثورة الإعلام الرسمي، إلى نافذة لتصيد أخطائه والتندر بها، على كثرتها، حتى صار ذلك سبباً في متابعة الكثير من السوريين لمحطات النظام، للتفكه بها ونشر عثراتها على صفحات التواصل الاجتماعي. وتحت ضغط حاجاتها، أنجبت الثورة جيلاً إعلامياً شاباً لتوثيق آلامها وانتصاراتها وأسست بهم لاحقا ظاهرة المواطن الصحافي لتنضج عبر مراسليها الميدانيين ما بدأه أسلافهم، أي شهود العيان من قلب الحدث. إلا أن الوجع السوري المتمدد وسع هذه الظاهرة لتتحول إلى ضخ لحظي وتوثيقي للأحداث، ما جعلها أقرب ما تكون إلى تدفق وكالات الأنباء في نقل الأخبار، منها إلى وسائل إعلام تمكن المتلقي من متابعة كل تفاصيلها.
في المقابل، بقيت المدن والمناطق التي لم تشهد حراكاً واسعاً، وتلك التي تم تخويفها، أو تجييشها طائفياً، ميالة إلى رؤية عالمها عبر صندوق الدنيا الرسمي، وأكثر قدرة على تصديق رواية النظام ومتابعة إعلامه وتخوين كل ما عداه، حتى تحول الإعلام الرسمي لدى فريق من السوريين المؤيدين الى مرتبة القدسية المطلقة، ولدى آخرين أقل تشدداً إلى ما يشبه إدمان الدراما الرمضانية، إذ وجدوا فيه أحداثاً وأبطالاً على شيء من الفكاهة المصطنعة ، وكأن ما يجري على الأرض ليس واقعا مأسوياً.
وبهذا كان السوريون، وفقا لاصطفافاتهم، يتابعون أخبارهم بعينين مختلفتين. وبينما كان معظمهم يتلقف الحدث ساخنا من واقعه أو واقع معارفه المأسوي بفعل جرائم النظام، كان أتباع النظام ومن بينهم إعلاميون، يسعون عبر التمسك بالرواية الرسمية إلى فتاوى للقتل وصكوك براءة من الجريمة، وارتداء ثوب الضحية حتى وصلوا إلى حد المجاهرة بالقول: “حتى لو كان إعلامنا يكذب علينا فهو الإعلام الذي يريحنا”.
ورغم أن إعلام النظام قد بقي مصنعا للراحة المعلبة لدى أنصار النظام عبر ترويجه لاحقاً لانتصارات كبرى في المعركة الكونية، إلا أن هؤلاء، ورغم الإنكار التام، تابعوا المحطات العربية والغربية، ووشت تعليقاتهم بمعرفتهم الدقيقة لما كان يعرض في ما يسمونها “المحطات المغرضة “.
لكن ما بدا لأنصار الثورة في بداياتها، تدفقاً إعلامياً عربياً وغربياً غزيراً لمتابعة أوجاعهم، بحيث يعوضون به الميل الفاضح في ميزان الشاشات الرسمية ضد الشعب، انقلب مع تمدد عمر الثورة إلى مشكلة زادت في إرباك الملف السوري مع بروز الأجندات الخاصة لكل وسيلة إعلامية، ومن ورائها الأجندات السياسية الإقليمية والدولية.
وبدخول عنصر سلاح الثورة للرد على عنف النظام، ازدادت حدة اشتباك الأجندات السياسية والإعلامية لتجاذب الساحة السورية. فبدأت وسائل الإعلام تلك بغزل علني لخيوط أولوياتها على الشاشات بما يغايرالحقيقة على الأرض، حتى صار مشهد سوريا عبر كثير منها مختلفاً عن واقعها، من حيث تركيز الأخبار على العناصر السلفية والأجندات الدينية الجهادية وتسليط الكاميرات على أعلام النصرة والقاعدة، ما ساهم في ابتعاد الأضواء عن مبادئ ثورة الكرامة والمواطنة في سوريا. وبمرور الوقت أدى تفاعل هذا الضخ الإعلامي”بحساب خلفياته السياسية” إلى تحويل ما يجري ضخه إعلامياً إلى واقع في بعض المناطق.
لكن أثر هذه الحالة الإعلامية المركبة على الملف السوري، والتي أغرقت الكثير من السوريين في أفكارها ومضامينها، قادت كثيرين غيرهم من متابعي هذه المحطات إلى النأي بالنفس عن اعتبارها مصدراً مقدساً للأخبار، بل وفقدوا الثقة بها.
وبين مطرقة إعلام النظام، وسندان الإعلام العربي والغربي، وجد المتلقي باباً إعلامياً ثالثاً للدخول إلى ساحة الحدث، عبر وسائل الإعلام السورية الخاصة المعارضة، التي تكاثرت كالأرانب بعد الثورة، والتزمت وتجنّدت لتغطية أخبارها. إلا أنها أصيبت في الكثير من الحالات، بأمراض إعلام النظام، الطائفية والمناطقية، بينما وقع بعضها الآخر في فخ الافتقار إلى المهنية وفوق هذا غياب الاستراتيجيات الإعلامية الضرورية في الخطاب مع المتلقي ضمن مشروع إعلامي وطني مؤسساتي سوري.
ومع توسع رقعة القتل والدم المسفوك في سوريا بحساب مفتوح، وإغلاق منافذ الحلول السياسية وغياب الجهات القادرة على القيام بها، وغرق السوريين في دوامات العتمة الإجبارية مع غياب الكهرباء عن يومياتهم، بات على المتلقين للموت المعجل هناك، أن يكونوا في عجلة من أمرهم أيضاً، فأجلوا متابعة الشأن السياسي الذي يراوح مكانه، واكتفوا بمتابعة التطورات الميدانية لمناطقهم بالذات، علهم يستقرئون حظوظهم المستقبلية المحصورة بين موت أونزوح جديد.
وعلى هذا، بقيت جموعنا وأيدينا في النار، كما في كاريكاتير فرزات، نتابع حكاية موتنا المعلن على شاشات الفضائيات، وخارج الصورة عالم ما زال يتفرج، يدمع، أو يضحك أو يبتسم… ربما بمرارة.
المدن