صفحات العالم

سوريا، والمعادلة اللعينة


خوسيه ماريا ريداو **

ترجمة: الحدرامي الأميني

استخدم بشار الأسـد وجود مقاومة مسلحة  من أجل تقديم مذابح المدنيين التي ترتكبها  قوات الحكومة على أنها معارك بين قوتين متنازعتين

كان تأسيس الجيش السوري الحر هو حُجة بشار الأسـد ونظامه ليشوهَ صورة      احتجاجاتٍ تنامت بطريقة سلمية منذ ربيع 2011 حتى أشهر قليلة خلت، ويُظهرَها على أنها مواجهة حربية، وحرب أهلية. بيد أنّ الحُجة أتت بالأثر المرغوب من قِبَل الأسـد، والذي كان تغييرَ طبيعة العنف الذي كان يمارسه حينذاك، ومازال يمارسه الآن، ضد مواطنيه. لم يكن مهماً كثيراً أن الجيش الحر ما كان في بداياته إلا أكثر بقليل من عنوان قادر على حفز إرادة مجموعة من الرجال سيئي التسليح، وهو بالضبط حاله اليوم: لقد تشبث الأسـد بوجوده من أجل تقديم ما هي، في حقيقة الأمر، مذابح للمدنيين ترتكبها القوات الخاضعة لإمرة الحكومة، على أنها معارك بين قوتين متنازعتين. من جانب آخر، كانت المذابح تقنع العديد من السوريين بأن الطريقة الوحيدة لحماية أنفسهم بمواجهة خبل الأسـد هي الانضمام الى الجيش السوري الحر وعدم الاقتصار على المخاطرة بحياتهم في مقابل لاشيء من أجل التظاهر السلمي.

إذا كان هنالك من بلد قد اكتسب حق المقاومة المسلحة منذ انطلاقة الانتفاضات العربية فهو سـوريا. فالمعارضون للأسـد قدموا أكثر من ألف جثة في شوارع مدن البلاد الرئيسية قبل أن يقرر قسم منهم على الأقل حمل السلاح. إن شعوراً بالحد الأدنى من العدالة يمنع من لومهم على خيارهم، ذلك أن البديل الوحيد الذي كان، وما يزال، يُقَدَّم لهم هو الاستمرار في التعرض للقتل. لكنّ حداً أدنى كذلك من الرغبة في التوصل إلى خاتمة سريعة توفر معاناة  أكبر، يحول، بدوره، دون أن نهنئ أنفسنا بأن المعارضين السوريين استعملوا حقهم في المقاومة المسلحة التي تساعدهم. فبخلاف ما حدث في ليبيا، حيث عمَّت المواجهة الحريبة بين نظام القذافي والمعارضين منذ اللحظة الأولى تقريباً، فقد كان في وسع القوى الكبرى لشهور طويلة أن تتفادى تدهور الوضع في سوريا إلى المأساة الراهنة .

ليست المسؤولية واحدة بالنسبة للجميع، ولا هو أيضاً الوضع نفسه. الولايات المتحدة وبعض الشركاء الأوروبيين، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي نفسه، أخطأوا في الاستراتيجيات المتبناة بخصوص سوريا. روسيا والصين، في المقابل، بحثتا بشكل متعمد عن تقديم غطاء دبلوماسي للأسد ونظامه. ولم تكن استجابتهما مخلتفة عن تلك التي تبنتها فرنسا بخصوص تونس، أو الولايات المتحدة بخصوص مصر، عندما بدأت الانتفاضات:    إعطاء الأولوية للدفاع عن المصلحة القومية على التطلعات المشروعة لأولئك الذين انتفضوا ضد أنظمتهم الديكتاتورية، متخيلين أنها أهداف متناقضة. حاولت فرنسا والولايات المتحدة تصحيح خطأيهما بطريقة مرتجلة، كما حاولت إسرائيل أيضاً بعد دعمها الأولي لمبارك. لكن هذا لم يحل دون دفعهم الثمن بخسارتهم لبعض النفوذ السياسي في المنطقة، إلى درجة أن قسماً من الدعم المتصاعد للأحزاب الإسلامية في البلاد التي تمر بمرحلة انتقالية له علاقة مع حقيقة أن نظرة المواطنين العرب لم تتغير مع الثورات: الأنظمة الديموقراطية التي دعمت الطغاة في ذروة قوتهم استمرت في فعل ذلك عندما بدأ هؤلاء بالترنح، وقد  صححوا موقفهم تحت وطأة الأحداث فقط.

بالنسبة إلى هذه النظرة، فإن انتصار المتظاهرين على ابن علي ومبارك كان أيضاً نصراً على القوى التي كانت متواطئة معهم. أما في حالة ليبيا، فإن النظرة ليست مختلفة رغم تضمنها بعض التمايز الطفيف : المنتصرون في الحرب الأهلية ما زالوا يتساءلون حول إيلاء أهمية أكبر للدعم العسكري الذي قدمته لهم في الساعة الأخيرة بعض القوى، أو للتواطوء مع القذافي خلال أكثر من أربعين عاماً، ماعدا بعض الفترات، ضاربين صفحاً سواء عن جرائمه أو عن تصرفاته الغريبة. وفي غياب جواب قاطع، يبدو أن هناك ميلاً لديهم لتفكير ذي جذور وطنية، بأنهم لا يدينون لأحد بشيء. فالدعم العسكري الذي قدمته بعض القوى في الساعة الأخيرة هو تصفية للدَين الذي حملوه نتيجة تواطئهم مع القذافي، ولذلك فإن ليبيا، ليبيا الجديدة وقادتها الجدد، يعتبرون أنفسهم أبرياء الذمة تجاه أية مديونية للخارج.

حتى اللحظة، تبدو روسيا والصين وهما تكرران في سوريا الخطأ الذي ارتكبته قوى أخرى في تونس ومصر، وفي ليبيا أيضاً. إن الإعلان الحديث الصادر عن رئاسة مجلس الأمن بدعم وساطة الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي لم تعارضه روسيا والصين، يمكن أن يكون خطوة إيجابية، بانتظار ماسيحدث في الاجتماع الذي ستعقده الأمم المتحدة الأربعاء القادم والبيان الذي ستقره، إذا ما تم إقرار أي شيء في نهاية الأمر. لم تعارض روسيا والصين الإعلان الخاص بدعم كوفي انان لأن الوساطة التي يقوم بها، تنطلق، في الحقيقة، من مفهوم أن سوريا، كما يصر الأسد ونظامه، غارقة في حرب أهلية وأن الأمر، بالتالي، يتعلق بنزاع بين قوتين متصارعتين. يمكن أن يكون الأمر كذلك إذا ما تم غض الطرف عن التفاوت بين القوات الحكومية وقوات الجيش الحر، وإذا ما تم، بالإضافة إلى ذلك، تناسي أن الأولى هاجمت خلال مدة طويلة متظاهرين سلميين، وأنها تقاتل الثانية، منذ أسابيع، من خلال قصف أحياء بكاملها حيث العائلات المحاصرة تصارع للبقاء.

وجّه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الانتقادات الأولى للنظام السوري، مؤكداً أنه ارتكب “أخطاء كثيرة” منذ بداية الأزمة و أنه “دائماً ما يتصرف متأخراً”. يمكن أن يشكل هذا خطوة إيجابية أيضاً ما لم تكن النتيجة الطبيعة لهذه الانتقادات، أن الأسـد ونظامه، بكل بساطة، يجب أن يصححوا مسارهم وأنه من الأفضل أن يفعلوا ذلك متأخرين على ألا يفعلوه أبداً. لأنه، إذا كانت النتيجة الطبيعية على هذا النحو، فإن ما يُفهَم منها هو أن للأسد ونظامه شرعيةَ الاستمرار شريطة فتح حوار مع المعارضين أو تنفيذ بعض الإصلاحات السياسية. والدعم الروسي لدور كوفي انان، إذا ما صح هذا الافتراض، وتوجد مؤشرات تدعو لتأكيد صحته، يقتصر على فتح القنوات وتوجيه ذلك الحوار أو تلك الإصلاحات. إلا أن الأسـد ونظامه، بعد أن ذبحوا آلاف الرجال والنساء والأطفال منذ بداية الانتفاضة، يفتقدون أية شرعية للاستمرار في السلطة. والتعويل على مخرج من الأزمة يعتمد على حوار افتراضي مع المعارضين وإصلاحات سياسية، لا تقل افتراضية، يعني أن نحاول، عبر كوفي انان، ما سبق وأن تمت محاولته من خلال الجامعة العربية وانتهى إلى الإخفاق.

لقد آل مصير سوريا إلى أن يصبح معتمداً بشكل كبير على ما تقرره روسيا، وأيضاً،على ما تقرره الصين، بالرغم من بقائها الحذِر في الصف الخلفي. فإذا تبنت كلا القوتين محاولة تصوير مجازر الأسد ونظامه بحق المدنيين التي تزداد هولاً كل يوم على أنها مواجهة حربية وحرب أهلية، فإن شلل المجتمع الدولي عندئذ قد يتعرض لخطر التكلس، مهما كانت مضنيةً جهودُ وساطة مستحيلة تقريباً، وبغض النظر عن الشخصية أو الهيئة التي تقوم بها. إن أية وساطة يمكن أن تكسب الوقت دائماً، رغم أن هذا ليس إنجازاً يُذْكَر عندما تكون عشرات، بل مئات الأرواح البشرية، على المحك. لكن المعادلة اللعينة التي اندفع إليها الأسـد ونظامه تستمر من غير حل. فكلما تشبث الأسـد ونظامه بالسلطة محارباً احتجاجات السوريين كما لو أنها حرب أهلية، كلما فقد المزيد من الشرعية. وكلما فقد المزيد من الشرعية، كلما ازداد تمسكه بالسلطة محارباً احتجاجات السوريين كما لو أنها حرب أهلية. قدَّرت الأمم المتحدة بثمانية آلاف عدد ضحايا هذه المعادلة، وهو رقم كبير جداً لكي نعلِّق آمالاً مبالغاً فيها على أن يتمكن أحد من أن يُجلِسَ على الطاولة نفسها، مع توقعات بالنجاح، أولئك الذين تسببوا بسقوطهم وأولئك الذين كانوا من الضحايا.

** كاتب وديبلوماسي إسباني.

www.elpais.com/elpais/2012/03/23/opinion/1332497414_068199.html

– صحيفة ال باييس الإسبانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى