إياد الجعفريصفحات المستقبل

سوريا: المتوقع وغير المتوقع/ إياد الجعفري

 

 

 

علينا أن نُقرّ بأن بشار الأسد فعل المُتوقع منه منذ آذار 2011. فهو لا يتمتع بالخبرة والدهاء الكافي ليلعب بأدوات واستراتيجيات غير تلك التي أورثها له والده.

من يدقق في تلك اللحظات التاريخية التي مرّ عليها أربع سنوات، ويعالج الأمور بموضوعية، سيكتشف أن التاريخ في سوريا سار بالاتجاه المُتوقع له تماماً. فبشار الأسد كان وريث نظام، وليس صانع نظام، لذا لم يفعل أكثر من السير على النهج، ووفق الأدوات، المورّثة له.

كانت المفاجأة الحقيقية لو أن بشار الأسد سار على غير النهج الذي سار عليه في مواجهة الثورة السورية منذ بداياتها. أيضاً الطغمة المحيطة به، خاصة في أوساط العائلة، لم تفعل إلا المُتوقع منها. فهي طُغمة من الشخصيات الوريثة أيضاً، أياً منها لم يكن قد صنع ما وجد نفسه فيه، بنفسه. لذا جميعهم لعبوا وفق ذات النهج والأدوات المورّثة لهم.

أيضاً، الطغمة الأمنية المحيطة بالأسد وعائلته، لم تفعل إلا المُتوقع منها. فتلك الطغمة تدرجت في مناصبها في عهد حافظ الأسد، وتكونت شخصياتها وأدواتها وفق نهج الأسد الأب الذي وصل حدّ النضج خلال أزمة الثمانينات تحديداً. لذلك سلكت تلك الطُغمة نهج الثمانينات ذاته تقريباً، مع فروق محدودة في التفاصيل، لا في الخط العام.

النخب القريبة من النظام فعلت أيضاً المُتوقع منها، فالأسد الأب كان قد أتقن تجفيف البلاد من أي مجموعة منظمة، سياسية كانت أو طبقية أو آيديولوجية أو حتى دينية، إلا إذا كانت من صنيعة النظام، وتحت سيطرته المطلقة. فلا التجار والصناعيون فاجأوا المراقبين الحصفاء كثيراً في ردود أفعالهم، ولا المؤسسة الدينية الرسمية فعلت ما يُخالف ما جُبلت عليه. وبقيت وقفات البعض الشجاعة ضد قمع النظام استثناءات تؤكد القاعدة العامة.

منذ أربع سنوات وحتى اليوم، فعلت كل أطراف المأساة بسوريا المُتوقع منها. الشارع السوري تحرك في الأماكن التي يمكن أن يتحرك فيها بكلفة أقل، وكان أكثر تحفظاً في الأماكن الأكثر صعوبة. فلم تثُر دمشق بالصورة المأمولة. ولم يتخلَ سكان المدن الكبرى عن طبعهم المحافظ والميّال للاستقرار ومهادنة السلطات.

وحينما أوغل النظام في محاولات قمع الحراك السلمي في الأرياف والأطراف، كان حمل السلاح من قبل البعض نتيجة مُـتوقعة، بل ومرجحة. ورغم الإدانات النظرية لخط العسكرة في البلاد، فإن المُتوقع من المُنكل بهم أن يلجأوا لأية وسيلة تخفف من نير التنكيل بهم.

المنظّرون الذين طالبوا بعدم العسكرة، نسوا أن السوريين يفتقدون لعقود، الوعي السياسي، والثقافة السياسية، والأهم، التجربة السياسية. كما أنهم يفتقدون لعقود حنكة التنظيم السياسي.

في مجتمع جففت عقود الاستبداد نخبه وطبقاته من كل حراك مأمول، لا يمكن لأحد أن يتوقع غير رد الفعل.

القوى الإقليمية والدولية اللاعبة على الساحة السورية أيضاً، فعل كل منها المُتوقع منه، وحسب مصالحه. دول عربية أرادت تعقيد الموقف كي يكون درساً لشعوبها، وأخرى إقليمية أرادت استغلال الموقف لتحقيق آمال امبراطورية، وثالثة دولية وجدت في الفوضى المضبوطة، إلى حين، أفضل الوسائل لتحريك اقتصاد السلاح المؤثر في صنع القرار فيها، ومن ثم، مستقبلاً، تحريك شركات إعادة الإعمار التي تغذي رأس مالها.

في خضم كل ما سبق، كان من المُتوقع أن يلجأ المُنكل بهم إلى البعد الروحي لتبرير معاناتهم، ولشحذ هممهم. وكان من المُتوقع أن يخلق ذلك الظرف المُلائم لانتشار فيروس التفسير الطائفي للأحداث، ومن ثم سيادته على كامل المشهد. ووسط هذا الواقع، حيث الفوضى تعمّ، والحدود سائبة، كان من المُتوقع أن يُطل التطرف برأسه، في أبشع صوره.

كان من المُتوقع في مجتمع رصد فيه الجار جاره، في عهد الثمانينات، ليتربص به زلاته، حيث “للجدران آذان”، والجميع يخاف من “كتبة التقارير”، ألا يتماسك هذا المجتمع، وأن تطفو إلى السطح الأمراض الطائفية والمناطقية والطبقية، التي كانت شفهية في البيوت وفي اللقاءات المتجانسة فقط، لتتحول إلى سلوكية وفظة أثناء الاحتكاك بالشريك المغاير في الوطن.

قصة سوريا وفق ما سبق، كانت وما تزال مُتوقعة. تسردها قصص التاريخ في أكثر من بلد، وأكثر من تجربة. لذا فالمُتوقع أيضاً أن تسير الأمور، في قادم الأيام، وفق المُتوقع.

أن يسقط نظام الأسد في نهاية المطاف، وأن ينشأ نظام استبداد جديد، أقل وطأة نسبياً، لكنه أكثر فظاظة أحياناً. وأن يدوم هذا النظام الفترة المطلوبة لإشباع الرغبة للاستقرار المفقود خلال سنوات الأزمة، ومن ثم يحدث حراك آخر، تكون قياداته أكثر حنكة بحكم التجربة المريرة السابقة، وتكون قواعده أكثر وعياً بما قد تؤول إليه الأمور بحكم التاريخ القريب الذي علمهم، ويكون رد فعل النظام القائم حينها أكثر حنكة، ووعياً، حيال ما يمكن أن يحدث له ولحاضنته، إن سلوك الطريق ذاته الذي سلكه سابقه، وأن يُختتم المشهد، بعد عقود، كما اختُتم في تجارب عديدة سابقة، بديمقراطية لها طابعها الخاص، السوريّ، الذي يؤسسه أبناؤه كما يناسبهم، ويناسب تكوينات طيفهم.

لا ينفي ما سبق أن غير المُتوقع لن يحدث، فالتاريخ مليء بالمشاهد غير المُتوقعة، من قبيل “القيادات الكاريزمية” التي تغير مسار تاريخ بلدها مثلاً. في الحالة السورية لا شيء ينبئ بغير المُتوقع. أما الأفق الزمني لتتابع المشاهد وصولاً للخاتمة، فذلك هو غير المُتوقع الوحيد في التاريخ. في كل الحالات التاريخية، لا يمكن الجزم بالمدى الزمني المطلوب لإنضاج النقلات النوعية في حياة الشعوب والبلدان.

إذاً في سوريا، المستقبل مُتوقع، لكن متى نصل إليه، هو تحديداً غير المُتوقع.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى