سوريا ترمي همومها الداخلية على حكومتها اللبنانية
سليم نصار
بدل أن يخوض معاركه الخارجية من دمشق، انتقى الرئيس بشار الأسد بيروت لتكون حكومته الثانية باعتبارها تملك وسائل الدفاع – اعلامياً واقتصادياً وسياسياً.
بعد انتظار دام خمسة أشهر تقريباً، أعلن نجيب ميقاتي، ولادة حكومته الجديدة. ومع انه أرادها “وسطية” ائتلافية، تجمع مختلف الاضداد، إلا أن التشكيلة الثلاثينية اقتصرت على لون واحد وتيار واحد أقرب الى سوريا وايران منه الى أي تيار آخر.
وكان من الطبيعي أن يتساءل اللبنانيون عن الدافع الحقيقي الذي شجع الرئيس بشار الاسد على حسم هذا الامر والايحاء لزائره وليد جنبلاط بضرورة الاستعجال في تأليف الحكومة.
وللحصول على جواب شاف، يقتضي الرجوع الى المرحلة الرمادية التي تزامنت مع بداية تكليف ميقاتي في 25 كانون الثاني الماضي. وقد تعثرت في حينه الخطوات الائتلافية بعدما رفض سعد الحريري الاعتراف بشرعية الانقلاب الابيض الذي قام به عشرة وزراء ينتمون الى “حزب الله” و”أمل” و”تكتل التغيير والاصلاح”.
ومن المؤكد أن اخفاق عملية التأليف طوال خمسة أشهر تقريباً، كانت ناجمة عن انهماك دمشق بمراقبة احداث تونس ومصر وليبيا، الامر الذي شغلها عن الاهتمام بحل أزمة الحكومة اللبنانية. وقد استمرت هذه المراوحة قائمة حتى منتصف آذار الماضي، موعد وصول العواصف السياسية الى بلدة درعا.
العنف الذي مارسه النظام السوري ضد المتظاهرين، أزعج الحليف التركي الذي وجد نفسه محرجاً في تبرير ردود فعل دمشق. ووصف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، موجة الاحتجاج التي انتشرت في المدن السورية المتاخمة، بأنها “مشكلة داخلية تركية”. وراح يمطر صديقه نزيل قصر الشعب في دمشق، بالنصائح والمواعظ، داعياً اياه الى اجراء اصلاحات ديموقراطية يرضى عنها الشعب. ومثله فعل وزير الخارجية احمد داود أوغلو، الذي طلب من الاسد معالجة الازمة بالصدمة لكسب محبة المواطنين من طريق منحهم المزيد من الحقوق السياسية.
وقابلت دمشق أول الامر هذه النصائح باللامبالاة، لاقتناعها بأن أردوغان يهدف الى توظيفها في المعركة الانتخابية لكسب المزيد من الاصوات. كما تصورت انه يريد تسويق سياسته الخارجية لاعطاء الانطباع بأنه يستحق الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. والثابت ان العلاقات الشخصية التي بناها الرئيسان، السوري والتركي، على امتداد ثماني سنوات، هي التي منعت تصادمهما أثناء المراحل الاولى من بدء التظاهرات.
ويستدل من مراجعة الانتقادات التي اطلقها أردوغان عقب احداث “جسر الشغور”، ان حركة اللجوء الى تركيا شجعته على ابداء النصح الى حليفه. وكانت الحدود التركية قد امتلأت بأفواج الهاربين من نيران الدبابات والمروحيات، الامر الذي اضطر أنقرة الى انشاء مخيم خاص للعائلات المحايدة.
وفي سبيل تخفيف الضغط عن النظام، ارسلت منظمة أحمد جبريل في ذكرى يوم النكبة، مجموعة شبان فلسطينيين قاموا باختراق الاسلاك الشائكة في الجولان. وقتل الحرس الاسرائيلي منهم عشرين شاباً بينما تعرض آخرون للضرب والمهانة. وعندما نقلت الجثث الى مخيم اليرموك، اقتحمت الأمهات مكاتب منظمة الجبهة الشعبية، الامر الذي أدى الى تدخل السلطات السورية. واتهمت الدول الاوروبية دمشق بافتعال حادثة الجولان – بعد هدوء استمر من سنة 1974 – بهدف صرف الانتباه عما يجري داخل البلاد.
الدولة اللبنانية بالتعاون مع “حزب الله”، اتفقا على تمرير مناسبة يوم النكسة من دون مهرجانات أو استفزازات على الحدود الجنوبية. والمؤكد ان ايران وسوريا قد نصحتا بهذا الخيال لئلا تستغل اسرائيل انشغال “حزب الله” بالهموم السورية، لتسدد ضربتها الانتقامية الى لبنان.
ومع أن أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله، أيد في السابق كل انتفاضات التغيير التي ضربت تونس ومصر وليبيا، إلا انه تحفظ بشأن الصدامات داخل سوريا. وتمنى لبشار الاسد التوفيق في منع الفوضى من تقويض نظام اعتبره داعماً لحركات النضال في المنطقة.
الزيارة المفاجئة التي قام بها مبعوث الرئيس بشار الأسد حسن توركماني (وهو من اصول تركية) الى أنقرة، لم تنجح في استمالة أردوغان أو تليين موقفه. فقد نصحه بضرورة وقف حملات العنف ضد المتظاهرين، والشروع في اطلاق برنامج اصلاحي شامل ينفذ خلال مدة محددة.
وتقول الصحف التركية ان اقصى ما حققته هذه الزيارة القصيرة انها أعادت الثقة بين نظامين باعدت بينهما حواجز الريبة والشكوك. علماً بأن وزير الخارجية داود أوغلو، قام بستين زيارة خلال السنوات الثماني الماضية، من أجل تثبيت الشراكة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.
ولكن هذه الشراكة لم تمنع دمشق من صب نار غضبها على حليفتها، عندما علمت بأن زعيم “الاخوان المسلمين” في سوريا محمد رياض الشقفة، قد وصل الى اسطنبول في زيارة خاصة. وادعى أن الحركة التي يقودها هي التي تحرك التظاهرات في المدن السورية. ومع أن دمشق استفادت من هذه الادعاءات، لتؤكد بأن “الاخوان المسلمين” هم الطامحون الى اسقاط النظام، إلا أنها لم تفهم الغاية من استضافته وفتح صفحات الجرائد التركية لخدمة سياسته، خصوصاً انه وصل من منفاه في اليمن وجعل من اسطنبول محطته الاولى لفك عزلته.
وترى دمشق في تصاريح أردوغان قبل الانتخابات، هجوماً مركزاً استفاد منه خصوم سوريا. ففي تلك المرحلة أعرب رئيس وزراء تركيا عن مخاوفه من احياء ذكريات حماه (1982) وحلبجة العراقية (1988). وردت صحيفة “الوطن” على هذه التهجمات بانتقاد “مهندس العثمانية الجديدة” داود اوغلو. وذكّرت اردوغان بأن النمو الاقتصادي الذي يتبجح بصنعه هو حصيلة حجم التجارة مع سوريا البالغ اكثر من مليارين ونصف المليار دولار.
وسارع اردوغان الى تصحيح مسار حملته الانتخابية وشعارها “لا وجود لمشاكل تركيا مع جاراتها”… ليعرب عن قلقه من احتمال سقوط نظام الاسد في وقت لا يوجد له بديل. ويستدل من هذا الكلام، ان رئيس وزراء تركيا لا يريد البقاء في صالة المتفرجين في زمن المتغيرات الاقليمية. وبما انه يتمتع بتأييد واسع داخل الاسرة الدولية، فهو يتطلع الى لعب دور نافذ على الصعيد الاقليمي. وقد اتهمته الصحف الايرانية بأنه يطمح الى احياء دور اسطنبول التي حكمت سوريا كاقليم عثماني، مدة تزيد على خمسمئة سنة. وقد تبنى هذا التصور عدد كبير من السوريين الذين هتفوا امام السفارة التركية في دمشق بضرورة استعادة لواء اسكندرون السليب. وبما ان النظام السوري كان المنظم لهذه الاحتجاجات، فان المطالبة باللواء السليب، كانت بمثابة نقض للاتفاقيات التي تخص المناطق الحدودية.
المأزق الذي يحيط بالنظام السوري، تعيده حكومة ساركوزي الى سلسلة عوامل، اهمها انقطاعه الكامل عن الاسرة الدولية واعلان العداوة لكل من ينصح بابداء المرونة تجاه المحتجين. ومن اجل تخفيف الضغوطات الدولية، يسعى بشار الاسد الى تجديد الحوار مع اردوغان المنتصر، لعله يساعده على تخطي الازمة المتنامية. اي ازمة الاصلاحات المطلوبة لانعاش نظام وصفه محمد حسنين هيكل بأنه ترهل واستمر في الحكم اكثر مما ينبغي. ومع هذا كله، فهو يرى ان عملية التغيير ستترك اثرها البالغ على موازين القوة الحالية، وخصوصا على “حزب الله” اي على مستقبل علاقات النظام السوري مع ايران وحلفائها.
وصفت صحيفة “فايننشال تايمز” في افتتاحيتها النظام السوري بأنه يعيش اسوأ ازماته لأن المواطنين يرفضون احتمال حكم القمع. وكانت المفاجأة ان الجمهور بدأ يتطلع الى ما حققته حملات التمرد والعصيان في تونس ومصر، وانه على استعداد لتقليد المعارضة الليبية في سبيل الحصول على حقوق المشاركة. وانما بخلاف المواقف المتبعة مع تونس ومصر، فان الدول الغربية قررت التعاطي مع ما يجري في سوريا بحذر وبطء من خلال ممارسة ضغوط ديبلوماسية وعقوبات اقتصادية. وينبع حذرها من امور عدة ابرزها الاعتراف بأن النظام لا يملك البدائل المتوافرة في الادارات والمؤسسات الرسمية مثل مصر. لهذه الاسباب وسواها سيضطر “حزب البعث” الى انتاج اصلاحات واعدة قد تنهي اربعين سنة من هيمنته على القرارات المصيرية. هذا في حال اقتنعت قيادتا الاستخبارات العسكرية والامنية بأن ما حصل في سوريا لم يكن مستوردا من الخارج، بقدر ما كان حصيلة تراكمات اخطاء لم يلحظها الحكم.
عقب انتهاء احداث حماه سنة 1982 وصف احد الكتاب الغربيين الرئيس حافظ الاسد، بأن وضعه يشبه شخصا يركب على ظهر نمر شرس. اي انه موجود في دائرة الخطر، لا فرق أبقي ممتطياً النمر… ام نزل عن ظهره.
ومثل هذا الوصف ينطبق على الرئيس بشار الاسد الذي اختار تحديات “النمر”. وبدلا من ان يخوض معاركه الخارجية من دمشق، فقد انتقى بيروت لتكون حكومته الثانية، باعتبارها تملك وسائل الدفاع – اعلاميا واقتصادياً وسياسياً. من هنا وصفت مهمة حكومة نجيب ميقاتي، بأنها ستكون صعبة جدا لقيامها بدور كيس الرمل الذي يتحمل ضربات المتمرنين على رياضة الملاكمة.
وقد جاءت اول ضربة فور اعلان ولادتها، من صحيفة “وول ستريت جورنال” التي حذرت من التعامل مع المصارف اللبنانية لأنها معرضة لاغراءات تبييض الاموال الوسخة.
الرئيس اللبناني ميشال سليمان، نفى وجود اي تدخل سوري في تشكيل الحكومة اللبنانية. وقد يمنحه هذا الاعلان صفة الرئيس المستقل في وطن حر مستقل. ولكنه لا يعفي الحكومة من هيمنة “حزب الله” على قراراتها السياسية والامنية، الامر الذي يذكر بتصريح وزير الدفاع الاسرائيلي الذي هدد بتدمير البنية التحتية اللبنانية في حال تبنى رئيس الجمهورية طروحات “حزب الله”!
(كاتب وصحافي لبناني – لندن)
النهار