صفحات الرأي

سمير أمين.. والربيع العربي


تناوله من منظور ماركسي على عكس العديد ممن كتبوا عنه

هاشم صالح

أصدر سمير أمين مؤخرا كتابا عن الانتفاضات العربية المندلعة حاليا وذلك تحت عنوان: العالم العربي ضمن المدى الطويل: هل هو «ربيع» عربي حقا؟ وكان متوقعا أن يتدخل في الموضوع لأنه أحد كبار المفكرين المعنيين بالشؤون العربية منذ زمن طويل. كان المؤلف قد ولد في مصر عام 1931 من أب مصري وأم فرنسية، وكلاهما طبيب. وهذا يعني أنه ولد في عائلة بورجوازية، هو الذي سيصبح لاحقا أحد كبار المناضلين الماركسيين المضادين للبورجوازية والرأسمالية والإمبريالية. نشر سمير أمين حتى الآن عشرات الكتب. نذكر من بينها: مصر الناصرية، ومسار ثقافي: نظرات على نصف قرن (وهي مذكراته الشخصية)، ثم الحداثة والدين والديمقراطية، إلخ.. أمضى طفولته وشبابه الأول في بور سعيد حيث نال شهادة البكالوريا من مدرسة فرنسية عام 1947. وبعدئذ سافر إلى باريس لإكمال دراساته الجامعية والنضال السياسي في صفوف اليسار الفرنسي. وبالتالي فهو ينظر إلى الأمور من منظور ماركسي تقدمي مستنير على عكس العديد ممن كتبوا عن الثورات العربية حتى الآن. من هنا أهمية الاطلاع على تحليلاته دون أن يعني ذلك الاتفاق معه على كل شيء. فهو أحيانا يظل سجين اللغة الماركسية القديمة المهووسة بالإمبريالية والرجعية.. إلخ..

يرى هذا الأستاذ الجامعي والباحث المصري أن هذه الانتفاضات المتفجرة قسمت تاريخ العرب إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. وذلك لأن هذه الحركات الاحتجاجية غيرت النظام الاجتماعي الداخلي للبلدان العربية، مثلما غيرت مكانة هذه البلدان داخل الساحة السياسية الإقليمية والعربية. فهذه الانتفاضات العارمة لا تهدف فقط إلى إزاحة الديكتاتوريين عن سدة الحكم، وإنما تهدف أيضا إلى إحداث تغييرات ضخمة على المدى البعيد. إنها صرخة غضب ضد التفاوتات الاجتماعية الفاحشة بين الأغنياء والفقراء داخل البلدان العربية، كما تمثل صرخة غضب ضد النظام الاقتصادي العالمي الجائر. إنها تريد إخراج العرب من حالة التبعية والخضوع للغرب الذي ينهب ثرواتها وخيراتها. ويمكن اعتبارها على الصعيد السياسي صرخة احتجاج ضد إملاءات السياسة الأميركية والأطلسية على العرب، يضاف إلى ذلك أن هذه الحركات الاحتجاجية تهدف إلى دمقرطة المجتمع العربي وتحقيق العدالة الاجتماعية أو الحد الأدنى منها. ولهذا السبب فإنها ستدوم سنوات وسنوات لأن مطالبها لن تتحقق فورا وإنما على المدى الطويل. من هنا خيبة الأمل التي سيشعر بها الشباب الثائر لا محالة. انظروا ما يحصل الآن في مصر وميدان التحرير..

ويلاحظ سمير أمين أن دور الشباب والشابات في هذه الثورات كان رائعا لأن الشباب العربي تسيّس من جديد مؤخرا. لقد تسيس بطريقته الخاصة خارج إطار أحزاب المعارضة اليسارية التقليدية. ولكنه لم يتسيس ضدها. فهناك في هذه اللحظات بالذات تناغم عميق بين شباب ميدان التحرير وأحزاب اليسار الماركسي الراديكالي. يضاف إلى ذلك أن شباب تونس المستنير وشاباتها ينزلون الآن إلى الشارع للدفاع عن الثورة الحقيقية والمكتسبات التقدمية ضد جحافل السلفيين والقوى الظلامية.

وهنا يحذر سمير أمين الغرب قائلا: «هناك خطر في أن تسطو القوى الأصولية الرجعية على هذه الانتفاضات الرائعة وذلك بدعم وتواطؤ من الولايات المتحدة. فهذا هو مشروعها الحالي الذي لا يكاد يصدق! وللأسف الشديد فإن أوروبا سارت وراءها بشكل أعمى. فالجميع الآن لا يحلفون إلا باسم الإخوان والإسلام (المعتدل) من ألان جوبيه إلى هيلاري كلينتون! لماذا يدعم الغرب هذا التحالف بين القوى الرجعية في مصر وقوى الإخوان المسلمين؟ بل لا يدعمه فقط في مصر وانما في كل أنحاء العالم العربي من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وما بينهما. ولكن هذا المشروع المضاد لحركة التاريخ لن يقدم أية حلول ناجعة لمشاكل مصر وشعب مصر. ولذلك أقول بأن حركة الاحتجاج الشبابي سوف تستمر وتتوسع طيلة الشهور والسنوات القادمة لمقاومة هذا المخطط الخارجي المضاد لقوى الاستنارة العربية».

يضاف إلى ذلك أن هناك مشروعا شيطانيا شريرا يهدف إلى تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات متنافسة ومتناحرة فيما بينها. ويقف خلف هذا المشروع الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن هذه العملية لن تكون سهلة التنفيذ في رأي سمير أمين. لماذا؟ لأن الشعور الوطني أصبح قويا في البلدان العربية المهددة بالتقسيم. وهو لا يعتقد أن العصبيات الطائفية والمذهبية سوف تتغلب على الشعور الوطني العام. ولكن يبقى هناك خطر جدي دون أدنى شك. فالطائفية لا تزال قوية وكذلك القبلية والعشائرية. أما فيما يخص ليبيا فالحالة أكثر فجائعية ومأساوية لأن حالتها تختلف كثيرا عن حالة تونس ومصر. ويرى سمير أمين أن المجلس الانتقالي مليء بالمتشددين وبالمحافظين، لا بالتقدميين. ومن كان تقدميا همشوه تحت ضغط قطر والأصوليين. فمثلا رئيس المجلس الانتقالي الحالي مصطفى عبد الجليل لا علاقة له بالديمقراطية.. أما بالنسبة لأميركا فليس البترول هو الذي تريده لأنه في جيبها حتى قبل الثورة. وإنما تريد أن تضع ليبيا تحت الوصاية لكي تقيم فيها القيادة العسكرية العامة لأفريقيا كلها. ومعلوم أن مركز هذه القيادة موجود في مدينة شتوتغارت بألمانيا حاليا. ومعلوم أيضا أن البلدان الأفريقية رفضت إقامة هذه القواعد العسكرية الأميركية على أراضيها. ولكن ليبيا الجديدة ستقبل على ما يبدو. وهناك أيضا خطر في تقسيم ليبيا إلى دولتين أو ثلاث ولكن مع المحافظة على وحدة شكلانية كما حصل في العراق بعد الغزو الأميركي. ومع ذلك فإن ليبيا أفضل دون القذافي. فربما تمخضت هذه المرحلة الانتقالية المترجرجة أو الفوضى الخلاقة عن نظام جديد. وبالتالي فالمستقبل مفتوح..

في هذا الكتاب المضيء يقول سمير أمين ما يلي: «لقد دشنت سنة 2011 من قبل انفجارات الغضب العارم للشعوب العربية. ولكن السؤال المطروح هو التالي: هل سيكون هذا الربيع العربي قادرا على تقديم أجوبة على المشاكل الحارقة والملحة للشبيبة العربية؟». في رأي المؤلف أن هذه الأجوبة لن تكون ناجعة وشافية إلا إذا تخلت الشعوب العربية عن أوهامها القديمة والماضوية المتمثلة بأسلمة المجتمع والسياسة على طريقة الإخوان والسلفيين. فعقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء. وحتى لو عادت فلن يكون ذلك إلا لفترة مؤقتة.

الفصل الأول من الكتاب مكرس لدراسة الانتفاضات الربيعية. إنه يتموضع في الزمن الراهن. أما في الفصول الأربعة التالية فيحاول المؤلف أن يموضع هذه الانتفاضات داخل منظور المدة الطويلة لتاريخ العرب والعالم. ولكن بما أنه مصري فإنه يركز اهتمامه على الحالة المصرية دون أن ينسى الحالة التونسية أو سواها. وهو يشرح لنا كيف أن الحركة الشعبية المصرية التي أدت إلى إسقاط مبارك هي عبارة عن تتويج لسيرورة تاريخية طويلة تشمل القرن العشرين كله وحتى بدايات الواحد والعشرين. وهذه السيرورة التاريخية شهدت على مدار أكثر من قرن تقدمات وتراجعات، أو مدا وجزرا. المرحلة التقدمية تجسدت في حكم الوفد (1936)، والحكم الناصري (1952-1967). وأما المرحلة الارتكاسية أو التراجعية فتمثلت بحكم السادات ومبارك المدعومين من قبل واشنطن والرجعية العربية (1967-2011). ومعلوم أن هذين الرئيسين لعبا بورقة الإخوان المسلمين على عكس الوفد وجمال عبد الناصر. ويرى سمير أمين أن الخطأ الكبير الذي ارتكب في عهد السادات ومبارك هو إيكال نظام التعليم، والقضاء، بل وحتى الإعلام، للإخوان المسلمين. وهكذا تحكموا بعقلية الشعب المصري وراحوا يوجهونها في الوجهة التي يريدون. انظروا إلى سيطرة الشيخ الشعراوي وسواه من الوعاظ البارعين في الحديث على الفضائيات المصرية. الملايين كانت تستمع إليه مثلما تستمع إلى القرضاوي الآن. لماذا فعل السادات ومبارك ذلك؟ لكي يكسبا ود الشارع الإسلامي ويمنعا بالتالي أية دمقرطة للمجتمع المصري الذي يظل مخدرا تحت تأثير الغيبيات والخرافات.. وهنا يكرس المؤلف صفحات مطولة للإخوان المسلمين الذين يقودهم أشخاص مليارديريون، ويقول بأنهم لم يلتحقوا بالثورة في ميدان التحرير إلا بعد بضعة أيام من اندلاعها. وقد التحقوا بها لمصادرة الحركة الشعبية الثورية الديمقراطية بغية السيطرة عليها وإجهاضها، أو إجهاض مضمونها الاجتماعي التقدمي، بمساعدة القوى المحافظة الداخلية والخارجية. وقد تلاقى ذلك مع مخطط واشنطن التي لا تريد اليساريين والديمقراطيين الحقيقيين في الحكم لأنهم يرفضون التبعية للغرب. بهذا المعنى فإن واشنطن تفضل حكم الإخوان لمصر على الطريقة الباكستانية التي كانت متبعة من قبل السيئ الذكر ضياء الحق. وهكذا عبر الدراسة المعمقة للحالة المصرية يقدم لنا المؤلف إضاءات عديدة تساعدنا على فهم الرهانات الحقيقية التي يواجهها العالم العربي حاليا.

نلاحظ أن سمير أمين يشيد إشادة كبيرة باللحظة الوفدية لسعد زغلول؛ حيث تألق التاريخ المصري. ومعلوم أن حزب الوفد تشكل عام 1919 وكان يهدف إلى التحديث السياسي لمصر عن طريق تبني الصيغة البورجوازية للديمقراطية الدستورية. وهذا ما يدعى بالمرحلة الليبرالية من تاريخ مصر والعرب؛ حيث ازدهرت العلوم والفنون والآداب وظهرت شخصيات كبرى كأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، ونجيب محفوظ، وبقية النهضويين.. والآن أصبح نجيب محفوظ «عارا» على مصر! من يصدق ذلك؟ نعم هذا هو منظور عبد المنعم الشحات وبقية السلفيين والمتخلفين عقليا. وهذه اللحظة الليبرالية المجيدة من تاريخ مصر شهدت نوعا من العلمنة للمجتمع المصري. وهي علمنة راقية تجسدت حتى في شكل العَلَم ذاته حيث يتعانق فيه الهلال مع الصليب كرمز لوحدة البلاد بكلا شقيها الكبيرين الإسلامي والمسيحي.

وقد فوجئنا مؤخرا بظهور علم الوفد هذا في ميدان التحرير بعد طول غياب.. وكان يرفرف عاليا.. ويا لها من مفاجأة سعيدة.. وفي تلك الفترة الليبرالية المشرقة جرت انتخابات ديمقراطية حرة أتاحت للأقباط ليس فقط أن يُنتخبوا من قبل أغلبية إسلامية وإنما أيضا أن يتبوأوا مناصب رفيعة في الحكم والدولة دون أن يثير ذلك حساسية أحد. ولكن للأسف فإن هذا العصر الذهبي للتنوير المصري والتعايش الإسلامي – المسيحي لم يدم طويلا. فقد تآمرت عليه الكتلة الرجعية المؤلفة من القصر وكبار الإقطاعيين والباشاوات وأجهضت هذه المكتسبات الديمقراطية لمصر الوفدية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون القصر والسفارة الإنجليزية قد دعما آنذاك تشكيل حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928. ومعلوم أنها تستلهم الفكر السلفي الماضوي لرشيد رضا، أستاذ البنا. وهي الحركة الأكثر رجعية والأكثر معاداة للديمقراطية والتقدم الاجتماعي من بين كل الأحزاب السياسية العربية. وهكذا نجد أنفسنا مع الانتخابات الأخيرة وقد عدنا إلى المربع الأول، إلى نقطة الصفر من جديد! وهذا يعني أن معركة التنوير العربي لا تزال أمامنا لا خلفنا..

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى