سوريا.. فوضى ما قبل التقسيم
غازي دحمان
لا تملك الولايات المتحدة الأميركية إستراتيجية تجاه سوريا، ليس في الأمر شبهة تخمين، وقد لا يحتاج الأمر إلى جهد للتقدير، ذلك أن الإستراتيجيات لا تتبع مبدأ التقية كما لا تموه عملياتها، الإستراتيجيات لها ملامح وتباشير ونذر واستعدادات، ولها دعاية سياسية تبرر استحقاقاتها، باختصار الإستراتيجيات لها عدتها. والواضح من السياسات الأخيرة للبيت الأبيض أن الإستراتيجية الأميركية تغرف من صندوق الأدوات الإسرائيلي في مقاربتها للحالة السورية.
أيضا لا تملك روسيا إستراتيجية تجاه سوريا، الفرق أنه لدى موسكو طيفا أوسع من مصادر تقدير الموقف التي يستند إليها الكرملين في تصدير سياساته السورية، وإن كانت كلها منحازة لطرف النظام.
وأساس هذا الموقف اعتماد الكرملين على ما تنقله سفارة النظام في موسكو، وبدرجة أقل على تقارير السفارة الروسية في دمشق باعتبار أن عيون هذه الأخيرة محصورة ضمن نطاق ضيق في قلب العاصمة، ولا فرق كبير بين الأولى والثانية ذلك أن مصادرهما الإخبارية واحدة، إضافة بالطبع إلى ما تنقله وتبثه وكالات الأنباء الروسية التي لا ترى في سوريا غير قاعدة طرطوس والروسيات المتزوجات من علويين درسوا في الاتحاد السوفياتي السابق، إضافة إلى خطب وتصريحات الطاقم السياسي السوري، التي يتم إعدادها بالاتفاق مع ضباط مخابرات روس يعرفون جيداً كيف يرضون طموحات ساسة الكرملين وكيف يوجهون قراراتهم.
أوروبا من جهتها، دخلت أصلاً للميدان السوري من دون إستراتيجية، ولم تطور لاحقاً جهودها في بلورة إستراتيجية واضحة، وتفرقت جهودها بين عمل دبلوماسي غير محسوب ومدروس النتائج في الواقع الدولي، وعمل إغاثي توزع حاصله على مساحات واسعة من التجمعات وأعداد كبيرة من الأفراد ليتمظهر على شكل فتات لا يسمن من جوع ولا يدفئ من برد.
وبالنسبة لأوروبا فإنها فعلت كل ما تستطيعه و”أكثر” في ظل ندرة الموارد والأزمات التي تمر بها القارة، وصارت أزمة سوريا تفوق قدراتها، لذا فقد باتت حذرة من التعهد أو “التورط” بأي التزام مستقبلي، إن على الصعيد العسكري أو لناحية التعهد بإعمار ما دمرته وستدمره آلة الحرب المجنونة.
وتبدو جملة هذه الإستراتيجيات، لدى النظر في جدواها ومفاعيلها، سلبية، بمعنى أنها لا تحمل أي إمكانية للتأثير على ما يجري في سوريا، ومن غير المنتظر أن يصار إلى تطوير ديناميتها باعتبارها جمّدت كل إمكانيات الحركة فيها ونزعت منها قوة الفعل وحيوية المبادرة، ليس بسبب العجز الكامن في مثل هذا الواقع وظروف القوى التي تتبناها، وإنما أيضاً بسبب أن نمط الصراع ماكر وحاذق وذكي، ويسير إلى تحقيق أهدافه بطريقة لا تزعج القوة الدولية ولا تخلّ كثيراً بقائمة الاشتراطات التي وضعتها.
إنه باختصار نمط عمل على تكييف نفسه كي يبقى بعيداً عن تخوم “الخطوط الحمر” التي من الممكن أن تشكل إغراء أو إحراجا لهذه القوى لتعديل سياساتها التدخلية، وهو ما يناسب حاجة هذه الدول، في هذه المرحلة، إلى الاسترخاء بعيداً عن التورط في أوحال الأزمة، فلا النظام سيضرب سوريا بعشرات الرؤوس الكيماوية التي قد تثير غباراً كثيفاً في سماء البلاد وترى سحبه “الأمم المتحضرة”، ولا إبادات ستحصل بالجملة “ما دام التقسيط مسموحاً ومقبولاً ومتاحاً”، ولا أحد من طرفي الصراع سيجرب المس بحدود إسرائيل، ولا الثورة ستتحول مرة واحدة إلى إسلامية بامتياز ما دام يمكنها فعل ذلك على مراحل.
وحدهما إيران وإسرائيل ربما تملكان تصوراً أكثر وضوحاً من غيرهما بالنسبة للحالة السورية، غير أن هذا التصور لا يعني أن مضامينه إيجابية بالنسبة لمستقبل سوريا، فالواضح أن إيران لم تعد ترى في سوريا سوى النظام وقاعدته الشعبية، وبطريقة أخرى فإنها تنظر للأزمة من زاويتها المذهبية، وهي تسير بهذا الاتجاه إلى حده الأقصى، بل إن كثيرا من المعطيات في الواقع السوري تؤكد أن إيران باتت من أكثر الأطراف تأييداً لحالة الفوضى في سوريا لأن من شأن ذلك أن يمنحها خيارات أكثر لاستمرار تأثيرها.
أما إسرائيل فيتضح يوماً بعد آخر أنها تخوض حرباً دبلوماسية في عواصم القرار الكبرى من أجل إدامة النزيف السوري واستمراره، كما بدت خيارات إسرائيل، بعد الغارة الجوية على هدف في ريف دمشق، أكثر اتساعاً وتعدداً للعبث في الحالة السورية وتوجيهها بما يتناسب والتصورات التي وضعها جنرالاتها عن مآلات الحالة السورية.
وفي المحصلة العامة، تشكل المعطيات السابقة سياقاً عاماً لسياسة انتظارية بامتياز، وبناء عليها تترك الأمور في سوريا و”المشرق عموماً” لتتشكل على هواها ووفق مقدراتها وإمكانياتها الذاتية. غير أن ملامح اليوم هي حقائق الغد، وغالباً تحتاج التشكيلات الجديدة إلى عمليات شطب وتطهير وتوظيب قبل أن تتمظهر للعلن كبنى جيوإستراتيجية قارة، يوغسلافيا عاشت ذات التجربة ولم يحصل التدخل الدولي إلا بعد الانتهاء من كل عمليات التشكل تلك وفي محاولة لتثبيته.
وفق هذه النمطية يعيش المشهد السوري، السياسي والجغرافي، على وقع تغيرات مذهلة تضللها حالة الفوضى التي تعم البلاد من شمالها إلى جنوبها، الواضح الأكيد والوحيد فيها تشكل نقاط التماس بشكل علني وفاقع في ثلاث مناطق:
المنطقة الكردية: حيث تشتعل المناطق الشمالية من عين العرب إلى تل أبيض وقامشلو، وتمتلك هذه المنطقة امتداداً تضاريسياً وديمغرافياً داخل تركيا والعراق، وهي تنتمي إلى إطار “حلم الدولة الكردية” أكثر من انتمائها للثورة السورية.
المنطقة العلوية: وتتمظهر حدودها من وسط مدينة حمص إلى الريف الحموي شرقاً وإلى مدينتي طرطوس واللاذقية غرباً، وهي منطقة رخوة يحدد الصراع مدى تقلصها وتمددها، غير أنه يجري تركيب حدود مذهبية لهذه المنطقة لمساعدتها على النهوض ككيان جديد في الخريطة السورية.
المنطقة الباقية هي المنطقة السنية المفتوحة بنوافذها الجغرافية والديمغرافية على العراق والأردن ولبنان، وعلى الحدود المتوترة مع إسرائيل.
بالنسبة للكرد ورغم بعض الصدامات التي تحصل بين فترة وأخرى، فيمكن القول إنها صدامات محدودة ويقدر أن تبقى في إطار المناوشات، بسبب حاجة الطرفين للاستفادة من قواهما في مواجهة نظام الأسد، ولأن الصراع بينهما ليس له قيمة ووزن في الصراع الرئيسي وليس له بعد أيديولوجي واضح، أقله من الطرف العربي السني، إضافة لذلك انعدام الحافز الكردي، على اعتبار أن مناطق الأكراد الحيوية تقبع خلفهم ولا يهمهم سوى الحفاظ على خطوطهم الرئيسية، لذا فهم يظهرون في الميدان كمدافعين ويملكون مرونة التفاوض والتساوم والتوافق.
أما بالنسبة للعلويين وبما أنهم محصورون بين البحر وبيئات معادية ولا يملكون نواة دولة ولا تخوما ومناطق حيوية وهوامش ومصدات دفاعية، فإنهم يخوضون معركة يدركون أن الهجوم أفضل وسيلة وأداة لها، وهم يدركون أنهم لا يستطيعون الانكفاء إلى كيان نظري قبل أن يرسموا له الحدود ويسيطروا على مناطق ومساحات جغرافية: جزء للدولة الموعودة، وجزء للتفاوض والمقايضة، لذا بالنسبة إليهم فالتكاليف التي يدفعونها اليوم جزء من عملية التحصين والحماية المستقبلية.
كيف ستتشكل الأمور في سوريا، وبأية صورة ستتمظهر، وما أثر ذلك على المنطقة وانزياحاتها؟ الجواب على ذلك يتحدد في معارك الأشهر القادمة على الميدان السوري، وفي الحراك الصاعد في العراق بسرعة البرق ليسير على الدرب السوري، وأيضاً في مناورات الإقليم من وراء دفاعات الباتريوت التركية ونووي إيران ومعهما توضح الرؤية الإسرائيلية تجاه سوريا، وفي مفاوضات الأمم من جنيف إلى دافوس وغيرهما.
الجزيرة نت