سوريا في إسار العزلة
أحمد يوسف أحمد
من كان يصدق أن سوريا التي كانت تقع دوماً في القلب من النظام العربي، وترفع رايات المواقف الجذرية المتشددة تجاه قضايا نضاله، وتعتبر أن سياساتها وممارساتها هي المقياس للالتزام بالعروبة، تخضع الآن لواحد من أقسى القرارات التي أصدرها مجلس الجامعة العربية تجاه دولة عضو فيها. بل قد يكون أقسى هذه القرارات إذ تذكرنا أن قرارات مجلس الجامعة تجاه مصر في 1979 عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل لم تتضمن أي قدر من التدخل في الشؤون الداخلية المصرية، كما ورد في فقرة القرار المتعلقة بالجيش العربي السوري، ودعوته إلى عدم التورط في أعمال العنف والقتل ضد المدنيين. في الحالة المصرية كان “الجُرم” خارجيّاً، وهو الخروج على مألوف النظام العربي فيما يتعلق بإدارة الصراع مع إسرائيل، أما في الحالة السورية، فإن “الجُرم” داخلي يرتبط بعلاقة النظام السوري بشعبه. وحتى في الحالة الأخرى الوحيدة بين القرارات المشابهة لمجلس الجامعة التي اتجهت إلى نظام حكم بعينه هو نظام الحكم في جنوب اليمن 1978، فإن التهمة آنذاك كانت الضلوع في اغتيال المقدم الغاشمي رئيس الجمهورية العربية اليمنية، أي فيما يتعلق بأعمال تخريبية يفترض أن نظام الحكم في جنوب اليمن تورط فيها تجاه دولة ثانية عضو في الجامعة وليس تجاه شعبه.
تقول المصادر السورية، إن الأزمة برمتها مفتعلة، وإنها لا تعدو أن تكون مؤامرة خارجية تساعد في تنفيذها أطراف عربية وإعلام تحريضي للنيل من سوريا المكانة والدور، وإن سوريا كانت تمضي قدماً في تنفيذ بنود المبادرة العربية، وقد يكون في هذه الأقوال شيء من الصحة، ولذلك كنت أفضل أن تتوجه بعثة تقصي حقائق عربية في أيام المهلة الأربعة التي أعطاها القرار للنظام السوري، كي تتحقق فعليّاً من كل ما يجري على الأرض السورية، وتُبطل من ثم أية مزاعم بخصوص صدقية القرار، غير أن أحداً مع ذلك لا يستطيع أن ينكر ما هو متيقَن من عصف بحقوق الإنسان السوري العادي بما في ذلك الحق في الحياة. تقول المصادر السورية أيضاً، إن القرار غير قانوني، لأن تعليق العضوية يشترط الإجماع (فيما عدا الدولة موضع القرار) وفقاً للميثاق، وهو غير متوافر في حالتنا، وهي مسألة لابد وأن يدلي القانونيون فيها بدلوهم، وإن كان المخرج المحتمل منها في تقديري أن نص القرار قد استخدم تعبير “تعليق مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها” وهو يختلف عن تعليق العضوية في حد ذاتها. وعموماً فإن ثمة سوابق لعدم المشاركة حتى في غيبة قرار في هذا الصدد، كعدم دعوة العراق لحضور القمة العربية الطارئة في القاهرة في 1996، وكانت أول قمة عربية تعقد بعد الغزو العراقي للكويت، تجنباً لأية حساسيات يمكن أن تؤدي إلى تخريب القمة.
وثمة عدد من الملاحظات المهمة يمكن أن ترد على القرار الأخير لمجلس الجامعة العربية فيما يتعلق بالأزمة السورية لعل أولها يشير إلى أن هذا القرار بالإضافة إلى القرار المشابه السابق بخصوص ليبيا (مع استثناء الدعوة إلى التدخل الدولي في القرار الثاني)، ربما يشير إلى مرحلة جديدة محتملة من مراحل تطور الجامعة العربية، فهي أصلاً بنص ميثاقها لا تستطيع التدخل في الشؤون الداخلية لأعضائها، ولكن ما جرى ويجري على الأرض العربية اعتباراً من مطلع هذا العام أثار قضية حقوق الإنسان العربي من أوسع أبوابها، وبالتالي فإن هذه المرحلة الجديدة المحتملة من مراحل تطور الجامعة ربما تشير إلى محاولة للتوازن بين عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأعضاء وبين ضرورة أن يكون للجامعة موقفها من العصف بحقوق الإنسان العربي. وبعبارة أخرى تصبح هذه الحقوق سقفاً لعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفصيل ذلك أن تعرض حقوق الإنسان العربي لانتهاكات صارخة في إحدى الدول الأعضاء لابد أن يستدعي أولاً محاولة التدخل السياسي لرأب الصدع بين الحكم وأبناء الشعب، فإن باءت المحاولة بالفشل انحازت الجامعة إلى الدفاع عن حقوق الإنسان العربي. ولاشك أن مرحلة كهذه تحتاج ضوابط معينة كي لا يصبح الدفاع عن حقوق الإنسان ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية، وربما يكون أول هذه الضوابط هو ضرورة التحقق المباشر والدقيق من الوقائع، وثانيها صدور القرار في هذه الحالات بأغلبية كبيرة حتى لا يأتي تعبيراً عن إرادة دولة أو عدد قليل من الدول. ومن حسن حظ القرار الأخير أن ثماني عشرة دولة قد وافقت عليه، بحيث لم تعترض سوى دولتين هما لبنان واليمن (والسبب واضح في الحالتين) بينما امتنع العراق عن التصويت بذرائع ترد الإشارة إليها لاحقًا.
أما الملاحظة الثانية فهي تشير إلى عدم نص قرار مجلس الجامعة الأخير على أي تدخل دولي (عسكري)، وهو أمر ساعد على حدوثه نص القرار الليبي. صحيح أن ذلك قد تم بناء على طلب الثوار أنفسهم، ولكن مجلس الجامعة في حينه لم يطرح بدائل عربية للتدخل، وإنما أحال الأمر مباشرة إلى مجلس الأمن حيث آلت الأمور في النهاية إلى عمليات عسكرية يقوم بها “الناتو” في ليبيا لم يعرف أحد حتى الآن تفاصيل ما دمرته ولا الثمن الذي يتصور أعضاء الحلف أنهم سيحصلون عليه من النظام الجديد في ليبيا. ومن المهم في هذا الصدد التذكير بأن ضرب الجيش السوري من خلال تدخل دولي عسكري سيكون كارثة عربية بكل المقاييس على رغم استخدام الجيش في عمليات قمع المظاهرات والاحتجاجات، ذلك أن الجيش السوري يبقى في التحليل الأخير ركناً أساسيّاً في مواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل.
وتلفت النظر ثالثاً الأغلبية الكبيرة التي صدر بها القرار (موافقة ثماني عشرة دولة ورفض دولتين هما اليمن ولبنان وامتناع العراق عن التصويت). ومن المفهوم أن تعترض الحكومة اليمنية على القرار لأنها بما يجري على أرضها هدف محتمل لقرار مماثل، ولا يدري أحد لماذا لم يُناقَش الوضع في اليمن في مجلس الجامعة حتى الآن، وحتى لو كان ثمة اطمئنان إلى المبادرات العربية المطروحة في هذا الصدد فإن قراراً بقوة القرار الذي وُجه للحكم السوري يمكن أن يدعم هذه المبادرات، أما لبنان فإن تعقيدات الوضع هناك معروفة، وكان من شأن الموافقة على القرار أن تحدث بلبلة شديدة في المعادلة السياسية اللبنانية. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن أقدم ديمقراطية في الوطن العربي تضطرها الظروف إلى التصويت في اتجاه مناقض للديمقراطية. وقد كانت ثمة مفاجأة في امتناع العراق عن التصويت، وقد بررت مصادر رسمية عراقية هذا الامتناع بوجود مئات الألوف من اللاجئين العراقيين في سوريا، غير أن الامتناع يشير أيضاً إلى تأثر محتمل بالموقف الإيراني شديد التأييد حتى الآن للنظام السوري.
ما زال المناضلون السوريون من أجل حقوقهم المشروعة ماضين في طريقهم المليئة بالأشواك والعثرات، ما لم تحدث مفاجأة سارة من الجيش السوري، وما زال أمام الجامعة الكثير من الخطوات التي يتعين اتخاذها كي تحيل قرارها بخصوص الوضع في سوريا إلى حقيقة واقعة، وإذا كان اتجاه حركة التاريخ واضحاً فإن التفاصيل اليومية قد لا تتفق بالضرورة مع هذا الاتجاه.
الاتحاد