سوريا اليوم: نحنُ والموت جيران!
محمد دحنون
لم يعدْ يستدعي الإحساس به رائحة دماء أو مرأى جثث. ولا يستدعي الشعور بمدى قربه المشاركة في تشييع والدخول إلى مقبرة. لا يتطّلب الأمر أن تحمل بيديك ذاك الجسد «المسترخي» تماماً والمكفّن بالأبيض. لم يعد الأمر بحاجة إلى صور لأجساد أطفال، أمّهات، شباب وعجائز، تنقصها يدٌ أو قدمٌ أو رأسٌ.. أو كلّ ما سبق.
يتخلى «الموت السوريّ» شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر، عن تأكيد وجوده بدلائل ملموسة. «يتقشف» في تأكيد حضوره المادي. ليس، قطعاً، بالمعنى الذي قد يحيل إلى تباطؤ في دوران عجلته وقلّة غلّته: هذا شأنٌ تهتمّ «الأرقام» التي تبثها وسائل الإعلام في إثباته يوميّاً. عدا عن كون رسل عزرائيل من القتلة متوفرين بكثرة في كل شارع وحي وبلدة ومدينة سوريّة ثائرة.
وحده الموت يتقدم في سوريا. وحده الموت، في سوريا، على خير ما يرام!
«على امتداد» ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف شهيد، تزدحم الذاكرة السوريّة القريبة بصور الموت المختلفة. ولأنّ أرواح الموتى المؤكدين، وغيرها ممن لم تتأكّد مفارقتها لعالمنا هذا، تحلّق في سماء البلد الذي اعتاد «الاستقرار» طويلاً، يحيا الموت في يوميات السوريّ كطيف.
ثمّة ميل لاواعٍ لـ«روحنة» الموت؛ تصييره هواءً يعبق في فضاء البلد. ولأنه كذلك بات الموت هدفاً للسخريّة، الأصح هو القول: أنّ الميل لعدم استئناسه بات أمراً مثيراً للسخريّة؛ شكلٌ من أشكال التحايل على حضوره الفظ والطاغي والمهدّد.
رغم أنّ الموت «سنّة الحياة» إلاّ أنّه لم يعدم في أيّة لحظة صفتي الغرابة والاستثنائيّة، وهو يشكل، كما يجدر به أن يفعل، مصدراً للألم والحسرة. لكنه، في سوريا اليوم، ينزع عن نفسه كلّ تلك الصفات، ويكتسب أخرى من طبيعة مناقضة: الوفرة والاعتياد، والابتذال ربما! ينزع الموت السوريّ كلّ دهشة وكل ألم عميق وكل إحساس عال بالفقد.
هل ثمّة عطب أصاب أرواح الأحياء من السوريين؟ نعم بالطبع. وأصل العطب وفصله وتجسيده العملي هو أن يشغل الموت مكان ظلّك.
لا يحتاج الأمر إلى بلاغة أدبيّة لمقاربة واقع الموت في سوريا الثائرة اليوم. عليك فقط أن تُمعن النظر في مقطع فيديو يظهر فيه عشرات الأشخاص الأحياء وهم يحملون عشرات الأشخاص الأموات، من الذين قضوا في مجزرة لا يهتم المرء بتذكّر اسمها!
عشرات الأكفان البيضاء، يحملها عشرات الأحياء، ويتوجهون، معاً، إلى المقبرة.
ليس لهؤلاء الأحياء أن يتأمّلوا مطوّلاً في ما يحملون، لأنّهم، هم أنفسهم، مشاريع موتٍ مؤجلة. هم: ما يَهمّون على إهالة التراب عليه!
ليس في الأمر مبالغة أو شطط، باتت القبور الجاهزة والفارغة التي تنتظر من يشغلها جزءاً من المقابر السوريّة: الاستعداد للموت موتٌ أيضاً.
ما يمكن لهذا الحضور الطاغي للموت أن يثيره في النفس شعورٌ واحد قد يختزل الكثير: الاشتياق، وهو ليس ذاك النوع من الاشتياق الذي يحيل إلى مسافة أو بُعدٍ أو غياب، ولا ينبغي أن يفهم باعتباره إحساساً بالفقد لمن رحلوا، وإن كان الحزن على فقدانهم ينطوي عليه. إنّه رغبة عارمة، ونزوع مستمر، لاحتضان من بقي من الأحياء القريبين، أولئك الذين تصنع معهم، ومن خلالهم، تفاصيل حياتك اليوميّة. ثمّة غياب مؤجل يفعل فعله: تزداد هشاشة الأرواح، وليس ثمّة دليل أكثر قوّة وأشدّ صدقاً على زيادة الهشاشة هذه سوى الاستعداد الدائم للبكاء لأي سبب يكون الغياب نتيجته، بدءاً بالسفر ووصولاً إلى القول: «نلتقي قريباً». ليس ثمّة ضمانة لتحقّق هذا اللقاء.
هتف السوريون الثائرون منذ لحظة ولادتهم؛ ولادة ثورتهم: «الموت ولا المذلّة». ويُخلص السوريون الثائرون لهتافهم هذا. ولكن، مع الكثير من الاشتياق إلى الحياة.. إلى حياة أخرى لا يكون فيها الموت سهلاً، بسيطاً، معتاداً. يختبر السوريون الثائرون جدارتهم بتلك الحياة الأخرى حينما يهزؤون من موتهم اليومي. لهم صوفيتهم التي يحيونها عبر قولٍ لا يقولونه إلاّ بالفعل؛ بالنسبة إليهم «لا تكتمل ذروة البقاء إلاّ بهاوية الفناء»!
(دمشق)
السفير