سوريا على مذبح انحطاط السياسة
غازي دحمان
ليس في سوريا شيء يجعلها تتميز عن غيرها من دول العالم، ثمة بلدان كثيرة تفوقها درجات بمزاياها، الطبيعية والتقنية ودرجة ومستوى تحضر شعوبها، حتى السوريين أنفسهم من أقل الشعوب إحساساً بالنرجسية.
أكثر من ذلك، فالسوريون مشهورون بلا وطنيتهم، بعكس أقرانهم في المنطقة، ذلك أنهم طالما تخلوا عن هذه الهوية الوطنية لصالح الإندماج في هويات أكثر إتساعاً وشمولاً ( كالهوية العربية )، وهو الأمر الذي عاق على الدوام تجذر السورنة، وبقيت قضية الإنتماء أكثر المسائل مرونة وسهولة، فالسوري يكتشف انتماءه لحظة يئن الوجع في الديار الأهلية له. فيصير عز الدين القسام فلسطينياً وجول جمال مصرياً … وهكذا.
ليس ثمة ما يميز سوريا غير قدرة هذه الجغرافيا على إنتاج صيرورة حياة لا إنقطاع فيها، ونمط حياة انسيابي خال من التعقيد. تلك حقيقة لا تحتاج إلى عمليات بحث أركيولوجية لإكتشافها، ذلك أن هذا الأمر يكشف عن نفسه فور قراءة بسيطة لسيرة هذه المنطقة، ولا يحتاج الأمر إلى التوغل في بطون هذه السيرة، فعند حوافها سيجد الراغب ما يريد .
بالطبع ليس المقصود من وراء هذه المقدمة تخليق مجال نرجسي لشعب يعف عن هذا المقام، وليس المقصود أيضا المزايدة وإظهار مزايا متفردة لشعب لم يدّعها، وبخاصة أن السوري يعيش هذه اللحظة نكبة تطال روحه وإحساسه بالكرامة، فوق الموت الذي يلاحقه في مدنه وقراه، وتنبري العصابة الحاكمة لتصفه بأقذع الأوصاف، من التطرف إلى التخلف، بحيث تصبح القضية موتا وفضيحة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه بأن تتناوله أقلام وألسنة اللئام من العرب الموالين للنظام، في الجرائد والفضائيات، فذلك من يصف الثورة بالمؤامرة. موت السوريين مؤامرة، وعلى من؟ وذلك الذي يطاردهم في لجوئهم كما يفعل حزب الله، والآخر الذي يلفق التهم لنسائهم وبناتهم، ويصور اللاجئين السوريين وكأنهم ذاهبون إلى سوق لتزويج بناتهم. ولا ينقص إلا تصميم واجهات لعرضهن على كل راغب زواج، وتصبح القضية وكأنها هي المشكلة، لدرجة أنها تحتل إفتتاحيات بعض الصحف العربية، فيما الواقع أن القضية جرى صناعتها في مخابر النظام المخابراتية والإعلامية.
ميزة سوريا إذاً هي قدرة أبنائها على الصبر والتحمل والفاعلية في آن واحد، فرغم كل ظروف الإستبداد والفقر التي أحاطت بالسوريين إلا أنها لم تدفعهم إلى الإنغلاق على همومهم ومشاكلهم، التي قد تبدأ من تأمين لقمة العيش في ظروف صعبة ولا تنتهي عند الاستبداد بكل مستوياته وأشكاله والكفيل بتصحير الروح والعقل، بل إمتاز السوري على الدوام، بإبدائه صبراً عجيباً على تحمل المصاعب والقدرة على تحملها ومحاولة تطويع الظروف لصالحه، وتمتزج مع هذه الميزة قدرته على التفاعل الخلاق مع محيطه وجدانياً ومسلكياً، وهو ما أظهرته مناسبات عديدة.
وثمة ميزة أخرى أنتجتها الجغرافيا السورية وهي تلك المسحة الهائلة من التسامح، التي يمكن وصفها بأنها وليدة بيئتها الطبيعية، وليست نتاج إتفاقيات وتفاهمات سياسية مكتوبة أو ضمنية، وبناءً على ذلك ليس من المستغرب أن تجد سلطان باشا الاطرش أكثر زعيم وطني حوله إجماع، فيما يتحول صالح العلي إلى رمز للوحدة الوطنية، ويصبح فارس الخوري زعيماً وطنياً ويوسف العظمة بطلاً تاريخياً، ترى كم واحد في سوريا توقف عند طائفة أو ديانة أو قومية أي من هؤلاء الرموز!
ومن أسف أن جملة هذه المزايا افتقدت لحامل سياسي ينميها ويطور ممكناتها، أو على الأقل يستفيد مما توفره لتطوير صيغ لحياة وطنية مستقرة ومنتجة، كان من الممكن أن تغير وجه سوريا وتنقلها من واقعها المادي الصعب إلى ظروف أكثر رخاءً، وبخاصة أن هذه البيئة تريحه من مجهود سياسي لازم لدمج مكونات المجتمع، بما يتطلبه من موارد موازية لإنجاز مثل هذه الوظيفة.
السياسة ضيعت المجتمع في سوريا، وقد اعتاشت السلطة على هذه الوظيفة عقوداً طويلة، تلك على كل حال طبيعة إستبدادية حيث السلطة لا تنتعش إلا بمقدار استحواذها على المجال المجتمعي بكامله. وفي الشرق عموماً، وفي سورا على وجه الخصوص، لم تنتعش السياسة إلا على جثة المجتمع، وفي إطار تخريب أسس العيش وتدمير نسيجه ووحدته، وذلك بقصد ضمان إنهاك المجتمع وإخراجه من أمكانية إنتاج طبقة سياسية بديلة، وكأن حافظ الأسد كان يحلم بحكم سلالي يمتد لقرون من الزمن. ذلك الديكتاتور الذي يصفه أتباعه بالعبقري والحكيم، وكأن الشرور وتعميم الفساد والخداع والبطش غدت مؤشرات للعبقرية والإبداع.
اليوم تمارس السياسة «الأسدية« لعبتها ذاتها، بل وتعيد تزخيمها وترشيقها، بما توفره لها تقنيات الإتصال، عبر تشويه صورة الشعب السوري والاستعلاء عليه ومحاولة إظهاره كشعب متخلف. ووصل الأمر إلى حد استئجار قناة فضائية سورية بعضَ المنحرفات، وهن لم يزرن تركيا يوما، للقول إنهن من إدلب وذهبن إلى معسكرات اللاجئين وتم اغتصابهن؟!
سوريا ضحية السياسة التي أظهرت كل الأشياء السيئة، وحاولت أن تجعل منها مركبا يشكل عنوان الشخصية السورية وواجهتها، مقابل القضاء على كل الميزات الخيرة والنبيلة لشعبها. واليوم تحاول هذه السياسة صناعة وحوش فاتكة في كل جنبات سوريا وأركانها، لتخرج نفسها من الورطة التاريخية التي وضعت البلاد بها، وتدعي أنها تواجه إرهاباً، ولا ضير في استدعاء جيوش العالم لمساعدتها على ترويض الشعب السوري.
المستقبل