صفحات المستقبل

سلوى تداعب روح والدتها في حمص


عمر حرقوص

لم تكن تعلم سلوى ذات السبعة أعوام أن هذا العيد سيكون مختلفاً عما قبله، كانت تبيع القداحات على إشارة شارع الغوطة بحمص، لم تتمكن منذ 5 أيام أن تغادر ذلك الحي التاريخي (بابا عمرو) فقوات “الشبيحة” أحاطت الحي بهالات الموت والدماء وانهالت على سكانه بقذائف الغدر والخيانة.

انبطحوا جميعاً على الأرض، باردة كانت الأجواء على عكس دمائهم.. قنبلة مسمارية اخترقت جدار بيتهم ووزعت الموت بالتساوي على أجساد أهلها.. كسرعة البرق شعرت بجسد أمها ثقلاً فوق جسدها النحيل، قالت ببراءة (شبك يامو!!)، لوهلة أحست أن أمها تود مداعبتها، لكنها سرعان ما استفاقت من فكرتها.. أي مداعبة تلك بين القذائف.. شيء دافئ بدأت تشعر به سلوى.. أحمر.. يسيل فوق وجهها.. إنها دماء والدتها.. كانت لحظات غاية في الخفقان.. استشهدت أمها كي تحميها.. ضاع صراخها بين أصوات القذائف.. في هذا الزمن لا يسمع العالم صراخ أطفال سوريا.. ما يسمعوه هو خشخشة الدراهم.

قصة سلوى ليست من نسج خيال مدير صفحة “مغسل ومشحم حمص للدبابات” على موقع “فايسبوك”، بل هي حقيقة عاشتها عائلة من حمص، فقدت الأب في البداية وبعده الابن لتبقى الأم وابنتها.. الابنة التي حاولت بعد إصابة أمها أن تشعل بعض النور من قداحة كانت موجودة في الغرفة، أضاءت الغرفة فقرر “الشبيح” ذو الدبابة أن يستكمل ضرب منزل “الإرهابيين” فقتلت الفتاة بقذيفة جديدة.

الفتاة الصغيرة أي سلوى كان الكثيرون من أهل حمص يعرفونها، فهي التي كانت تقف عند اشارة الغوطة وتبيع القداحات للناس بعد أن تخرج من مدرستها.. الناس في حمص سمعوا في الأخبار أن عائلة ابيدت وسمعوا أنه تم قتل أخطر “إرهابية” كانت تشتري الوقود لمنصات الصواريخ.. هذه الإرهابية كانت الطفلة سلوى بائعة القداحات عند إشارة السير في منطقة الغوطة.

قصة حياة سلوى تشبه من بعيد قصة “بائعة الكبريت” للكاتب الدنماركي هانس كريستيان، والمعروفة عبر العالم، ولكن موت سلوى واستشهادها لم يمر على أطفال العالم بهذه الوحشية، فأمها قبل مقتلها حاولت أن تحميها من الشظايا المسمارية فماتت فوقها، وحين حاولت أن تشعل بعض النور في عتم هذا الموت استعجل رامي المدفعية قذيفته ليصيب منزلاً “إرهابياً” لم يسأل إن كان من فيه يحملون سلاحاً أم هم أطفال كمثل سلوى لا شيء يملكونه إلا قداحات صغيرة يبيعونها للناس.

في القصة تقترب سلوى من أمها، “بدأت بيدها المرتجفة برداً تمسح شعرها المخضب بالدماء، صرخت: (بردانة يامّا!!) لم تنفع محاولاتها أن تبث الدفء في جسدها.. تناولت ما تبقى لها من قداحات لم تبعها.. أشعلت أول قداحة.. كشمعة في الليل.. تنير لكن لا تدفئ.. الدفء بات حلماً في حمص.. مطلباً محقاً كالحرية.. كخلع الظلام من كراسيها”.

آخر ما رأته سلوى.. كان نوراً من نوع آخر، أشد وهجاً من نور قداحتها.. ودماء أشد سيلاناً من دماء أمها.. كان مزيج الألم والبرد والبارود هو أكسير الشهادة التي احتفلت به سلوى”.

جسد سلوى البارد، في البيت المدمر أم في القبر الصغير الذي لا يحوي بلاطة رخامية كما كل الموتى في العالم، يرتجف هناك من البرد، ويرتجف بالتأكيد من الخوف، الذي قضاه في الساعات الأخيرة، قد يطلع صوت الطفلة طالباً النجدة من الناس، ولكن الناس لا يسمعون من هدير الدبابات ورعد القذائف، أو انهم يسمعون ولكنهم يفضلون الابتعاد عن المكان وترك شبح الموت يدخله زائراً يومياً يلتقط الشبان والنساء والأطفال والرجال، كأنه “ينقّي” حبات قمح بسرعة.

إنها سوريا التي تقاوم الطغيان وتحاول أن تصل إلى بر أمان بعيداً من القتل، ولكن في حمص هناك الكثير من القصص اليومي الذي يحكي الناس وألمهم وكذلك فرحهم، فصفحة المغسل نقلت ايضاً قصة عن شاب كان يصلي في مسجد الرفاعي يوم الجمعة، لفت نظره ان أحدهم إلى جانبه ينظر إليه طويلاً، وبشكل غريب، سأله الشاب، لماذا تنظر إلي بهذه الطريقة؟ قال له: عندما تأتي للمسجد في المرة الثانية ضع السلسلة التي تحمل فيها الصليب تحت الكنزة، وضحك له. كان الشاب من مسيحيي المدينة آتياً ليلتقي الناس في المسجد ويخرج معهم بعد الصلاة إلى التظاهر، هذه سوريا وهؤلاء ناسها الذين سيصنعون حريتهم بسلمية مهما حاول “الشبيحة” أن يغيروا التاريخ.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى