ستدرك إسرائيل يوماً أنّها كانت فرصةً ضائعة
عبد الحميد سليمان
كان إسحاق رابين بحق من القلائل في إسرائيل ممن يرون أبعد قليلاً من أنوفهم، ربما لأنّه كان من الرعيل المؤسس للدولة العبرية، ورجال الدولة أولئك الذين أثقلتهم هواجس الكيان، البقاء، وحتى المآل، وربما لأنّه قرأ أشياءً كثيرة في تلك الفسحة اللامتناهية، المفتوحة على كل الاحتمالات خلف الأسوار الراهنة لتفوق القوة. ولأنّه رجل دولة، فقد فهم أنّ القوّة وحدها لا تكفي، وأنّ إسرائيل بما تمثله لشعبها محكومةٌ، كي تبقى، بأنّ تصبح جزءاً عضوياً من نسيج محيطها، وأنّ تتفاعل معه في فضاءٍ معرفيٍ أساسه الإنسان لا الأرض، والاقتصاد بما يمثله من منافع لبني البشر، لا السيادة بما تمثله لهم من استلابٍ وعذابات.
على أنّ قلةً هم أولئك الذين فهموا رابين حقاً، سواءً في الدول العربية أو في إسرائيل، ربما لأنّ الأرض كانت دائماً حاضرةً بين الطرفين، وربما لأنّ الجميع قرأ السلام تسويةً على ورق، هناك من فوق، أو حتى هدنةً طويلةً بين حربين، فائض القوة كان هناك دائماً يسحر الإسرائيليين، يجعلهم يتناسَون أنّهم يمارسون فعل البقاء أو النجاة، وليس فعل العيش أو الحياة بوصفها البعدي اللامحدود. ونحن العرب كنا دائماً مسحورين بالديموغرافيا، وبالمستقبل الذي نؤمن أنّه ملكنا الخاص، وكأنّ الحاضر ومعه أطفالنا محكوم بأزمانٍ ماضية أو أخرى قادمة، هذا جعلنا أسرى لذهان الراهن، حيث كل شيءٍ مؤجلٌ إلى حين، والحين الذي لا يأتي غدا هامشياً بالتقادم أو بفعل التعود، هكذا كان لكلٍ منا سحره الخاص، مستقبليٌ يستلبنا عن حاضرٍ بائس، وحاضرٌ يستلبهم عن مستقبلٍ يعبق بالشكوك.
ثلاث رصاصات أطلقها إيغال عمير كان كافيةً للإتيان على الرجل، ليذهب كما غيره كثيرون ضحية الاستلاب الجمعي لبني البشر، وبقدر ما كان فعل القتل ينم عن غوغائيةٍ لا تفهم التاريخ، بقدر ما بدا رهاناً قديماً خاضه القاتل، كما الغوغاء دائماً، على القوة. رهانٌ بائسٌ، إذ يقصي البشر عن الضعف البنيوي القابع في ذواتهم؛ يريد لهم أن يبقَوا أبد الدهر أقوياء، ولكم هو محالٌ هذا، بقدر ما هو غير إنساني.
ومثلما كانت مغامرة رابين تلك إبحاراً بالإسرائيليين إلى المستقبل، وإلى ما يحمله من فضاءات، كان الربيع العربي عودةً بنا إلى الحاضر، من أسر الماضي وحتمية المستقبل، لقد عدنا ببداهة أولى إلى ذواتنا الراهنة، وحقنا الراهن بالحياة والحرية، والتكافؤ والنمو، بعد أنّ مرّت علينا عقودٌ طويلة أقصانا فيض القمع فيها عن عوالم الحاضر، مقارعة بؤسها وعيش روعتها، بكل ما يمثلانه لنا ولأطفالنا من حق، وفي طريقنا هذا الشاق إلى الحرية كان علينا أن نلقي عن كاهلَينا أعباء الماضي وأيقوناته التي أعيت آباءنا وأعيتنا، وأن نعبر بجسارة من حرمة الأرض إلى حرمة الإنسان، وأنّ نطرح على أنفسنا أسئلة الهوية كي ننعتق منها، صوغٌ جديد للذات وللآخر. التحديات صعبةٌ على أي حال، والإرث ثقيل، وبعض أفضلنا يسقط على الطريق، لكننا نتغير، ربما على تخوم الهاوية، لكننا نتغير…
حين ينعتق الحاضر من الماضي يغدو ساذجاً، هكذا كان الطغاة يقولون، لكننا لم نعد نقبل كل ما يقال لنا، نطرح أسئلتنا بصيغة الراهن… لماذا؟ لماذا لا يرى الإسرائيليون أنّ السوريين اليوم مختلفون، لماذا لا ينظرون أبعد قليلاً من رايةٍ سوداء، أو أبعد قليلاً من عمامة، ولماذا يمنعون عنّا المساعدة، ويوصدون في وجهنا أبواب الغرب، مما يخافون؟ ربما حان الوقت أن يخافوا الطغيان ولو لمرة، وأن يراهنوا على الحرية بما تمثله من مستقبل، ذلك أنّ السوريين خرجوا لا ليهدموا أوطان الآخرين، ولكن ليبنوا وطنهم، وبقدر ما يبدو هذا الطرح ساذجاً، بقدر ما هو حقيقي حين ينعتق من الماضي، ربما لأن بندقيةً يحملها رجلٌ ستيني ليحمي بها حفيده الذي بقي لأبٍ مقتول، لا ينبغي لها أن تخيف أحداً إلا القاتل، ومثلها سلاحٌ آن له أن يأتي كي ندفع به شتاء الموت عن قرانا…
ولكن الإسرائيليين على ما يبدو لا يزالون عالقين هناك، عند إيغال عمير ورهانه البائس على القوّة، يراوحون على التخوم ولا يتقدمون، تداعب أحلامهم مخيلة رابين، ورؤاه تلك التي تأخذهم إلى المستقبل، لكنهم لا يجرؤون على مبارحة الراهن وأمانه المشوب بالقوّة، يشبهون الطغاة في هذا. قصر النظر أمرٌ فظيع، ومثله الرهان على القوّة، لكن الثورة السورية أعادت تذكيرنا بحقائق بديهية تخص بني البشر… أنهم بشرٌ في النهاية، وهم بذلك محكومون بالضعف بقدر ما هم محكومون بالحرية. يوماً ما سيفهم الإسرائيليون هذا، يوماً ما سيدركون كما سواهم أنّها كانت فرصةً ضائعة.