سوريا جديدة ديمقراطية آتية ..
بدر الدين شنن
عادت السياسة إلى سوريا .. ليس بعودة النظام ، تلقائياً ، عن مصادرة الحريات العامة .. وإنما بعودة الجماهير إلى الشارع وإصرارها على انتزاع الحرية . وبدأت بعد أربعين عاماً من القمع والقهر الخطوات الجادة باتجاه تفكيك الاستبداد .. وتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي . وبدأ الصراع بين الشعب والاستبداد يطرح أشكالاً جديدة من الخطاب السياسي .. ويستدعي أشكالاً جديدة من النضال .
لقد برهن الشارع أن صوته أبلغ من أصوات الأحزاب السياسية ” التاريخية ” المترهلة .. وبرهن الدم أنه أصدق من البرامج السياسية الحزبية التوافقية ، التي كانت تسوق لرغبات المحاصصة السياسية وتقاسم السلطة . وسقطت الطروحات السياسية الاستعراضية ، التي كانت تنتقل بصيغ أكثر رطانة إلى الإعلام الورقي والإلكتروني والتلفاز . وحلت محلها طروحات التجمعات والحركات الشعبية ” العملية ” النابعة من حركة الواقع وا ستحقاقاته الجذرية ، التي فرضت بعفوية نبيلة .. وبمصداقية راقية .. نمطيتها السياسية الجديدة ، واضعة ما عداها موضع شك .. وفقدان براءة الموضوعية .. وانفتح الأفق السياسي على سوريا جديدة ..
وبعودة الشارع .. وعودة السياسة .. ’وضعت كل آليات الاستبداد ، الدستورية ، والسياسية والقمعية ، أمام سؤال الشرعية ، والصلاحية ، والحقوقية . لم يعد مقبولاً وطنياً وسياسياً وحقوقياً وجود نصوص دستورية ، تضع حزب البعث حزباً أوحداً وصياً على الشعب .. وفوق الشعب . لاسيما وأن هذا الوضع قد كرس الميز السياسي ، الذي يتعارض مع ابسط حقوق الإنسان وحقوق المواطنة . بل وغدت وصاية حزب البعث أكثر من زائدة عن الحاجة لنمو الدولة والمجتمع على أسس حضارية وإنسانية معاصرة . ولم يعد بمقاييس الكرامة والحرية استدامة أن يتمتع حزب أوحد بقوة صيغ دستورية لاديمقراطية وبقوة القمع ، بصلاحية الاستحواز على الأكثرية التمثيلية في كافة المؤسسات التي من المفترض أن تكون ممثلة لقواعدها الشعبية الاجتماعية لا للحزب الحاكم . ويتمتع بصلاحيات تحديد المرشح لرئاسة الجمهورية وتعيين كافة الرئاسات والإدارات في الدولة والمجتمع . ولم يعد على أي مستوى من المبررات أن يكرس الحزب الحاكم نفسه سيداً على الوطن ، خاصة وأنه كما ثبت واقعياً وقانونياً ، بحكم هيمنته على الدولة والمجتمع ، أنه مصدر وصانع الفساد والمفسدين ، بدلالة أن كبار الفاسدين هم كبار المسؤولين في الحزب أمثال ( رفعت الأسد .. عضو قيادة قطرية ونائب رئيس الجمهورية ورئيس سرايا الدفاع المكلفة بحفظ أمن واستقرار البلاد ) و( عبد الحليم خدام .. عضو قيادة قطرية ونائب رئيس جمهورية ) و( محمود الزعبي .. عضو قيادة قطرية ورئيس مجلس وزراء ) و ( مصطفى ميرو .. عضو قيادة قطرية ) . والقائمة تطول بحجم الكتلة التنظيمية المليونية للحزب الحاكم ومنظماته ” الشعبية ” في الماضي والحاضر .
كما وضعت عودة السياسة وعودة الشارع كل معادلات الاستبداد أمام سؤال المصداقية والمسؤولية وبراءة التداول . أولها معادلة دولة التحولات ” الاشتراكية ” الحديدية لصالح العمال والفلاحين ، بعد أن تخلى النظام عن السمت ” الاشتراكي ” والانتقال إلى نمط الدولة الأمنية الرأسمالية السلطوية والانخراط في نمط اقتصاد السوق الليبرالي . وثانيها معادلة ” الصمود والتصدي ” وتحرير الأرض المحتلة وفلسطين ، بعد أن كرس شعار ” السلام مع الكيان الصيوني خيار استراتيجي ” ووقع على مبادرة السلام العربية مع إسرائيل . وثالثها ” الممانعة ” ودعم المقاومة العربية في لبنان والعراق وفلسطين ، بعد أن أعاد تركيب البنية الداخلية ، وطنياً واقتصادياً واجتماعياً ، وفتح في المجال لذئاب اقتصاد السوق بافتراس مقومات المعيشة للطبقات الشعبية . لقد أصبح كل شيء مكشوفاً .. كما أصبحت كل القوى السياسية مكشوفة .. قوى المعارضات التقليدية وقوى النظام .. ووصلت الأزمة إلى حد الاستعصاء .. ولم يعد يمكن لما هو قائم أن يستمر .. ولابد من بديل مغاير ..
وأمام ا ستحقاق البديل الغاير ، تمنع النظام عشر سنوات عن تقديم جواب مقنع في مجال التغيير . وكان يعز عليه ويؤلمه أي كلام عن تعديل في الدستور وإنهاء الاستبداد . وواصلت المعارضات على اختلافها مطالبتها بالتغيير ” التدرجي السلمي ” دون أفق منظور لنجاحها .. وتراوحت الحلول التي’طرحت من قبل معظمها وبعضها ، بين الحد الأدنى المتمثل برفع حالة الطواريء والأحكام العرفية ، وإصدار قانون للأحزاب والإفراج عن معتقلي الراي وبين الحد الأقصى الخجول المتردد المتمثل بإسقاط النظام .
وعلى أرضية هذه التطورات وهذه الطروحات انطلقت الاحتجاجات الشعبية الثائرة في 15 آذار الماضي . وعلى خلفيات متعددة شاركت قوى متنوعة توحدها الرغبة في التغيير . لم تدم نظرية المؤامرة التي طرحها النظام كمحرك رئيسي للاحتجاجات طويلاً ، و’وضعت ” الفتنة ” بعد مدة وجيزة على هامش الحدث ، وترسخت حقيقة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية وفرضت نفسها على الواقع وعلى النظام ، ليس من حيث مشروعيتها وحسب ، بل من حيث ضرورة تلبية مطالبها الأساسية المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ، باعتبارها حاجات وحقوق لم يعد من العدالة بمكان أن تبقى مغيبة ويجري تجاوزها بتعسف مزمن لصالح الطبقة الحاكمة من جهة ، ولإغلاق المجال أمام من يقف وراء ” مؤامرة ” تستهدف ، كما يعلن النظام وحلفائه وإعلامه ومعطياته ، أخذ سوريا من الداخل من جهة ثانية ، لاسيما وأن استخدام السلاح ، وسفك الدماء في المظاهرات وعلى هوامشها ، بدأ يجر البلاد إلى مخاطر جدية .
لم يتمكن بطش القمع والوعود بالإصلاح المجزوء أن يطفيء جمرات الاحتجاجات الشعبية الثائرة . وظلت البؤر الرئيسية لهذه الاحتجاجات تتحرك لجهة الوفاء للشهداء .. وداع جثامينهم وإراحتهم في مثواهم الأخير ، ولجهة تبادل الرأي حول متابعة النضال بفعاليات أكبر وأشكال جديدة . فالتناقض الرئيس بين الجماهير الشعبية الثائرة والنظام ، الذي عمقه ووسعه العنف الدموي المدان إنسانياً ووطنياً ، هو أكبر بكثير .. وأهم بكثير .. من أن يتمكن القمع وإصلاحات تحت سقف النظام أن تتجاوزه وترمده .
لقد سقط الخوف من القمع . وحل محله الإصرار على مطالب الحرية الجذرية .. على الخلاص من الاستبداد بكل تجلياته الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية . وسقط معه الرهان على ” التغيير التدرجي السلمي ” من خلال التعاطي السياسي التقليدي المعارض مع النظام ، حيث يبقى النظام صاحب الحصة الأكبر في ” شركة السلطة ” ، وحل محله الاعتماد على الاحتجاجات الشعبية الثورية لامتلاك مقومات فرض تغيير تتفكك بمقتضياته بنية الاستبداد ، وتكرس شرعية الشعب ، الذي وحده يقررديمقراطياً من يستحق تمثيله ، والاشتراك في السلطة ، ونسبة هذا الاشتراك .
لقد دخل الشعب السوري مرحلة جديدة في نضاله من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . لقد تمكن خلال شهر ونيف من الاحتجاجات المتواصلة أن ينتزع من النظام مجموعة من الوعود ، التي بدأ النظام يتحرك باتجاه تحويلها إلى قرارات نافذة ، تتعلق بعدد من الأهداف التي حددها الشعب في حراكه الدامي ، مثل رفع حالة الطواريء ، وقانون للأحزاب وآخر للإعلام ولحق التظاهر ، والحوار مع الآخر .
بيد أنه لابد من التأكيد ، كما هو واضح ، على أن النظام يحاول ان يدير المرحلة الجديدة تحت سقفه حول النقاط المذكورة . وقد لمحت رموز في المعارضة إلى إمكانية قبول ما يطرح من قبل النظام من رغبة في الحوار ، شرط أن يقوم النظام أولاً بإجراءات متعلقة بإطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين ورفع حالة الطواريء ( مقالة فايز سارة في السفير وتصريح حسن عبد العظيم لقناة الجزيرة ) .
وتدل الممارسات الفعلية التي يقوم بها النظام ، على أنه يسعى إلى ” ترقيع ” ذاته تحت مسميات الإصلاح ، ويدعو المعارضة إلى مشاركته في هذا الترقيع . وفي سياق هذا المسعى ، لن يضير النظام كثيراً أن يرفع حالة الطواريء ويعوضها بالقوانين الأشد في قانون العقوبات من خلال قضاء ملتزم ” بالحزب القائد ” أو بقانون مكافحة الإرهاب لاحقاً المنتشرفي الإقليم وعلى نطاق دولي واسع . ولن يضيره كثيراً أيضاً ، أن يعترف بالآخر ويطرح قانوناً للأحزاب ، وهو يحتفظ واقعياً بقيادته للدولة وبنهجه الاقتصادي وقيادته للقوات المسلحة ” العقائدية ” والأجهزة الأمنية , ولن يضيره أيضاً وأيضاً وجود صحافة معارضة ، وهو يسيطر على الإذاغة والتلفزيون ولديه صحافته المدعومة بلا حدود ..
أما بالنسبة للمعارضة ، إذا أكد الواقع الملموس قيام النظام بالخطوات المذكورة ، فإنها وهي المغيبة بالقمع منذ عقود ، ستنتقل إلى حالة جديدة أيضاً . إذ أنها ستستفيد من بتحرر حركتها من القيود السابقة للتعبير عن مواقفها وآرائها وأهدافها .. وهذا ما يتيح لها إمكانية الاتصال بشكل أفضل نسبياً فيما بينها وبالقوى الاجتماعية .
على أن النظام وبشكل مواز لكل طروحاته بالإصلاح ، يضخم إلى الحد الأقصى مأساوية وكارثية الصدامات المسلحة التي تحدث هنا وهناك في البلاد مع الآخر ، الذي آثر حمل السلاح في مواجهة عسف النظام ، أو الآخر المرتبط ب ” المؤامرة ” ، ليخفض سقف تلبيته مطالب الاحتجاجات الشعبية ، التي هي براء من حمل السلاح ، الذي يلحق الضرر الكبير بقضاياها العادلة ، ويهدد البلاد بمخاطر جمة .
أي أن كل ما يعد به النظام ، إذا تحقق فعلاً ، ونقل البلاد إلى حالة ” أفضل ” نسبياً فإنه لايخرج البلاد من تحت هيمنة حزب البعث الحاكم ، الذي سيبقى لفترة غير منظورة ، ضمن هذه التوليفة ، هو الحزب الأقوى . وسيبقى مثل هذا الحل بالمجمل ضمن إطار تصالح نخبوي حول تقاسم السلطة والنفوذ والثروة . ومن خلال ذلك تبرز ملاحظة هامة جداً ، وهي أنه في غمرة هذا الصراع وشعاراته وصخبه ، لاأحد في المستوى القيادي في الأطراف المتصارعة تناول بوضوح المضمون الاجتماعي للإصلاحات المطلوبة .. أ والموعودة . لم ’يطرح الموقف من اقتصاد السوق الليبرالي وما جلبه من آلام اجتماعية وفساد وإفقار . ولم ’يطرح نمط اقتصادي اجتماعي بديل . واختزل الجميع تقريباً مفهوم الحرية والكرامة ، بما هو مسموح به من الأنشطة السياسية والفكرية والثقافية . وتم تجاوز ، أن أسوا أنواع الاستبداد هو الإفقار الذي يطاول ، حق العمل واللقمة الكريمة والطبابة والسكن والتعليم وبناء خلية أسرية سعيدة .
المؤشر البين على ذلك ، أن النظام ، يضخم ، كما قلنا آنفاً ، إلى الحد الأقصى من آثار الصدامات المسلحة ، لإحكام قبضته على الحكم وتبرير تشبثه بالإجراءات القمعية ، ومحاصرة أهم متطلبات ما يسمى بالإصلاح الجاد ، وهو تفكيك الاستبداد . بمعنى أن السلاح ، كائن من كان حامله ، قد دخل الشارع الاحتجاجي ، مستغلاً الفراغ الخطير في قيادة الاحتجاجات ، والفراغ في التعبير الواضح عما تحمله هذه الاحتجاجات كبديل للنظام ، وأدخل إضافة ملمزمة على مفاعيل الاحتجاجات ، وهي الموقف من هذا السلاح ، الذي ينشر الرعب والإحباط والدماء ويطاول الجيش ، ويهدد الوحدة الوطنية ، ويقوض مقومات السياسة مرة أخرى لعشرات السنين كما حدث في ثمانينات القرن الماضي .
الأمانة السياسية المطلوبة الآن من النافذين في الاحتجاجات الشعبية .. بكل ما تعنيه هذه الأمانة .. هي عدم الرضى بالإصلاح المجزوء .. وعدم التنازل عن تفكيك الاستبداد .
والوفاء .. كل الوفاء للوطن سوريا الحبيبة الجميلة .. بأرضها وشعبها وتنوعها الحضاري والثقافي .. لحمايتها من التفكك الطائفي وغيره .. وحماية وحدتها الوطنية وتعزيزها .. والارتقاء بكل اشكال النضال .. إلى مستوى سوريا جديدة ديمقراطية حضارية عادلة .. التي لابد .. أن تكون من خلال زمن تختزله التضحيات .. آتية ..