سوريا اليوم: الشعب يستكشف قوته،العاصفة المقبلة… مقبلة؟
نيرمين ابو شديد:
شوارع دمشق هادئة، يحوم في فضائها الترقب والحذر والشك والكثير من الخوف. تحسب أن هدوء الشوارع وفضاءها المزدحم بالغموض إسقاطٌ شخصيّ؛ لا، هي هادئة فعلاً، هذا ما يؤكّده الآخرون.
أخبار التظاهرات في المدن السورية التي تنشرها الفضائيات تشحن السوري بالتشنّج، تصيبه بالذهول، لذا، تراه يعيد ترقّب الخبر الذي سمعه توّاً، ربما ليتأكّد من أن ما سمعه قبلاً قد سمعه فعلاً. ما من شعور محدد ولا ردّ فعل واضح على الأخبار. لا يستقر السوري على رأي، هو مشدوه بما رآه، ربما أكثر من النظام نفسه. الخوف يغلف ردتيّ فعليهما: الأوّل يتقلّب بين أشباح أحلام حول الحرية والتحرّر من جهة، وخشية من المجهول وفقدان خرافة «الاستقرار» الشهير من جهة أخرى. أمّا الثاني فيتقّلب بين أشباح كوابيس حول فقدان الحكم وتداعياته التي عاشها حتى الآن نظامان زميلان له من جهة، وبين الاطمئنان إلى وضعه برعاية أجهزة أمنية قويّة من جهة ثانية. الأوّل ينام على حلم التغيير ليصحو الثاني على أرق الفوضى. الأوّل يتحسّس ربما، للمرّة الأولى، قبضته، ليخفيها تواً في جيب سترته. الثاني يرفع قبضته الحديدية ليضرب بها ثمّ يرسل توّاً من يعزّي.. ويفتح تحقيقاً.
من سيحسم المواقف والخيارات؟ من سيرسم خطاً نهائياً بين الحلم أو الكابوس وبين الواقع؟ لا أحد غيرها.. العاصفة إن أتت.
السلطة مربكة والشعب كذلك
يراقب النظام، بكثير من التعمّق المفترض، ما يجري حوله. يتتبع المتغيرات التي تأتي في هذه الأيام على شكل قلب لأنظمة حكم أدمنت السلطة والفساد. يرى النظام في الحدث المصري العظيم والجلل، مثلاً، سقوطاً لاتفاقية كامب ديفيد. يعلّق أحد الظرفاء على موقف النظام مستعيراً من زياد الرحباني الكلمات والأسلوب: «شو جاب هاي لهاي.. كيف خلطتن ببعضن هيك». أمام جلالة الحدث المصري، وما يمكن أن يخلّفه من تداعيات على المستوى الداخلي في سوريا، ينكمش عقل النظام إلى حدوده القصوى.. إلى عنوان «القضية المركزية».
في المقابل، لا يحسن السوري اليوم أن يتخذ موقفاً، وينبغي لذلك أن يُفهم في ظل سيطرة العناصر التالية: الإفقار، الحجر السياسي على المجتمع على امتداد أربعة عقود، وأد المبادرات المستقلة، وأخيراً وليس آخراً، التهويل بالخطر الأصولي السني، على الجبهتين الداخلية والخارجية.
ربما لا يعرف المواطن السوري غير المهتم بالشأن العام، التطورات الفكرية التي عاشتها الأحزاب الإسلامية عموماً، وربما تمنعه المادة 94 من الدستور من أن يعلم (تقضي المادة المذكورة بإعدام «كل من يثبت أنّه على صلة» بجماعة الأخوان المسلمين). الدفاع عن حق الأخوان المسلمين بالحياة يأتي تحديداً بسبب الاختلاف الجذريّ معهم في كل شيء، وليس على الرغم من هذا الاختلاف. ولكن، في المقابل، من الواضح أن المواطن السوري تابع بشغف وقائع ثورتي تونس ومصر، ورأى كيف أن «الإخونجي» المصري و«الإخونجي» التونسي سارا وثارا جنباً إلى جنب مع يساريين وقوميين وشيوعيين، من دون أن يدّعوا الريادة في الثورة ومن دون أن يسعوا لاحتكارها، لأسباب بسيطة ربما أهمّها هو: ليس كل المسلمين السنّة «إخونجيين»، ولا يشكل أسامة بن لادن أيقونة للإخوان المسلمين في مصر أو سوريّا أو تونس.
ملحد وامرأة
ينظر السوري إلى نفسه اليوم. لا ينتبه إلى كونه يتحسس قبضته المخفيّة في جيب سترته. ليس معتاداً على استخدامها «ضد» السلطة. يستخدم القبضة «مع» السلطة، حفاظاً على بقاء هذه القبضة موجودة. لكنّه متنبّه تماماً إلى كونه في وضع من اكتشف حديثاً في نفسه قوةً، لكنه لا يريد أن يستخدمها. يرى نفسه عالقاً في مفارقة: قوي ويستجدي. يطلب من دون أن يتكلم ما يَفترض أن النظام عليمٌ به: حريات سياسية، وعدالة اجتماعية. فيصدر الرئيس السوري عفواً عامّاً عن الجرائم، ولا يشمل العفو المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي. يفرج عمن سرق أو قتل أو اغتصب أو زوّر أو خان الأمانة، ولا يفرج عمن أدلى برأي أو عبّر عن موقف.
تخرج عائلات المعتقلين عن صمتها، تقرر التوجه إلى وزير الداخلية الذي بات يفهم عبارة «الشعب السوري ما بينذل» حين رددها على مسامعه أكثر من 1500 شاب في حادثة الحريقة. يدعم البعض مطالب الأهالي ويخرجون معهم، عددهم ليس كبيراً (ومتى كان؟). بين صفوفهم، تجد الطيب تيزيني الذي كانت مناظراته مع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي تشعل كلية الشريعة بنقاشاتها حول وجود الله. وتجد سهير الأتاسي، الناشطة التي تعرضت للإهانات، وربما للضرب على يد «بلطجية» النظام، حين تضامنت هي وحفنة من أصدقائها مع الثورة المصرية.
اعتقلت السلطات الملحد والمرأة، ثم أطلقت سراح الأوّل، وأبقت الأخرى أسيرتها.
سهير لا تنتظر أحداً، سهير لا تنتظر شيئاً، فالثائرة التي تصنع ثورة لا تنتظر ثواراً، لكنها تحتضنهم إن جاؤوا، حتى ولو بعد حين.
(دمشق)