سوريا في ذكرى انقلاب البعث
سليمان يوسف يوسف
قبل أيام احتفل البعثيون في سوريا بذكرى انقلابهم على السلطة.ذكرى “ثورتهم” المزعومة،التي لم يتبق من أهدافها وشعاراتها في الواقع السياسي السوري والعربي سوى مقولة”حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع”المثبتة في الدستور القومي(اللا سوري) للبعث الذي يقلل من مكانة “الدولة السورية” وينتقص من سيادتها الوطنية.وذلك باعتبار هذه الدولة من المنظور البعثي،مجرد (قطراً أو جزءاً من دولة أو أمة عربية مفترضة وغير موجودة في الواقع)،فضلاً عن أن فرض البعث نفسه “قائداً للدولة والمجتمع” نهج في الحكم والإدارة ينطوي على تمييز وتفضيل بين المواطنين السوريين على اساس قومي وسياسي.الأخطر في الدستور البعثي “الروح الطائفية” التي يتسم بها والتي تتعارض وتتنافى مع أسس ومبادئ “دولة المواطنة- الدولة المدنية”.هذه النزعة أو الروحة الطائفية للدستور السوري تتجلى بشكل واضح وصريح في “المادة الثالثة” منه،التي تنص على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”.فهذه الفروض والشروط في اختيار وتحديد “رئيس الجمهورية” وفي سن “التشريع الوطني”، كافية للفصل والتمييز بين المواطنين السوريين على أساس ديني والانتقاص من “حقوق المواطنة” للسوريين غير المسلمين.لقد هيأ البعثيون لانقلابهم على السلطة بإجهاض “التجربة الديمقراطية والبرلمانية” الرائدة التي شهدتها سوريا في خمسينات القرن الماضي.ولم يوفر البعثيون جهداً لوأد تلك التجربة الفتية من أجل مشاريعهم وأحلامهم القومية الرومانسية الفاشلة.فمنذ ذلك اليوم المشئوم لانقلابهم(الثامن من آذار 1963) والدولة السورية الحديثة، التي تميزت عن باقي دول المنطقة بكونها واحة خصبة لمختلف الثقافات واللغات ومفتوحة لكل العقائد والأفكار السياسية، تشهد قحطاً لا بل تصحراً ثقافياً وفكرياً كارثياً و انحباساً سياسياً فظيعاً،حتى كادت أن تختفي اليوم من المشهد السوري مظاهر الحياة والنشاطات السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية إلا من تلك المدجنة والمعلبة التي ترعاها وتروج لها سلطة البعث،التي تهدف للقضاء على ظاهرة التنوع الحضاري التي يتصف بها المجتمع السوري وجعل سورية دولة لقومية واحدة وبلغة واحدة ولحزب واحد وبثقافة ذات لون وبعد واحد.فرغم رياح التغيير وعواصف الثورات الشعبية والانتفاضات الشبابية التي أطاحت ببعض عروش ورموز الاستبداد العربي والشرقي ومازالت ارتداداتها تهز أركان ومضاجع من تبقى منهم، تبدو سلطة “الاستبداد السوري” وكأنها غير معنية بهذه التطورات والزلازل السياسية التي تجري من حولها.فهي تعتبر نفسها “الاستثناء”عن القاعدة و عن قوانين التغيير والتطور الاجتماعي والسياسي التي بدأت تفعل فعلها في دول ومجتمعات المنطقة.يبدو أن أحفاد “الانقلابيون” صدقوا أنفسهم بأن الشعب السوري سيقبل والى الأبد ببقاء سوريا رهينة لهم ولحزبهم ولشعاراتهم القومية وآيديولوجياتهم العابرة للحدود والقارات،وبأن التاريخ السياسي لسوريا تبسمر وتجمد أو أغلق وانتهى عند حزب البعث وعقيدته السياسية التي يقدمونها على أنها “الحقيقة المطلقة”.والأنكى أن “ورثة البعث” يعتبرون أنفسهم بحق رواد الديمقراطية والتعددية الحزبية والحريات السياسية والفكرية والإعلامية، ناسين أو متناسين بأن حزبهم “البعث العربي الاشتراكي” هو أول حزب نفذ انقلاباً عسكرياً على السلطة وعمم ظاهرة “عسكرة السياسة” وتكريس الحكم العسكري في دول المنطقة.والبعث مازال يحتكر السلطة بطريقة غير ديمقراطية متسلحاً بسياط “قانون الطوارئ” وملحقاته (الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية) وبالشرعية الثورية المزعومة،بدلاً من الاحتكام الى الشرعية الديمقراطية التي يمنحها ويقررها صوت الناخب السوري عبر صناديق الاقتراع الحر.لقد وصل استخفاف البعثيين بعقول السوريين وبوعيهم السياسي الى درجة أن رئيس مجلس الشعب الدكتور (محمود الأبرش) خلال (طاولة مستديرة) أقيمت يوم 17/ 09/ 2009 بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية حضرها عدد من أعضاء مجلسه:”أنه لا حاجة لإصدار قانون الأحزاب في سورية… وأن الجبهة الوطنية التقدمية تعد تجربة رائدة في تنفيذ الحياة الديمقراطية المستقرة في سورية… وأن سورية كانت سباقة لتطبيق الديمقراطية في مجالات الحياة كافة والتي ظهرت من خلال تجربة مجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدمية وقانون الإدارة المحلية”. في الاطار ذاته،ذكرت بعض المصادر السورية بأن “عضو مجلس الشعب السوري عبر الكريم السيد طالب يوم الأربعاء 23 شباط الماضي، تشكيل لجنة برلمانية للنظر باقتراحه و رفع قانون الطوارئ جزئياً في سورية إلا أنه فوجئ بتصويت جميع الأعضاء في المجلس على رفض طلبه”.طبعاً، هذا الموقف المخجل لأعضاء مجلس الشعب السوري،أعلى سلطة تشريعية في البلاد، ليس مفاجئاً لنا ولغيرنا من المهتمين بالشأن العام.لأن هكذا مجلس وبهذه المواصفات، جاء أعضاءه بآليات غير ديمقراطية، لا يمكن له أن يمثل إرادة الشعب السوري أو يعبر عن تطلعاته السياسية، وانما سيمتثل لرغبة وإرادة وأوامر ومصالح السلطة الحاكمة التي جاءت به الى قاعة المجلس.
في ضوء الحالة السياسية السورية الراهنة التي يحكمها ويتحكم بها حزب البعث،أرى أن “الدولة السورية” لم تعد كما كانت أو كما يفترض ويجب أن تكون ” أداة لتنظيم وبناء علاقة وطنية متوازنة بين إرادة الشعب والمجتمع السياسي-الطبقة السياسية الحاكمة- وتنظيم هذه العلاقة ودفعها باتجاه تحقق الصالح الوطني العام”،وانما باتت(الدولة السورية) في ظل حكم البعث وقانون الطوارئ الذي ترزح تحت وطأته، مجرد “جهاز أمني” للقمع وكم الأفواه وانتهاك الحقوق ومصادرة الحريات، وأداة لتحقيق مصالح النظام، حتى لو كانت على نقيض مع رغبة ومصالح الشعب والوطن.
استمرار نهج التضليل السياسي للطبقة السياسية الحاكمة على الشعب وعودة النظام الأمني الى تشديد قبضته على المجتمع السوري واستمرار الاعتقالات التعسفية للنشطاء السياسيين والحقوقيين وأصحاب الرأي الحر وقيام أعلى سلطة تشريعية في البلاد(مجلس الشعب) بالدفاع عن هذا النهج ورفضها مجرد تشكيل لجنة برلمانية لإعادة النظر بمبررات بقاء قانون الطوارئ،جميعها مؤشرات ومعطيات تؤكد على أن ثمة مسافة زمنية وتاريخية طويلة تفصلنا نحن السوريون عن الدولة المدنية الديمقراطية”دولة المواطنة الكاملة” التي نتطلع اليها.اجتياز أو قطع هذه المسافة مرهون بقدرة الشعب السوري وتصميمه على إنهاء حالة الاستبداد في البلاد و تغيير “النظام القائم” بشكل سلمي وديمقراطي، أو إرغامه على تنفيذ اصلاحات سياسية وإدارية وقضائية واجتماعية شاملة، من شأنها أن تنهي “حالة الاستبداد” وإخراج البلاد من حالة الجمود السياسي والتصحر الثقافي الذي فرض عليها منذ عقود.اصلاحات سياسية تمكن الشعب السوري بكل طيفه القومي والسياسي والديني والثقافي من انتخاب واختيار نوابه وممثليه الى مجلس الشعب بطريقة ديمقراطية نزيهة ليعبر هذا المجلس عن إرادته الحرة.اصلاحات تكفل التداول السلمي والديمقراطي للسلطة في البلاد وتمهد لقيام سلطة تشريعية حرة ومستقلة قادرة على الدفاع عن حقوق الانسان السوري في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم.اصلاحات تفرز سلطة قضائية قادرة على مساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية في حال انتهكت حقوق وحريات المواطن أو تجاوزت صلاحياتها أو قصرت في واجباتها الوطنية.اعتقد بأن الظروف التي تمر بها سوريا والمنطقة تشكل فرصة تاريخية للشعب السوري ليقول كلمته ويقرر شكل وطبيعة النظام (السياسي والاجتماعي والاقتصادي) الذي يرده ويرغب به.
سوريا
ايلاف