سوريا اللاسوريّة؟/ عبد الأمير الركابي
متغيرات العالم العربي، تفرض اعادة قراءة خصوصية المواضع المختلفة في المجال الاقليمي والعربي. فبعض هذه المواضع كانت تُقارَب وفق تصورات اختلت اليوم سريعا، مع تلاحق المستجدات والتفجرات الأخيرة، الى درجة اكتشاف المساهمين فيها بأن بلدانهم، لاتشبه ما كانوا يحملونه من اعتقادات وثوابت عنها.
المشكلة ان اعادة النظر في ضوء المستجد والمفاجئ، لا تزال متعثرة لافتقاد أوليات ومنهجيات راسخة، او يمكن اعتمادها بثقة، مع أنها تتجلى غالبا على هيئة مثيرة ومحفزة للذاكرة، فلا تتوقف عن الإخبار تكرارا عن القضايا المتروكة في قعر الخزانة المعرفية العربية بحالتها الخام.
ومع كل ما قيل ويكرر عن “الربيع”، ظلت مآلات الاحداث والتغيرات تُظهر بأن جانبا من الترسانة “الايديولوجية” العربية، وبالذات ما يخص منها موضوع “الدولة الحديثة”، قد تهشم في هذه المناسبة. فالمفاهيم الايديولوجية حول “الدولة” ثبت انها غير متفقة مع الحقائق المضمرة والآليات الواقعية في اكثر من موضع. ففي مصر وضح ان البنية “التقليدية” للدولة، كنتاج تاريخي وسحيق القدم، هي الغالبة على حركة المجتمع، وان المتغيرات البنيوية التي طرأت على دور “النيل” التاريخي الاجتماعي في صوغ الدولة، كانت المصدر الذي اطلق وقنن التحولات هناك.
هذا وظهر في العراق ان الدولة الايديولوجية الحديثة، لها صلة وطيدة بالخاصيات التاريخيه في كيان لم يعرف “الدولة الوطنية التقليدية” تاريخيا، بل تميز بكونه كيانا امبراطوريا، ما اثبته الانهيار المريع للدولة القسرية الحديثة بعد 82 عاما من عمرها.
في سوريا يبدو الامر اكثر دراماتيكية، حيث يتعزز الإنفصال بقوة مذهلة بين الفكرة والمجريات، فتنتقل البلاد الى خارجها، وتتسرب من ايدي ابنائها، لتثبت أنها مجال مفتوح، بلا ضفاف ولاحدود يمكن ان تنكفيء على مركز وبؤرة.
اشتهر مفهوم “الصراع على سوريا” في الستينات، وكتب في هذا كتاب شهير، اهم ما يستدل منه توزع سوريا داخليا على نفوذ كل من المملكة العربية السعودية والعراق ومصر، ومع صعود نظام الاسد، والبعثين في سوريا والعراق، ظل المتوقع ان يخترق بعث العراق نظام الاسد، والشواهد على ذلك كثيرة، حتى قامت الثورة الاسلامية الايرانية، لتوازن ثقل العراق. وإبان الحرب العراقية الايرانية تجرأ الاسد، وقطع تدفق النفط العراقي عبر الاراضي السورية، ومن يومها وسوريا تحتمي بإيران، وترتكز استراتيجيا لا على قدرتها او موقعها بحساب التوازنات العربية والاقليمية.
ومع ان الوطنية في سوريا تتجاوز بسبب نقص عناصر الذاتية، الكيانية القطرية الى القومية تعويضا، الا انها لم يسبق ان كانت في يوم من الايام، هي ذاتها، او هي من دون خارجها، الى درجة ان المرء لا يسعه مثلا تخيل ان الجربا، او المعلم، اللذين يلتقيان، ومعهما من معهما في جنيف 2، هما القوتان القادرتان بالفعل على اقرار الحل في سوريا.
وكل من يفكر اليوم بنتيجة او نهاية لما يجري في سوريا منذ ثلاث سنوات، لايشك بأن اجتماعا يضم كلا من ايران والمملكة العربية السعودية والعراق وتركيا، اضافة الى روسيا والولايات المتحدة الاميركية، اجدى بما لايقاس من لقاءات المعارضة ووفد النظام، حيث القضية الجاري بحثها خارج نطاق قدرة الحاضرين وفعلهم. سوريا لن تكون سوريّة، الا بقدر ما اصبح عمليا ليست سورية، وكل حل فيها ينبغي ارساؤه على هذه القاعدة.
الخطير هنا أن يصر المعنيون الأساسيون بهذه الازمة الكبرى، على معاملة سوريا بصفتها “سوريّة” محضاً، بما في ذلك مسببات ما تشهده، من تفجراتها المتشظية، لأن الحاصل في هذه الحالة هو تعظيم حضور ماهو غير سوري، الى درجة اختفاء سوريا من اللوحة. إن “داعش”، التي يقودها في الغالب ضباط عراقيون تحدروا من جيش صدام حسين، وتمارس حضوراً مستقلاً عن أي مسار تفاوضي، او أي وجهة حل سياسي ” سوري”. يمكن اذا احتدم الموقف أن يقف في وجهها، أو في وجه غيرها من المتدخلين، مئات الالوف من المقاتلين العراقيين، مايعني انتقال الحاصل الان، من متوالية الانتفاض السلمي على نظام ديكتاتوري، الى صراع اقليميى دولي، الى حرب اقليمة طاحنة تخاض بالنيابة، في ظل تحولات في المشهد العالمي وتركز صيرورة قطبية عالمية جديدة.
ليس من قبيل التخيل ان المنطقة مفعمة بشعور الترابط، او مايعبر عنه بـ”الوحدة” خارج اللغة والعنصروالتاريخ، فثمة فوق هذا، اثر الفاعلية الكيانية، او الترابط الكياني المتفاعل، وهو مايعود فيتجسد الآن بعد تآكل الايديولوجيات حيث ينفتح الفضاء السوري موزعا على الكيانات القريبة، بينما تصبح هذه من جهتها مبثوثة ومتغلغلة داخله. ما يذكر بأحداث تاريخية، سواء بتكرار حضور الامبراطوريات العراقية او المصرية في ساحل الشام، او فتوحات وفيوض الجزيرة العربية، فهل ينذر مثل هذا الحضور الانفجاري لأفق هذا الساحل المفتوح والمتنازع في الأفق العربي الاقليمي، عن قرب انعطاف شامل تنتظره المنطقة وتتهيأ لمقاربته، مفتتحا عهدا آخرغير عهد ما بعد زوال السلطنة العثمانية، وحضور الاستعمار الاوربي.
الغالب أن تحولات من هذا القبيل لن تتحقق بثمن متدنٍ، وربما كان الأعظم لم يحدث بعد، لكن ما نشهده في العراق منذ 10 سنوات، وسوريا منذ ثلاث، ليس اقل من رعد وبريق بركاني. الحصيف من يتطلع الى ما بعده.
كاتب عراقي
النهار