سجانو سوريا: ابنكم “مش عنا”/ ميساء نقشبندي
يدق الباب موظفان يدعيان أنهما من “طابو” دمشق، ويريدان معاينة المنزل. يمر أحدهما بالغرف ويطلب دفتر العائلة. يسأل عن كل فرد وعمله، في حين يأخذ الآخر اللاسلكي ليتكلم خارجاً، ثم يعود، فينتظران. يأتي بعد قليل ثلاثة عناصر، ليطلبوا من ريم الساكنة الوحيدة في المنزل، بأن تدلهم على غرفة أختها الصغرى المحامية رزان. تدرك ريم حينها أنهم من المخابرات السورية. يدخلون غرفة رزان، فيقلبونها رأساً على عقب، ويصطحبون معهم أوراقاً وكتباً وكمبيوتراً وأقراص تخزين ويذهبون. ريم لم تستفسر عن هوية العناصر أو الفرع الذي يعملون فيه، وتستهجن أسئلة أهلها اللاحقة وهي باكية. فمن دخل بيتها من عناصر “الطابو” المزعوم، هم من طلبوا هويتها، وما كان لها أن تفكر بالمثل.
حقوق للسخرية
يتصرف عناصر الأمن في سوريا، وكأن حياة السوريين مُلك لهم. يحق لهم السؤال عن أي شيء. فالخصوصية كلمة مضحكة أمامهم، وكأنك أمام متنمر يحشر أنفه في دقائق أمورك، ويستهجن أشد الاستهجان أن تنكر عليه هذا التصرف أو حتى أن تستغربه. في الشارع أو على الحاجز، عند الدوائر الحكومية أو في فروع الأمن الكثيرة في البلد، الانتهاك هو الأساس والاكتفاء بقضية التحقيق هو مكرمة مستبعدة الحدوث.
داليا رسامة في الثلاثين من العمر، احتفظت على حاسوبها الشخصي، بصور حميمة مع زوجها السابق. اعتقلت مرة في فرع “أمن الدولة” في حي كفرسوسة في دمشق، في العام 2011، وهناك رأت صورها مطبوعة، يتبادلها عناصر الأمن، مع أن سبب اعتقالها كان التظاهر، وما من داعٍ في نظرها للتطفل على ملفاتها الشخصية، فكيف بطباعتها وتداولها! لكن عنصراً كاد يهوي بكفه على وجهها أعادها إلى الواقع. اعتقلت مرة أخرى من قبل فرع “الأمن السياسي” عام 2013، ليأتي ملفها السابق، وأول ما يطالع الضابط أمامها، هو تلك الصور.
لا يمكنك السؤال
من ذا الذي يستطيع السؤال عن مكان معتقل، أو أي تفصيل يتعلق بقضيته؟ لا يحق للمحامين أو العائلة ذلك، ورغم حدوث صدف نادرة استطاع فيها الأهل الحصول على جواب أو اتصال، إلا أن الحال العامة أنه لا يحق لأحد أن يعرف.
مخالفة القوانين الدولية ليست أمراً يؤخذ بعين الاعتبار، واخفاء أكثر من 65 ألف مواطن قسرياً ليس جرماً في سوريا. وبهذا تكون العصابات التي تخطف لفدية، أكثر عطفاً بالنسبة لأهل الضحية.
المهندسة الشابة ابنة حي الميدان الدمشقي راما، خُطفت قبل ثلاثة أعوام، وأطلق سراحها من قبل عصابة، قد تكون من عناصر الأمن المتكسبين، مقابل مليوني ليرة. لكنها اليوم معتقلة لدى النظام، منذ أكثر من عامين ولا خبر عنها. “جرم” راما غالباً هو تأمين إبر الأتروبين التي تستعمل لعلاج آثار غاز السارين، المحرم استخدامه دولياً.
والدة راما ترى أن العصابة التي خطفت ابنتها في المرة الأولى، كانت رحيمة معهم، فقد اتصلت بهم على الأقل، وفاوضتهم على فدية.
الكذب
تسأل على باب فرع الأمن عن إبنك الذي علمت أنه محتجز لديهم، فيجيبونك بأنه ليس عندهم. يخرج من شاركه الزنزانة ويوصل لك سلامه وإشتياقه من ذلك الفرع الأمني. فتذهب في اليوم التالي راجياً إيصال بعض الثياب له، فتسمع الإجابة ذاتها: “مش عنا”. تذهب وتستلم هويته بعد عام، وتتجرأ في فجيعة أن تسأل كيف قتل، فيكون الجواب جاهزاً لوالد نبيل الذي اعتقل من حاجز القدم: “مش عنا”. فـ”العصابات المسلحة” أغرب من كل خيال، وكذلك قدرة عناصر الأمن على الكذب.
فضح الأمر لن يفيدك
يجرب الناشطون وسائلهم المعتادة، ويحاول الإعلاميون لعب دورهم أمام حالات الاعتقال وتحديداً للشخصيات العامة، لكن ذلك وللأسف قد يزيد الطين بلة للمعتقل أمام محققه. أن تجد من ينادي بحريتك ويستطيع الجهر بذلك، هو “جرم” إضافي وتأكيد لتورطك غالباً. فمن ذا الذي يرفض سطوة الدولة أو يسائلها، إلا متحدٍ حاقد؟
حتى أمام باقي الموقوفات في سجن عدرا، كان ممنوعاً على الكاتبة الصحافية هنادي، أن تذكر تهمتها. قال لها مدير السجن: “فلتقولي لهم دعارة.. قتل.. سرقة.. ليس هناك سجين سياسي، حتى وإن كانت تهمتك نشر رأي سياسي”.
أدوات الاحتيال
يلجأ ذوو الموقوف وأصدقاؤه لأي وسيلة قد تخرجه من سجنه، وإن كانت الاستفادة من فساد أجهزة الدولة الأمنية. يحاولون رشوة أي عنصر يأتي بخبر أو يوصل رسالة أو غرضاً. وحتماً سيبعون منزلاً أو قطعة أرض لدفع مئات الآلاف أو ملايين الليرات، لضابط أو قاض يعفو عن معتقلهم الذي قد يكون، وكثيراً ما يكون، بريئاً لا علاقة له بما اعتقل لأجله.
خرج عمران ليأتي ببعض الأغراض من بيته، في منطقة الدخانية في العاصمة دمشق، ولم يعد. يأتي خبر بعد فترة من شخص التقى عمران في السجن، بأنه في فرع “الأمن العسكري 215” صاحب أعلى عدد وفيات تحت التعذيب، بمعدل سبعة معتقلين في اليوم، بحسب “مرصد توثيق الانتهاكات في سوريا”. معظم القتلى نتيجة الإهمال الصحي وقلة الطعام. مليون ونصف ليرة دفعها أهل عمران النازحين، لمن وعدهم بإخراجه. فاستلموا هويته من مشفى المزة العسكري بعد ستة أشهر، وأخبرهم الطبيب بأن لا جثّة للفقيد، ولا حجة ولا طريقة لاستعادة مدخرات حياتهم التي وضعوها لأجله.
الخطورة كهذه، والاحتمالات مفتوحة على مصراعيها. قد يعتقل أحد معارفك فيدلي باعترافات ضد كل من بادله السلام يوماً تحت الضرب والتهديد. وقد يموت دون أن تستطيع وداعه أو إيجاد أثر منه، وقد تنقطع بك سبل معرفة موته من حياته، وتمضي أيامك في انتظار فخوف فحزن فانتظار.
خمسة أجهزة أمنية لها عشرات الفروع والأقسام، تأكل حياة السوريين بدل تأمينها، وتسخر من قيم العالم المدني وقوانينه الدولية؛ “أمن الدولة” أو “المخابرات العامة”، “الأمن السياسي”، “العسكري” و”المخابرات الجوية” بالإضافة لـ”الأمن الجنائي”. لا تعني تلك الأجهزة الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، رغم توقيع سوريا على معظمها؛ كـ”العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” الموقع منذ العام 1969، و”اتفاقية مناهضة التعذيب” وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة عام 2004. تنكر الأجهزة ما تعلمه ضباطها في دورات في مراكز حقوقية داخل سوريا وخارجها، وما تلقنه عناصرها عن اتفاقيات مناهضة التعذيب، بعدما عمل “مركز جنيف” لسنوات بين ضباط الأمن.
خمسة أجهزة تواجه مئات التهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية حسب “منظمة العفو الدولية”، تسرب عنها خمس وخمسون ألف صورة لقتلى تحت التعذيب. صور تمثل خوف السوري ومقتله.
المدن