صفحات الثقافة

سفيتلانا أليكسيفيتش: نوبل للآداب 2015 مقالات متنوعة

 

 

 

سفيتلانا أليكسيفيتش تحوز نوبل الأدب بـ «أصوات» الضحايا/  عبده وازن

هل فازت روسيا البيضاء (بيللا روسيا) بجائزة نوبل للآداب أم أنّ التي فازت بها هي «أصوات» الذين يسكنون كتب الروائية سفيتلانا أليكسيفيتش، من ضحايا الستالينية والحرب العالمية الثانية والحرب في أفغانستان وتشرنوبيل؟ كأنه فوز جماعي هذا الذي حققته الكاتبة ابنة السابعة والستين، التي ولدت في أوكرانيا عام 1948 وفتحت عينيها باكراً على مآسي الحرب الثانية التي حصدت جدها وجدتها قتلاً على أيدي النازيين.

إلا أن النظام الراهن لم يرض كثيراً عن سفيتلانا على رغم تجذر أعمالها في الأرض الروسية والتاريخ وفي ذاكرة «شعب مشبع بالحنين والنكبة». فهي لا تتوانى عن توجيه سهام النقد إليه فاضحة الألاعيب التي يمارسها ومتحدثة دوماً عن نهب الثروات وعدم احترام القيم الإنسانية. ولئن اعترفت بأن مواطنين كثراً يرون في الرئيس الروسي الحليف فلاديمير بوتين «الشخص الذي يجسد المجد الروسي الغائب»، فهي تعمد الى السخرية منه، لا سيما في إطلالاته «الكاريكاتورية» عاري الصدر مثلاً، أو حاملاً بيده بندقية، كما تقول. فهذا الرئيس الذي «ينسى دوماً وعوده بالإصلاح أو يتناساها»، تأخذ عليه تعنته ومحاربته المثليين، ولا تنسى حملته الشعواء على فرقة «بوسي رايوت» الموسيقية وزجه مغنيتين في السجن عقاباً على نقدهما سياسته القيصرية.

أصابت الأكاديمية السويدية في تبريرها اختيار هذه الكاتبة، وفق ما جاء في بيانها، فأعمالها «المتعددة الأصوات تفنّد معاناة عصرنا» فعلاً، بل هي تمثل المأساة الروسية بظلالها المختلفة: الستالينية، الحرب الثانية، النفي إلى سيبيريا، خيبة البيريسترويكا، سقوط الاتحاد السوفياتي، تشرنوبيل، الفساد الرهيب… وفي كتابها «نهاية الرجل الأحمر»، تتحدث مهندسة تقارب الستين من عمرها وتدعى آنّا، عن حال الإحباط التي يعيشها المواطنون، بلسان الشاهدة: «لم يبق شيء سوفياتي. يجب علينا أن نتحايل حيثما كنا، أن نصارع. هذا العالم لم يعد عالمي. أنا لست في وطني».

كتبت أليكسيفيتش: «إنسيكلوبيديا العصر السوفياتي» كما يُقال، من خلال شهادات الرجال والنساء الذين عاشوا المآسي والمراحل التي اجتازتها روسيا. كانت اكتشفت أن المؤرخين أهملوا المصادر الحقيقية والحية في كتابتهم تاريخ روسيا الحديث ولم يعيروا انتباهاً الناسَ الذين عاشوا المآسي عن كثب وخسروا وأصيبوا وفقدوا الأهل والمنازل. راحت تجمع شهادات هؤلاء المهمشين شفهياً وتعيد كتابتها في صيغة تراوح بين السرد والتوثيق. وكم كان يؤلمها منظر المعوّقين والمشردين بعد انتهاء الحرب وانسحاب الجيش النازي. وتقول إن شخصاً من أربعة قتل في روسيا البيضاء جرّاء ويلات الحرب. لكنّها لم تقصُر سردها «الميداني» على الحرب الثانية، بل رافقت أيضاً ضحايا «القبضة الحديد» في ظل النظام البولشيفي، وقابلت جنوداً روسيين عائدين من جحيم أفغانستان ورووا لها فظائع ما ارتكبوا وعانوا هناك. وعندما وقعت كارثة تشرنوبيل تصدت لها وكشفت عن بضعة أسباب أدت إليها وفي مقدّمها الإهمال الكبير. وكانت جريئة جداً في فضحها الأخلاق البولشفية، هي التي كانت عضواً في منظمة الشبيبة الشيوعية، واعترفت: «كنا محاطين بلصوص نهبوا كل الثروات، كنا ساذجين». لكنها كانت تحلم بما تسميه «اشتراكية إنسانوية» لم يتحقق منها شيء.

لا تكتب سفيتلانا رواية تقليدية ولا تاريخية ولا رواية مغامرات، ولا تعنيها الشروط الثابتة للفن الروائي. كانت واضحة جداً في قولها إن روايتها هي «رواية أصوات». رواية شهادات أدلى بها أشخاص ينتمون الى فئة الضحايا الأحياء والمعزولين والمهمشين. هم يروون وهي تكتب، لكنها في كتابتها تعتمد نسيجاً سردياً متماسكاً ومسبوكاً. هذه المواصفات ميزت أدبها وأضفت عليه طابعاً فريداً. وهي استفادت كثيراً من خبرتها في حقل الصحافة لكونها صحافية سابقة، ولكن من غير أن تجعل من نصوصها مجرد تحقيقات صحافية. «لست بطلة» تقول علناً، لكنّ كتبها حافلة بالأبطال السلبيين، الأبطال الذين يعانون ويتعذبون على اختلاف المراحل التي ينتمون إليها، و «العذاب تقليد روسي» تقول سفيتلانا. وفي كتابها «الحرب ليس لها وجه امرأة»، جمعت شهادات نسوة انخرطن جنديات في الجيش الأحمر واعترفن لها بما يفوق التصور. ومن كتبها المهمة «توابيت الزنك» و «التوسل: تشرنوبيل»… ترجمت كتبها الى لغات عدة، لكنّ العربية لم تعرف لها أي عنوان.

الحياة

سفيتلانا ألكسييفيتش.. حاولت إنقاذ الإنسان من الكذب والنسيان/ اسكندر حبش

لم تخِب توقعات المراهنين على صاحب جائزة نوبل للآداب هذا العام (راجع «سفير» الأمس)، إذ ذهبت إلى الصحافية والكاتبة الروسية البيضاء سفيتلانا ألكسييفيتش بسبب «أدبها المتعدّد الأصوات والذي يمثل شاهداً على العذاب والشجاعة في عصرنا الحاضر»، كما جاء في حيثيات منح الجائزة من قبل الأكاديمية السويدية.

بفوز الكاتبة تعود اللغة الروسية إلى منصة التتويج إذ كان آخر مَن يكتب بالروسية وفاز بنوبل للآداب الشاعر جوزف برودسكي في العام 1987، لكنه حازها بصفته كاتباً أميركياً لا «روسياً»، بالأحرى لم يفُز بعد بجائزة نوبل للآداب أي كاتب «روسي» إذ إن بوريس باسترناك (1958، الذي أُرغم على رفضها) وميخائيل شولوخوف (1965) وألكسندر سولجنتسين (1970) فازوا بها بكونهم من «الاتحاد السوفياتي»، أما إيفان بونين التي فاز بها العام 1933 فكان من روسيا البيضاء وكان يعيش في منفاه الباريسي. بهذا تكون سفيتلانا أول امرأة تكتب بالروسية وتفوز بأكبر جائزة أدبية في العالم. كما تجدر الإشارة إلى هذه المفارقة الكبيرة: ثمة لغة تتوّج على منصة الأدب، لكنها تأتي عبر «دول» مختلفة، إن جاز القول.

المفارقة الثانية التي تجدر الإشارة إليها أن الكاتبة وقبل ساعتين من إعلان الجائزة، غرّدت على صفحتها في «التويتر» بأنها حازت الجائزة. وتساءلت العديد من مواقع التواصل الاجتماعي كما بعض المواقع الأدبية عن معنى ذلك، وعن كيفية معرفتها بالأمر (قالت الكاتبة إن اللجنة اتصلت بها لتخبرها عن فوزها قبل ساعتين من إعلان النتيجة)، في حين مالت «لو نوفيل اوبسرفاتور» (المجلة الفرنسية) إلى القول إن تغريدتها هذه قد تحجب عنها الجائزة إذ تفضل اللجنة الملكية السويدية الكتمان إلى أقصى الدرجات.

في أي حال تكافئ اللجنة الملكية كاتبة كلّ همها تصوير الواقع بأدق حيثياته، إذ عرفت هذه الكاتبة «الملتزمة» بقضايا المجتمع كيف تقف «ضد الحرب والعنف والكذب» وهي «الصفات التي كانت تلفّ الاتحاد السوفياتي السابق» وكيف «تنسج تاريخه». بمعنى آخر، هي كاتبة تستند إلى الواقع كي تسائل التاريخ والشرط الإنساني «لأولئك الذين يقفون قبالتي». ومن دون شك كان الشرط الإنساني الذي تحدثت عنه هو شرط الإنسان خلال الحقبة السوفياتية «ومصيره الذي تحطم من طوباوية تلك المرحلة التي كانوا يبشرون بها».

من روح إلى روح

يعتبر النقاد أدب سفيتلانا أدباً «قوياً ومتناغماً»، فكتبها الستة (الصادرة لغاية اليوم) تقع على «تخوم الكتابة الوثائقية»، لكنها تنطلق فيها دوماً من قصص حقيقية «مليئة بهمّ الحقيقة والعدالة». تقول الكاتبة عن ذلك: «أذهب نحو الإنسان كي ألتقي بغموضه (وسرّه) أذهب من روح إلى روح، لأن كل شيء يحدث هنا (في هذه الروح)». لهذا لم تلجأ يوماً في كتبها إلى «المتخيّل» إذ إن السرد «وحده هو الذي يتراءى لي بمستوى ما يحدث».

هذا ما حاولته في كتابها الأول «ليس للحرب وجه امرأة» الذي نشرته العام 1985، والتي جمعت فيها ذكريات ومذكرات المحاربين في الحرب العالمية الثانية. كتابها هذا افترق بشكل جذري عن «الأدب السوفياتي» الرسّمي الذي كان سائداً، والذي كان يمنع أي كتابة لا تمجّد تضحيات الجيش الأحمر والمحازبين والأنصار في تلك الحرب. بمعنى آخر حاولت، ومثلما تصف، أن تبتعد عن كل البطولات الزائفة أن «أُسمِع الحقيقة حول لاإنسانية العمل الإنساني الذي تمثله الحرب». حين صدر كتابها وصفته السلطة في تلك الفترة بأنه كتاب «غير وطني، طبيعي، منحطّ». إلا أن ميخائيل غورباتشيف، وبالرغم من كل الجدل الذي أثير، لم يمنع الكتاب، بل سمح له أن يكون في المكتبات، فبيع منه في «الاتحاد السوفياتي» ملايين النسخ.

وإذا كانت سفيتلانا نجت من المحاكمة مع كتابها الأول، إلا أنها لم تستطع النجاة من ذلك مع كتابها الثاني «نعوش الخارصين» («الزنك»، وفق الترجمة الفرنسية، أما العنوان بالروسية «أطفال الزنك») الذي أصدرته العام 1989 والذي دار حول شهادات الجنود المشاركين في الحرب الأفغانية. إلا أن الكتاب كان سبب شهرتها في أوروبا، إذ ترجم إلى العديد من اللغات، وقد وجد فيه «الغرب» ما كان يبحث عنه في تورط الاتحاد السوفياتي وغرقه في مستنقع الحرب الأفغانية. سبب هذا الكتاب دعوة تلقتها من السلطة، مع العديد من الكتّاب غيرها، لتمضية شهر على الجبهة الأفغانية. من هذه الرحلة انبثقت فكرة الكتاب، ويشير العنوان إلى الصناديق المعدنية (من الزنك) التي كان يعود فيها الجنود الشبان. من هنا طرحت فيه معنى هذه الحرب، ليشكل ما كتبته في تلك المرحلة أحد رموز البريسترويكا.

الاستجداء وتشيرنوبيل

هذه الشهرة، وهذه «الموهبة» في الكتابة تأكدتا مع كتابها الثالث الذي صدر بعد سبع سنوات بعنوان «الاستجداء، تشيرنوبيل، حوليات العالم بعد القيامة» ـ وهو الكتاب الذي لا يزال ممنوعاً في روسيا البيضاء لغاية اليوم ـ وتروي فيها سيرة «رجال ونساء» يتحدثون عن «درب الجلجلة» التي عانوها بعد حادث تشيرنوبيل النووي. كتاب قيل عنه إنه كتاب «متعدّد الأصوات» و«رائع». نعتان نعود لنجدهما في توصيف كتابها الأخير الصادر العام 2013 بعنوان «نهاية الرجل الأحمر» (الذي حاز جائزة ميدسيس الفرنسية بعد ترجمته)، وهو يختصّ «بهذا الرجل السوفياتي» (Homo sovieticus) إذ رغبت الكاتبة، على قولها، بأن تنقذه من الكذب الذي لفّه ومن النسيان الذي وقع فيه من خلال روايتها لأحلامه وما تعرّض له من براهين على الأرض وبخاصة أنها أرادت إنقاذه من هذا المصير المأساوي الذي عرفه. ما كان يهم الكاتبة «أن تعيد نحت تلك الحقبة»، أن تعيد التذكير بتلك «التشنجات» وبتلك «الارتجافات» التي كان يعاني منها الجميع. الهمّ الآخر الذي أرادت التعبير عنه في كتابها هذا أن تعيد التذكير بالتاريخ، لا التاريخ الموجود في الأرشيف والحوليات الرسمية والمسموح بتداولها، بل حاولت أن تكتب «تاريخ العواطف والروح والتجربة الإنسانية».

يميل العارفون بأدب سفيتلانا إلى القول إنها وبالرغم من إعلائها السرد كطريقة جوهرية في التعبير عن هذه المصائر إلا أنها في الواقع، كانت تعلي أيضاً شأن الصوت أو اللغة، إذ إنها تتمتع «بقوة كتابية كبيرة» إذ نجحت في إعادة بناء «إيقاع اللغة المحكية» من دون أن تنزع عنها صفاتها الأدبية: الأمر بالنسبة إليّ مثل الموسيقى. أصوات هؤلاء الأشخاص في داخلي وهم يرغبون في الخروج. عليّ أن أجد لذلك شكلاً». من هنا، لم تكن تخترع شيئاً، أو تستنبط حوارات، بل تجمع أقوال الأشخاص الذين تلتقيهم، «كلمات الشهود»، لتعود وتعمل على «تأليفها» مجدداً: «لا أبدل الجُمل أبداً. بيد أنني أحياناً لا أحتفظ إلا ببعض الكلمات التي أستلّها من صفحات حوارات طويلة. ألتقي بمئات الأشخاص، وربّما هناك شخص واحد بين عشرة أشخاص، أجد الكتاب لديه».

لست بطلة.. لقد لاحقتني تلك الأصوات

^ بالرغم من أنكِ تقولين إن هدف أبحاثك هو تاريخ العواطف لا الحرب بالفعل، إلا أننا نجدها حاضرة في كل مكان من عملك…

} كانت (الحرب) الحديث الوحيد عند العائلات. لقد توفي جدي لأمي في المعركة، وجدتي لأمي، قتلها الألمان. لقد قُتل شخص من بين أربعة في روسيا البيضاء خلال الأزمة، وكانت حركات المقاومة قوية جداً. بعد الحرب، كنّا نخشى الذهاب إلى الغابات التي تمّ تلغيمها. (في تلك الفترة) كنّا نرى العليلين الذين يتسولون الإحسان، إذ لم يكن لديهم أي مكان ليبيتوا فيه. بقوا على هذه الحال لغاية العام 1960 قبل أن يموتوا كلهم. في فترة مبكرة، بدأ اهتمامي بأولئك الذين لم يلتفت إليهم التاريخ. أولئك الناس الذين يتنقلون في العتمة من دون أن يتركوا وراءهم أثراً، والذين لم يطلب منهم أي شيء. لقد روى لي أبي كما جدتي العديد من هذه الأقاصيص وهي أكثر رعبا من تلك التي سجلتها في كتابي. لقد شكل لي ذاك الأمر صدمة في طفولتي وقد وسم ذلك ذاكرتي إلى الأبد.

^ كتبت خمــسة كتب خلال ثلاثين سنة، وآلاف الشهادات التي جمعتـــها، تعرضــت للعديد من النقد الشخصي، حتى أن قضــية رفعـــت ضدك: كيف نجحت بالقيام بهذا المشـــروع الفريد؟

} غالباً ما شعرت بأنني لن أمتلك القوة لأتمكن من الوصول إلى نهاية هذا المشروع. أذكر أنني ذات يوم تحاورت مع امرأة أمضت 15 عاماً في أحد المعتقلات تحت حكم ستالين لكنها استمرت بالرغم من كل شيء باعتباره فوق كل شيء. بكيت بسبب ذلك.

أذكر أيضاً أنني رأيت شباناً يعملون في مركز تشيرنوبيل بعد الكارثة من دون أي حماية خاصة. كذلك أذكر المستشفيات الأفغانية حيث شاهدت بأمّ العين القذارات التي كان يرتكبها جنودنا. لقد جعلني ذلك أفقد وعيي مرات عدة. لست بطلة. لقد لاحقتني كل تلك الأصوات. ولزمتني هذه السنوات بأسرها كي أبني هذا الصرح. هل كنت مخطئة في البدء بهذه المغامرة؟ أشعر اليوم أنني تحررت من ذلك.

^ لا يمكن تصنيف عملك لا ضمن خانة التاريخ ولا ضمن خانة الصحافة. كيف تحددينه؟

} في بلادنا، نسمي ذلك «رواية بأصوات»، وهو نوع أدبي استوحيته من «الس آداموفيتش». لقد أبان لي هذا الطريق عبر الوسيلة التي كان يمتلكها في وصل ما هو داخلي بالواقع. لا علاقة للأمر بالصحافة. أشعر بأنني مكبلة بهذه المهنة. المواضيع التي أرغب في الكتابة عنها، مثل غموض الروح البشرية، الشرّ، لا تهم الصحافة، كما أن المعلومات تشعرني بالسأم.

^ تقريباً، لا تظهرين أبداً في كتبك، بيد أنك تصفين نفسك بأنك «شريكة»..

} كلّ نظام توتاليتاري يخنق الناس. وإن كان هناك حلقة ضعيفة، فسينهار كل شيء. لذلك، نحن جميعاً رهائن النظام. كنت عضوة في الشبيبة الشيوعية مثل الجميع. وأنا طالبة، كنت أعتبر أنه ينبغي أن ننجح في أن نبني اشتراكية ذات نزعة إنسانية. لكن ما من أحد توقع هذا التتابع من الأحداث، لا غورباتشوف ولا الآخرون. كنا نتخيل مخططات ونحن في مطابخنا، كنّا سذجاً. في الشارع، وبسرعة، أحاطتنا العصابات التي صادرت كل شيء.

^ أن نؤمن بأيام أفضل بعد الرعب الستاليني كانت ردة فعل طبيعية، أليس كذلك؟

} التاريخ الروسي هو بمثابة تقليد طويل من العذاب. الناس مسكونة بهذا الوضع الشاذ. ثمة نوع من القدر، وبخاصة في روسيا البيضاء. كارثة تشيرنوبيل على سبيل المثال، لم تفضِ إلى أي نوع من تلك الجمعيات التي تدافع عن الضحايا، كما حدث أيضا خلال حقبة أفغانستان. في جميع العائلات التي التقيتها، كان هناك ضحايا بسبب الستالينية وفي جميع الحالات كانت ردود الفعل تتأرجح بين الاعتراف بالعذاب الكبير وذهنية العبودية. هل تذكرون ذاك الرجل الذي أمضى سنوات في مخيم الاعتقال، وبعد عودته تقاسم مكتبه مع الشخص الذي وشى به. كان الاثنان على علم بهذا الأمر، إلا أن الضحية لم يقل شيئاً. لقد فهمت عندها أن العذاب لا يقود الإنسان إلى التطلع إلى الحرية. هذه هي الفكرة الرئيسة في كتابي.

^ يبدو كتاب «نهاية الإنسان الأحمر» وكأنه متواليات رعب؟

} ليس لحياة الإنسان عندنا أي قيمة. من هنا كانت التسعينيات وسقوط الإمبراطورية حقبة من تصفية الحسابات، من هيمنة الوحوش. ما فهمته وأنا أكتب هذا الكتاب، أن ليس هناك ألم كيميائي صرف، وبأن ليس هناك فئات وأفراد معنية بذلك، بل لقد تحلل (الألم) في المجتمع بأسره.

^ تضعين أحياناً الرعب الشيوعي في مصاف الرعب النازي؟

} كان والدي طالب صحافة في فترة ما قبل الحرب في مينسك. اندلعت الحرب وهو في السنة الثانية. طلب أن يذهب إلى المعركة. وحين قال لأستاذه إنه تطوع، أجابه هذا الأخير: «هذه الحرب، هي بين فاشي يصارع فاشياً آخر. لكننا سنربح المعركة لأن جنودنا غير متطلبين». تساءل والدي جدياً إن كان عليه أن يشي بأستاذه بسبب ما قاله، بيد أنه رحل بعد فترة قصيرة من دون أن يحسم أمره بهذه القضية. حين روى لي هذه القصة، قال لي: «لن تتخيلي فعلاً ما فعلوه بنا».

^ هل يمكنك أن تتخيلي أنك قد تكتبين لاحقاً عملاً أدبياً خيالياً بالكامل؟

} لا يمكن أن نسأل أبداً ناثراً إن كان يمكنه أن يكتب عملا شعرياً! «رواية الأصوات»، هي النوع الذي اخــترته والذي سأتابع من خلاله عملي. لا تنقصني المواضــيع، فالشر دائماً يتخذ أشكالا. منذ دوســتويفسكي، لم نجد أحداً يتحدث بطريقة جــيدة عن هذا الموضوع.

كل هذه الحروب بعد سقوط الامبراطورية لا أحد جدير بأن يشرح هذه الضرورة. قال دوستويفسكي إنه بحث طيلة حياته عن الإنسانية في الإنسان. أجابه شالاموف بالقول إنه بعد عدة أيام في مخيمات الاعتقال، يختفي الإنساني..

(]) مقتطفات من حوار أجرته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية مع سفيتلانا أليكسييفتش في عام 2013، بعد صدور الترجمة الفرنسية لكتابها «نهاية الإنسان الروسي»

محطات

ولدت سفيتلانا أليكسييفتش العام 1948 في اوكرانيا، لكنها نشأت في روسيا البيضاء. هي ابنة لمدرسيْن، جعلاها تنتسب للكومسومول (الشبيبة الشيوعية زمن الاتحاد السوفياتي)، عاشت حياتها في قرية صغيرة قبل أن تنتقل إلى المدينة. تابعت دراستها الصحافية في روسيا البيضاء، لكن نظرا لمواقفها المخالفة للنظام، أرسلت لتعمل في صحيفة يومية محلية في إحدى البلدات الصغيرة.

تعتبر سفيتلانا اليوم واحدة من أبرز المعارضات للرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذي يحكم روسيا البيضاء منذ أكثر من عشرين سنة. تعيش حاليا في «مينسك»، بعدما عاشت لفترة طويلة في برلين.

أصدرت سفيتلانا الكتب التالية: «ليس للحرب وجه امرأة»، «أطفال الزنك»، «الاستجداء، تشيرنوبيل، حوليات العالم بعد القيامة»، «مسحورون بالموت»، «شهادات أخيرة»، «نهاية الرجل الأحمر أو زمن الوهم».

جائزة نوبل.. أجندات سياسية

اعتبر عدد من الكتّاب الروس حصول سفيتلانا الكسييفتش على جائــزة نوبــل بالدرجــة الأولى لكونها على صراع دائم مع الرئيس البلاروســي لوكاشــينكو من جهة، وأن الجائزة بحد ذاتها أصبحت تخضع للمعايير السياسية والايديولوجية.

وفي هذا الصدد قال الناشر ورئيس تحرير صحيفة «زافترا» (الغد) الكسندر بروخانوف: «إن الجائزة تقدم وفق أجندات سياسية وليس بحسب المعايير والكتابات الأدبية الجادة والمعاصرة. وأضاف أيضا أنها لا تقدم وفق القيم اللغوية والاخلاقية». وتابع الناشر «وعلى اعتبار أن نيلها الجائزة حدث لكون معظم كتاباتها هي ضد الدولة السوفــياتية في ذلك الوقت واليوم لا تزال على موقفها الايديــولوجي من الرئيس لوكاشينكو وتعتبر نفسها شخــصا مؤدلجاً أي أنها ضد النظام الشمولي كما تصــف النظام الحالي في بيلاروسيا.

عادت روسيا إلى العهد القيصري

«تباكت» الكاتبة دائما على ما يسمى المعارضة في روسيا واعتبرت نفسها انها تقف دائما الى جانب الحريات. واعتبرت أن هناك الكثير من الأدمغة والمثقفين يهربون إلى الخارج، وتتساءل لماذا 80 في المئة يؤيدون بوتين.

واعتبرت في حديث إلى صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» في نيسان الفائت أن اغتيال المعارض الروسي بوريس نيمتسوف كان كارثة على المعارضة. الجميع يقاطعها وبخاصة بعد عودتها من الخارج بعد غياب استمر 11 عاماً.

وفي الموقف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول الاوضاع في أوكرانيا اعتبرت الكاتبة الصحافية في المقابلة «ان تحسن الاقتصاد الأوكراني هو بمثابة حلم مزعج، الجميع ضد اوكرانيا وهي في مهب الريح، الشباب يهربون من الخدمة العسكرية. اوكرانيا بحاجة إلى المساعدة، الشعب الأوكراني يريد الاحتفال بانضمامه الى أوروبا ولا يريد الاحتفال بالأعياد الستالينية».

وعبرت عن امتعاضها كون الجميع في الفترة السابقة يهتفون «حرية ـ حرية»، أما اليوم فهم يهتفون: «بوتين ـ بوتين». وأضافت أن روسيا اليوم عادت الى العهد الامبراطوري بدلا من الثورة.

أيغور بوغزالوف طالب، 14 سنة

كانت فترة ممتازة حقا! كنت أوزع البيانات في المترو.. الجميع يحلمون بحياة جديدة.. نحلم بأن تعود المحال وتبيع النقانق بالسعر السوفياتي، وبأن يقف أعضاء البوليبورو في الصف كما الجميع ليشتروا منها. النقانق بالنسبة إلينا هي المرجع المطلق.. أشعر بالألم على أهلي، إذ يقــال لهم بصراحة: أنتم سوفيات حقيرون، لقد تبخرت حــياتكم في الهواء من أجل الخوخ (البرقوق)، كل ما حصل بســبب أخطــائكم منذ سفينة نوح، واليوم ما من أحد بحاجة إليكم. لقد اقتصدتم طوال حياتكم وفي نهاية الأمر، وجدتم أنفسكم بدون أي شيء.

كل ما حدث، كان السبب في تحطيمهم وفي تدمير عالمهم، لم يشفوا من ذلك، لن ينجحوا في هذه الانعطافة. كان أخي الصغير يغسل سيارات بعد المدرسة ويبيع العلكة وغيرها من هذه الحماقات في المترو، وكان يكسب مالا أكثر مما يكسبه والدي. كان عالما. حائز دكتوراه في العلوم. النخبة السوفياتية! حين ظهرت النقانق في المحال الخاصة، تدفق الجميع لشرائها. وقد رأينا أسعارها! هكذا دخلت الرأسمالية إلى حياتنا».

(]) مقطع من كتاب «نهاية الرجل الأحمر» (ص 193 ـ 194)

السفير

جائزة نوبل للآداب 2015: سفيتلانا ألكسيفيتش: صفعة للفكرة اليسارية/ يزن الحاج

عن «كتاباتها متعددة الأصوات التي تمثل معلماً للمعاناة والشجاعة في زماننا»، نالت الصحافية البيلاروسية التتويج الأدبي الأعرق أمس. لكن كل ما هناك أنّ الغرب بدأ يشعر بالذنب، و«نوبل» صارت مجرد تكفير عن هذا الذنب عبر منح جائزةٍ غربيّة لـ «آخر» يشبه الغرب!

لجائزة «نوبل» (972 ألف دولار) هذا العام نكهةٌ مختلفة. هذه السنة، لم تكن هناك مفاجآت. كان ثمة توافق نادر بين ترشيحات القرّاء والمهتمّين من جانب، والأكاديمية السويدية من الجانب الآخر. نالتها البيلاروسيّة سفيتلانا ألكسييفتش (1948). لا مفاجأة نظرياً، لكنّ المفاجأة كانت في الاسم بحد ذاته. أطاحت ألكسييفتش بالمرشَّحين الدائمين للجائزة، من فيليب روث ونغوجي وا ثيونغو إلى هاروكي موراكامي وكارول جويس أوتس. الفارق هنا أنّ ألكسييفتش أطاحت بالتعريفات السابقة للأدب كلياً. إنها ليست روائيّة بالمعنى المتعارف عليه، بل صحافية استقصائية تكتب نثراً توثيقياً.

«إنه جنس أدبيّ جديد» كما أعلنت السكرتيرة الدائمة الجديدة للأكاديميّة السويديّة سارة دانيوس. «نوبل» هذا العام تحمل بصمتين أنثويّتين: ألكسييفتش ودانيوس. اختفى بيتر إنغلوند السكرتير السابق للأكاديمية قبل أسابيع من إعلان النتيجة، واختفى معه الأدب بصيغته السائدة.

تُميّز ألكسييفتش على نحوٍ قاطع بين الفنّ والواقع. تعتبر الوثيقة صيغةً «أرقى» من الفن. لم تكن الأجناس الأدبية المتعارف عليها تكفيها. لذا حاولت ابتكار «جنس أدبي جديد» يجمع الفن والوثيقة ضمن قالب مختلف. لا نعلم ما إذا كانت الإشكاليّة هنا في تعريف الفنّ بذاته، أم في فهم ألكسييفتش له؛ فهي تعتبر أنّ «تعدّد المظاهر» داخل الإنسان الحديث أكبر من إمكانيّة الفنّ على التعبير. لذا التجأت إلى الوثيقة لأنّها «لا تكذب» على عكس الفن «الكاذب بطبيعته». تعتبر ألكسييفتش أنّ الفن لم يعبّر إلا عن وجهة نظرٍ فرديّة، فيما كان العنصر الوثائقيّ أكثر صدقاً في تمثيل الأصوات البشريّة على تنوّعها وتباينها. ولكنّها تميّز ـــ على نحو قاطعٍ أيضاً ـــ بين البشر، وتكرّس تصنيفاتٍ كنّا نظنّها قد انتهت مع انتهاء الحرب الباردة. لم ينسَ الغرب أنّ شرقاً كاد يحكم العالم، لذا أعاد طرح مقولاته السابقة عن وجود «عقليّة غربيّة متفرّدة» لنجد أصداءها واضحةً عند ألكسييفتش التي تعتبر أنّ جميعنا، أي «الناس القادمون من الاشتراكيّة لا يمكن مقارنتنا بالناس القادمين من الغرب. لدينا أفكارنا الخاصة عن الخير والشر، عن الأبطال والضحايا»، ولكن ليس هذا الاختلاف بمعنى التنوّع بل التمايز، لأننا «مليئون بالكراهية والتّحامل».

حاولت ابتكار «جنس أدبي جديد» يجمع الفن والوثيقة

ألكسييفتس منشقّة لو جاز التعبير. وهي لا تُخفي هذه «الكراهية والتحامل» بدورها حين تُسبغ تعريفاً أوحد مستمداً من القاموس الغربيّ الليبرالي بالضرورة، إذ تعتبر أنّ «الاشتراكيّة والفاشيّة هما فكرتا القرن العشرين. إنهما شديدتا التضليل والإغواء»، وهما بمثابة «لحظة عمى» تستنكر بقاءها إلى اليوم داخل «كل روسي». فالروسي ليس إلا «إنساناً أحمر صغيراً» لم يرتقِ إلى مستوى فهم البيرسترويكا وتطبيقها، بل «تابع عيشه مع إحساس بالهزيمة»، ليتجلّى هذا الإحساس في حروبٍ مستعادة، ويصبح الماضي الشيوعيّ لروسيا حاضراً ماثلاً بصيغة «غولاك جديد»، ويصبح الوقت «مُستعمَلاً ومستعاداً» كأنه لم يتقدّم، كأنّ الاتحاد السوفياتيّ لا يزال موجوداً إلى اليوم.

قد يبدو منح «نوبل» هذا العام إلى ألكسييفتش بمثابة صفعة غير مباشرة لبوتين الذي تعتبره مجرد ضابط «كي. جي. بي». لكنّ الصورة أكثر تركيباً، فالصفعة ليست لبوتين بقدر ما هي موجَّهة للحركات اليساريّة المُستعادة في أوروبا والولايات المتحدة على جميع المستويات الأكاديميّة والفكريّة والأدبيّة. لا يزال طيف ماركس ماثلاً بقوّة في الاحتجاجات الشبابيّة من اليونان إلى وول ستريت، عدا عن التحوّلات السياسيّة الكبيرة التي بدأت تُعيد تقسيم المجتمع إلى جماعتين متمايزتين ومتنافرتين بحدّة: اليمين المتطرّف واليسار الذي يحاول «رَدْكَلَة» نفسه مرةً أخرى. الحركتان تتعاظمان بالدرجة ذاتها تقريباً، ولذا ليس ثمة مهرب إلا باللجوء إلى «الخيار الثالث»، أي ليبراليّة بنكهةٍ يساريّة أو رأسماليّة «مُخفَّفة». لم تكن الصفعة موجَّهةً إلى حقل السياسة كما يبدو الأمر للوهلة الأولى بل إلى الحقل الثقافيّ والفكري، بخاصة هذا الحقل الذي بدأ منذ العام 2005 تقريباً باستعادة كارل ماركس بقوّة. إنها صفعة لآلان باديو، وفريدريك جيمسن، وديفيد هارفي، وجان- لوك نانسي، وجياني فاتيمو. هذه «وثيقة» أيضاً، لكنّ ألكسييفتش لم ترها، بل تماهتْ مع التقسيم الليبرالي للعالم اليوم.

تقدّم ألكسييفتش في كتبها صورةً مختلفةً عن الصورة التي تريد وسائل الإعلام السائدة والسلطات المكرَّسة ترسيخها. بدءاً من كتابها الأول «وجه الحرب غير النسوي» (1985)، وصولاً إلى كتابها «وقتٌ مُستعمَل: زوال الإنسان الأحمر» (2013)، تحاول ألكسييفتش أن تُنطق ضحايا الحرب غير المُعلَنين من النساء إلى الأطفال والبيئة («أولاد في الزنك» شهادات مباشرة من الحرب السوفياتية الأفغانية»، و»أصوات من تشيرنوبل، تاريخ شفاهي للكارثة النووية»)، والسيكولوجيا البشريّة بذاتها، أكان هذا تحت وطأة الحرب السوفياتية المباشرة، بدءاً من الحرب العالمية الثانية، أو غير المباشرة، في تأثيرها على أطفال أفغانستان. المشكلة هنا هي الانتقائيّة. لم تكن الحروب سوفياتيّة محضة، لا الحرب العالميّة الثانية ولا أفغانستان ولا حتى أوكرانيا. ثمة طرف آخر تتعامى عنه حاملة «نوبل» التي نالت الجائزة العريقة عن «كتاباتها متعددة الأصوات التي تمثل معلماً للمعاناة والشجاعة في زماننا» على ذمة بيان الأكاديمية السويدية.

جديد «نوبل»؟: لا جديد عموماً. ثمة تنويعات على أفكار قديمة، «مستعملة» هي أيضاً. الجائزة لا تزال «بيضاء» في الغالب الأعمّ، ولم تعد معبّرةً حقاً عن ألوان الطيف الأدبيّة والثقافيّة في العالم. كلّ ما هناك أنّ الغرب بدأ يشعر بالذنب. «نوبل» لم تعد أكثر من تعبيرٍ عن التكفير عن الذنب الغربي عبر منح جائزةٍ غربيّة لـ «آخر» يشبه الغرب، حتى لو لم يكن غربياً. «الوثيقة لا تكذب أبداً»؛ كذا تكلَّمتْ سفيتلانا.

الأخبار

سفيتلانا أليكسيفيتش: نوبل للآداب 2015 لها وجهُ امرأة/ محمد علاوة حاجي

لم تخب توقّعات “نوبل للآداب” هذه المرّة؛ إذ لم يخرج الاسم الذي أعلنته رئيسة “الأكاديمية السويدية”، سارا دانيوس، عن قائمة المراهنات التي شغلت الأوساط الأدبية مؤخّراً، معلنةً تتويج كاتبة ظلّ اسمها يُطرح للفوز بالجائزة منذ سنوات.

الروائية والصحافية البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش (1948) هي الفائزة بجائزة نوبل للآداب لعام 2015، بعد أن عادت العام الماضي إلى الروائي الفرنسي باتريك موديانو (1945).

وقالت دانيوس إن اختيار أليكسيفيتش جاء بالنظر إلى “كتاباتها متعدّدة الأصوات، والتي تُعتبر معْلماً للمعاناة والشجاعة في عصرنا”.

المثير أن الكاتبة البيلاروسية أعلنت خبر فوزها عبر صفحتها الشخصية على “تويتر”، قبل ساعتين من إعلانه رسمياً من قبل “الأكاديمية السويدية” في تمام الحادية عشر صباحاً بالتوقيت العالمي.

وُلدت أليكسيفيتش في أوكرانيا لأبوين يعملان في التعليم، عاشت في بيلاروسيا لفترة، حيث درست وأنجزت أبحاثاً عن الصحافة، ثم استقّرت في برلين لسنواتٍ عدّة، قبل أن تعود إلى مينسك عاصمة بيلاروسيا، وتبدأ في إصدار كتبها.

منذ صدور روايتها الأولى “الحرب ليس لها وجه امرأة” (1985)، التي تناولت موضوع الحرب العالمية الثانية ودور الاتحاد السوفيتي سابقاً فيها، أصبح كلّ كتاب تصدره بمثابة حدث مهم. تضم الرواية مونولوغات لسيّدات خضن الحرب الثانية؛ إذ تحدّثن عن أحداثها التي لم يتطرّق إليها أحد من قبل.

أثار العمل ضجّة كبيرة واحتلّ قائمة الكتب الأكثر انتشاراً. وبسببه، طاولت الكاتبة اتّهامات كثيرة من دوائر السلطة، منها “معاداة الروح الوطنية”. غير أنها لقيت دعماً من غورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفييتي آنذاك.

ظلّت ثيمة الحرب ملازمة لكتاباتها. في روايتها التالية “آخر الشهود”، وصفت ذكريات خاصة بالأطفال الذين عاشوا الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1993، نشرت كتاباً بعنوان “مأخوذ بالموت”، تناول قصصاً حقيقية حول محاولات انتحار بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي.

أمّا “نهاية الإنسان الأحمر” فكان بمثابة خاتمة لسلسلتها التي أسمتها “موسوعة الحقبة السوفييتية”، واشتغلت فيها على تثبيت آثار سبعة عقود من تاريخ الإمبراطورية الروسية (1917 – 1991). حاز العمل جائزة “ميديسيز للدراسات” في فرنسا عام 2013، واختارته مجلة “لير” كأفضل كتاب في تلك السنة.

تصدّر اسم أليكسيفيتش قائمة التوقّعات بنيل الجائزة هذا العام، إلى جانب الروائي الياباني هاروكي موراكامي. ضمّت القائمة أيضاً النرويجي نجوجي واثيونغ والأميركيين جويس كارول وفيليب روث والشاعر الكوري الجنوبي كو أون والنمساوي بيتر هانديك والأيرلندي جون بانفيل. وظهرت أفريقيا في واجهة الترشيحات بكل الكيني نغوغي ثيونغ والصومالي نور الدين فرح والنيجيري بن أوكري.

العربي الجديد

سفيتلانا أليكسيفيتش: ما لم يقله الرجال عن الحرب/ أمير داود

تنطلق أعمال سفيتلانا أليكسيفيتش، الحائزة “نوبل للآداب” لعام 2015، من اشتغالاتها على استعادة أصداء الصوت الإنساني في الحروب والكوارث. مزيج مريح من العمل الصحافي والأدبي في الوقت نفسه.

بهذه الطريقة، تعيد إحياء المشاعر الإنسانية الجديدة المتولّدة في اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت: “هناك مشاعر جديدة تولّدت لدى الناس عقب كارثة تشيرنوبل النووية؛ الخوف من الإنجاب مثلاً. لقد أحدثت الكارثة خللاً جينياً هائلاً، أفضى إلى خوف من إعاقات وتشوّهات قادمة”. هذا صوت من أصوات أكثر من 500 ناجٍ وناجية سجّلت الكاتبة رواياتهم عن الكارثة التي حلّت ببلدها بيلاروسيا منتصف الثمانينيات.

لا تُخفي صاحبة “وقت مستعمل” (2015) تأثّرها بالنمط الجديد للرواية الذي طوّره مواطنها أليس أداموفيتش، والذي تصفه بـ “الرواية الجماعية”. إنها مجموعة من الأصوات الإنسانية التي تشكّل في تشابكها ما يشبه الجوقة الملحمية. تقول: “أمضيتُ وقتاً طويلاً أبحث عن نمط أدبي يقترب بي إلى الواقع لدرجة الملامسة. بهذه الطريقة، فقط، أستطيع أن أنقل أصوات الناس إلى الورق”.

تضيف: “لا أسجّل تاريخاً جافّاً للأحداث، بل أدوّن تاريخ المشاعر الإنسانية. بماذا فكّر الناس، مثلاً، ماذا فهموا وماذا يتذكّرون من الأحداث، ماذا صدّق هؤلاء، وما هي الأشياء التي لم يفهموها. ما هي الخدع، الآمال، والمخاوف التي عايشوها؟ هذه أشياء من الاستحالة تخيّلها أو اختراعها. نحن ننسى الأشياء بسرعة، خصوصاً إذا حاولنا استعادتها بعد عشرين عاماً. مثلاً، نخجل أحياناً من تاريخنا ومن أفكارنا، ونرفض تصديق ما حدث”.

تقول أليكسيفيتش: “يمكن للفن أن يكذب، لكن التوثيق لا. صحيحٌ أن الوثائق هي من إنتاج الأشخاص ومن نتاج عواطفهم ورغباتهم. لقد قمت بتأليف كتبي من خلال عشرات الآلاف من الأصوات، وقد أخذ منّي كل كتاب من ثلاث إلى أربع سنوات، وفي مرّات أخرى وصلت إلى عشر سنوات. لقد قابلت وسجّلت أصوات من 500 إلى 700 شخص في كل كتاب، ابتداءً من الذين شهدوا ثورة العام 1917 في روسيا، مروراً بالحروب والمعتقلات الستالينية، وحتى وقتنا الحاضر”.

سلّطت الضوء في كتابها الأول “الحرب ليس لها وجه امرأة” (1985) على أكثر من مليون امرأة سوفييتية شاركن في الحرب العالمية الثانية، تتراوح أعمارهن بين الخامسة عشرة والثلاثين، انخرطن في الحرب تماماً، في مهن متعدّدة، من قيادة الدبّابات مروراً بوحدات القناصة، وليس انتهاءً بقيادة الطائرات: “في الحقيقة لم تكن النساء فقط ممرّضات وطبيبات”، تقول عن ذلك.

وفي الكتاب، تستدعي شهادات النساء في هذه الجوانب من الحرب التي لم يذكرها الرجال. تناولت النساء لاحقاً روايات مختلفة، كإعلان مخاوفهن من المرور بين الجثث: “كانت الجثث كأكوام البطاطا”، لكن الرجال تكلّموا عن ذلك بطريقتهم. بعد الحرب، كان على المرأة أن تخوض حرباً أخرى، أن ترمي شارتها وبزّتها العسكرية وشهادات الإصابة جانباً، لأنها الآن تريد أن تتزوّج وتبني عائلة. “سرق الرجل النصر من النساء”. تقول أليكسيفيتش.

في كتابها الثاني “أطفال الزنك: أصوات من الحرب الأفغانية” (1992)، سلّطت الضوء على شهادات الرجال والسيدات والأرامل الذين عايشوا الحرب الأفغانية السوفييتية التي استمرّت عشر سنوات، أثناء استقبالهم جثث الأقرباء في توابيت الزنك. حاولت استعادة المشاعر المتولّدة في تلك اللحظة وتوثيقها بكل التفاصيل، مستعينةً بشهادات أكثر من 700 شخص.

يكاد يكون كتابها الثالث “صلاة تشيرنوبل: أصوات من الكارثة النووية” (2006) أكثر كتبها إثارة للجدل على الصعيد الداخلي والأكثر مبيعاً. وصلت مبيعاته إلى قرابة مليوني نسخة. تقول: “لم أشأ أن أتحدّث عن أسباب الانفجار.

هناك علماء يفعلون ذلك، (فقدت أختها وأصيبت والدتها بالعمى جراء الانفجار) أريد فقط أن أكشف المشاعر الجديدة المتولّدة عن التغيّرات النفسية التي أحدثتها الكارثة، عن التحولات الجينية التي تركت أثراً كبيراً لدى السكان هنا. قام المخرج الإيرلندي جوانيتا ويلسون بتحويل الرواية إلى فيلم قصير مدّته 16 دقيقة تحت عنوان “الباب”، وقد رُشّح إلى الأوسكار.

يبدأ الكتاب وينتهي مع شهادة أرملتين: الأولى، زوجة رجل إطفاء شابة من بريبيات الأوكرانية التي تحولّت إلى مدينة أشباح بفعل الإشعاعات. قضى الزوج ليلاً، أثناء محاولات إطفاء النيران التي اندلعت خلال الكارثة.

الثانية، زوجة رجل كان ضمن 600 ألف شخص تم تكليفهم بدفن التربة السطحية الملوّثة وإطلاق النار على كل الحيوانات في المنطقة، وكان آخر من قضى من وحدته. زارته زوجته في المستشفى، بينما لم يكن قادراً على الكلام، سألته: “هل تشعر بالندم لذهابك إلى هناك؟” هزّ رأسه نافياً، وكتب لها على ورقة: “عندما أموت، اعرضي السيارة والإطارات الاحتياطية للبيع، ولا تتزوّجي من توليك”. توليك هو شقيقه. ولم تتزوّج منه.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى