صفحات العالم

سوريا.. الذاكرة الدامية والهوية الممزقة/ ريتا فرج

ينشغل الرأي العام العربي وصنّاع القرار في الغرب بما ستؤول اليه الأزمة السورية، ويزداد الاهتمام على إيقاع الجولات الماراتونية بين واشنطن وموسكو لعقد مؤتمر «جنيف 2» بعدما أجمع مجلس الأمن الدولي على قرار يلزم دمشق بالتخلص من السلاح الكيميائي.

رغم أهمية التسوية السياسية، الإقليمية والدولية، التي من شأنها إخراج سوريا من فم الذئب، بعد مرور أكثر من عامين ونصف على تفجر الاحتجاج الشعبي، والتحولات الدراماتيكية التي رافقته باتجاه العسكرة، قلّة من المعنيين يدركون خطورة ما يحدث على مستويين أساسيين: الهوية الوطنية والذاكرة والجمعيّة.

ليس سهلاً ترميم الهوية الوطنية السورية بعد كل هذه الانشطارات، المذهبية والإثنية. إذا تجاوز السوريون مرحلة العنف المتمادي المؤدية الى تنامي الصدمات الجرحية، فإن المكوِّنات المجتمعية تحتاج الى فترة زمنية طويلة كي تتصالح مع بعضها البعض، في ما لو استطاع النظام المقبل أياً كانت تركيبته إرساء عدالة انتقالية قادرة على تضميد الجروح، في مجتمع ربما فقد الثقة بنفسه، نتيجة الخوف المتفاقم على الذات، ووصول العنف السياسي والعسكري الى مستوى غير مسبوق لو قورن بدول الحراك العربي.

نحن اللبنانيين خرجنا من حرب أهلية، أو حرب الآخرين كما يرى البعض منذ اتفاق الطائف، وبصرف النظر عن الحروب الصغيرة المتنقلة، هنا وهناك. ماذا فعلنا؟ لم نتمكن الى الآن من التصالح مع تاريخنا العنفي وحاضرنا لفهمه والتعلم منه، علّنا نبني غداً أفضل بعيداً من القلق المتصاعد للطوائف، نتيجة تغييب آليات الاندماج في الدولة، والتآكل التدريجي للهوية الوطنية كعمود فقري جامع لا سيما في السنوات الأخيرة.

سوريا الحضارة تكاد أن تختفي؛ كل طرف من أطراف الصراع يتحمل المسؤولية في التدمير الحضاري والإنساني، وإن تفاوتت درجته. الأخطر أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) حذرت في تقرير أصدرته آذار (مارس) 2013 من ضياع جيل كامل من الأطفال السوريين بسبب النزوح والعنف والتدمير بما يترتب عليه من آثار جسدية ونفسية قد تؤثر فيهم مدى الحياة. لم يلتفت كثيرون لخطورة هذا الموقف الأممي، ماذا يعني ضياع جيل كامل في أرض الشتات الداخلي والخارجي؟

لنعُد الى حروبنا في لبنان ماذا خلفت وراءها من تداعيات مدمرة على الأجيال والذاكرة والهوية والمستقبل بالأمس واليوم وغداً. حتى اللحظة، وإذا تخطينا مقولة التعايش، فلم نتمكن من تأسيس دولة حاضنة تحاسب المتورطين في أتون 1975 وتداوي ذاكرتنا بالصدمة، وتساعدنا على الخروج من المخاوف على الذات ومن الآخر الشريك.

تمثل سوريا بالنسبة للعرب، كل العرب، ذاكرتنا وهويتنا. أيقونة التاريخ سوريا تختصر الحضارات. سوريا المهدّدة بهويتها، هوية كل فئاتها المجتمعية، تلخص قلقنا من زمن حاضر وآتٍ؛ زمن اللامعنى واللاقضية، زمن الرهانات الخطرة على المجهول المدمّر للأوطان والإنسان والمجتمعات.

ما الذي أنتجته الأزمة السورية؟ أفرزت معطيين خطرين: صعود الطائفية والمذهبية أو «المكبوت التاريخي»، كما يسميه المفكر اليساري صادق جلال العظم؛ واصطفاف الأكثرية في وجه الأقلية. المعضلة أن النظام السوري، قبل تفجر حركة الاحتجاج، صادر حقوق كل الشرائح المدنية الهادفة الى توطيد دولة الديموقراطية التعددية السياسية، مع اختلاف طابعها الديني أو المذهبي أو الإثني. وقع في أخطاء كبيرة وفادحة، فأوقع الجميع في الفخ الذي سقط فيه.

غير أن الأهم من حال الانقسام المذهبي الراهن، الذي يمكن تخطيه مع مصالحة وطنية جادة وحقيقية، تعالج هواجس كل السوريين وتلغي الثأر والانتقام، أن التحولات الجارية في سورية ستنعكس مآلاتها على المنطقة بغض النظر عن الجهة الغالبة أو المغلوبة.

إذا استطاع السوريون تخطي مأزق العنف المستفحل (علماً أن النظام ارتكب عنفاً أشد شراسة من عنف المعارضة) هل بمقدورهم تحصين الذاكرة؟ ذاكرة التاريخ الاجتماعي المعيش، ذاكرة الأمكنة، ذاكرة التعايش الفطري المتآلف مع الإسلام التعددي المفتوح، والمسيحية المشرقية المستقرة منذ مئات السنين والتي شكلت جزءاً من مكوّن كل سوري وعربي.

والحال بعد كل هذا التخبط العنفي، كيف سيؤسس السوريون لذاكرة جماعية رادعة للمستقبل؟ ثقيل إرث الذاكرة إذا لم يداوَ. هيغل يرى أن أحداً لا يتعلم من التاريخ. هذه الخلاصة تنطبق علينا نحن اللبنانيين، لم نتعلم أو نكتسب من تجاربنا ومقاتلنا الدروس، خمسة عشر عاماً من أجل اللاشيء، حتى أن الأجيال التي لم تعش الحرب نجدها تحمل كل رموز الحرب وانفعالاتها ومكبوتها.

تحتاج سوريا الى تأسيس ذاكرة رادعة للمستقبل بعد الخروج من وضعها الحالي. معلوم أن العدالة الانتقالية التي تعقب أي نزاع تنهض إحدى ركائزها على إحياء الذكرى بهدف تحفيز الوعي المجتمعي ودعم التسامح وتكثيف الحوار. كلام طوباوي يراه البعض، لكنه أسّ أي مصالحة وطنية.

الجميع في سوريا يعيش مأزق الهوية والانتماء والمصير كما عشناه وخبرناه وما زلنا نهجس به في لبنان. اللبنانيون أكثر شعوب المنطقة تماساً مع القضية السورية نتيجة القرب الجغرافي والتعددية الدينية والتاريخ المشترك، وربما المزاج الشعبي المتفاوت بين الأرياف والمدن الكبرى. لقد اكتشف اللبناني السوري متأخراً، وهو الآن يرى فيه مرآة عاكسة.

لا تكمن معضلات الأزمة السورية في مآل وأفق التسوية وتشعبها، دولياً وإقليمياً فحسب؛ لكل صراع أو نزاع نهايته. أمام السوريين درب محفوفة بالمخاطر والألغام وعلى مستويات مختلفة. هم الآن يمرّون بمخاض صعب، فهل سيتجاوزون مؤثرات العنف الثنائي ليعبروا نحو المستقبل عبر ترميم الهوية الوطنية الجامعة، وتفعيل المصالحة المجتمعية، لحفظ التاريخ والحضارة ومواجهة مُوبِقَات الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى