سوريا … الأسوأ ما زال أمامنا !
عريب الرنتاوي
لا ندري كم مرة، ستعلن فيها القيادة السورية عن “تجاوز الأصعب” و”اجتياز المحنة”…لا أدري ما الذي يمنح الناطقين باسمها كل هذه الثقة بأن سوريا ستخرج من أزمتها الراهنة، أقوى بنيةّ وأشدّ صلابة وأمضى عوداً…مع أن الوقائع العنيدة على الأرض، كل الوقائع على الأرض، تقول بخلاف ذلك، وتذهب باتجاه مغاير تماماً لكل هذه التقديرات المتفائلة، حتى لا نقول المُضللة.
كل مرة يتحدث فيها “مسؤول” سوري عن تجاوز الأصعب، نرى سوريا تدخل في “قطوع” أشد صعوبة منه…في كل مرة يتحدثون بها عن اجتياز المحنة، نرى المحنة تتحول إلى فتنة….في كل مرة “يبشرون” فيها بغدٍ سوري أفضل، نخشى على ماضي سوريا وليس على مستقبلها فقط…نخاف على وحدة سوريا وتماسك نسيجها ونتحسّب لاحتمالات انزلاقها للمجهول ووقوعها في أتون اقتتال أهلي، تشير كافة الدلائل إلى أنه بدأ يطل برأسه البشع من زوايا الأزقة والأحياء الضيقة في العديد من المدن السورية.
لم يعد هذا الخطاب، يثير الطمأنينة في النفوس أبداً…بل بات يثير القشعريرة في الأبدان…حتى حديث الإصلاح والتحديث، بات نكتة سمجة، لا تضحك أبداً، وكيف لنا أن نضحك أصلاً، فيما مئات العائلات السورية، تتشح بالسواد، حداداً على أبنائها وبناتها الذين تودعهم يومياً، وبالعشرات…وفيما أنّات مئات الجرحى تصم الآذان وتضرب شغاف القلب، وفيما ألوف المعتقلين، يرزحون خلف قضبان السجون، التي كُتب في وصف وحشيتها، ركام الكتب والقصص والحكايات.
طقس سوريا، ملبّد بالغيوم الداكنة، خصوصا بعد المذبحة في حماة…لا أفق يرتجى لكل الحراك والوعود السياسية التي يطلقها النظام…الشعب ما عاد يشتري هذه البضاعة…فجوة الثقة بين النظام وعامة الناس من الاتساع، بحيث باتت عصية على الردم والتجسير…أين سيجد النظام محاورين ذوي مصداقية، فيما أخبار الاقتحامات والدبابات وسيول الدماء، تغطي صدر الصفحات وتلون الشاشات الفضية…من أين سيأتي النظام، بشركاء يخرج معهم ويخرجون به، من ثنايا المأزق وبطون الأزمة…الوضع في سوريا بلغ في حماة، وبالأمس على وجه الخصوص، نقطة “اللا عودة”، وفي ظني أن المحنة ما زالت أمامنا، والأصعب ما زال بانتظارنا…أمامنا وليس وراءنا.
سوريا تقترب من لحظة الحقيقة والاستحقاق…وهي لحظة لن تنفع معها مهرجانات التأييد ولا مظاهرات “البيعة والولاء” ولا “وفود التضامن” التي أغرقت نظام صدام من قبل، وليس لديها ما يمنع من إغراق نظام الأسد اليوم…هؤلاء أشبعوا “الإمبريالية” ضرباً وفازت ببغداد والبصرة والموصل…وهم سيشبعونها هتافات وصياحا، قبل أن تظفر بدمشق وحمص وحماس واللاذقية وحلب والسويداء ودير الزرو…هؤلاء يريدون جنازة حامية ليشبعوا فيها لطماً…نصائح هؤلاء وعظاتهم، أقبح وأخطر على سوريا، من تهديدات خصومها وافتراءاتهم.
لحظة الحقيقة والاستحقاق تقرع الأبواب بقوة…الجيش بدأ مشوار انقساماته…المدن الكبرى بدأت مسيرة انضمامها لـ”الأطراف” بعد أن طال المشهد واستطالت قوافل الضحايا والقرابين…التظاهرات بدأت تجرف في طريقها مئات ألوف المشاركين، بعد أن كانت تقتصر على العشرات والمئات منهم فقط…العالم بدأ يضيق ذرعاً بالنظام، وما عاد أحد – غير وفود التضامن الشعبي إياها – يتحدث عن مؤامرة، أو يبدي قدراً من التسامح أو التفهم حيال ممارسات النظام وأساليبه الوحشية في التعامل مع المتظاهرين.
لحظة الحقيقة والاستحقاق تقرع الأبواب بقوة، وثمة قصص مروّعة عن “توزيع سلاح على الطوائف”…و”قتل على الهوية” و”متاريس” بين الأحياء…و”خطوط تماس” في مناطق التداخل الطائفي والمذهبي…لكأننا نسترجع فصول الحرب الأهلية اللبنانية في بواكيرها، أو لكأن النموذج العراقي، يُعاد إنتاجه، ولكن من دون احتلال أجنبي هذه المرة.
لسنا ندري كيف ستنتهي الأزمة في سوريا، ولا متى…لكن القلق يجتاحنا من مغبة تحوّل سوريا إلى “ليبيا ثانية” أو “عراقٍ ثانٍ”…لا يسكننا اليقين المهيمن– وإن زيفاً وادّعاءً – على خطاب السلطة، كما أننا لسنا واثقين بـ”تفاؤلية” الخطاب المعارض…كلاهما مندرج في مشروعه الخاص…كلاهما يقرأ المسألة من زاويته…هذا يتحدث عن ثورة حقيقية – طهرانية – إلى حد كبير، وذاك لا يتحدث إلا عن مؤامرة ومتآمرين…مع أن ما يجري في سوريا، أكثر تعقيداً وأشد هولاً…ما يجري في سوريا، يتهدد وجودها وكيانها ووحدتها وسلامة أهلها، وربما لسنوات وعقود طويلة قادمة.
ها نحن نرى “الكورد” وقد بدأوا يستلهمون نموذج أشقائهم في العراق…ويحاولون فرضه بالقوة والابتزاز على مؤتمرات المعارضة السورية، تماماً مثلما فعلوا في مؤتمرات المعارضة العراقية السابقة لسقوط نظام صدام حسين…ها نحن نرى عشائر سوريا تطالب بنصف مقاعد المؤتمرات المعارضة، توطئة للمطالبة بنصف مقاعد برلمان ما بعد سقوط النظام، ألم تفعل العشائر العراقية شيئاً مماثلاً من قبل ؟…ألم نكتشف فجأة أن العشيرة في العراق، بعد المذهب والطائفة، أشد قوة من الدولة ذاتها ؟…وها نحن نرى السلفية والإخوانية والتحرير والصوفية، نموذجا يكاد يكون حصرياً للتعددية المقبلة على سوريا…ألم ننته في عراق ما بعد صدام حسين بالعشيرة والمذهب، ألم يترك الرجل العراق خاوياً إلا من العشيرة والمسجد والحسينية، بعد أن قضى قضاءً مبرماً على الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والنخب الحديثة؟
نحن قلقون على سوريا، حاضراً ومستقبلاً…لأننا نحب سوريا ونحب أنفسنا…فمصير هذا المشرق العربي، سيتوقف إلى حد كبير، على الكيفية التي ستؤول إليها الأزمة السورية، وليس ثمة ما يبشر بفرج قريب، أو حلول غير دامية، كان الله في عون إخواننا السوريين وأخواتنا السوريات…كان الله في عوننا جميعاً.
*نقلا عن “الدستور” الأردنية