سوريا لن تكون محافَظة إيرانية ولا ولاية تركيّة
خطار أبو دياب
من يتأمل خريطة الشرق الأوسط وموقع سوريا فيها كقوة وسط «puissance du milieu » في منطقة حساسة بين الشرق والغرب، يتذكر بسرعة عبارة نابليون بونابرت: “إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها”. يتوجّب أن ينطبق هذا ملياً على صياغة سياسات سوريا المحاذية لتركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، والمواجهة لإسرائيل، والجارة لأردن الهاشميين وللبنان باروميتر الإقليم، والمتاخمة للعراق وجواره النفطي والخليجي العربي والإيراني.
بلدٌ كهذا عتيق يضجّ بالتاريخ والحضارات والجيوبوليتيك الحيوي والمتطور، يصعب جعله لاعباً ثانوياً وفيه حلم امبراطوري دفين من الأمويّين إلى البعثيين ولو أنّ البعض يحاول إضعافه وتحجيمه عبر إنكار تنوّعه الإثني والديني، إذ إنه قلب العروبة ولكنه مع ذلك موطن الأكراد وغيرهم، ومهد الديانات التوحيدية منذ بداياتها.
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ارتبطت مقولة الصراع على سوريا بالدور المتعاظم للجيش السوري في الحياة السياسية وبتواتر الانقلابات العسكرية التي حركتها النزعات الداخلية المستشرية والمطامع الخارجية في السيطرة على هذا البلد من دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته. وأتى الكاتب البريطاني باتريك سيل ليتحدث عن انتقال سوريا في مرحلة حافظ الأسد إلى ممارسة دور اللاعب بدل بقائها لعبة بيد الآخرين.
لقد ارتبطت نجاحات الحكم السوري في تلك المرحلة بضمان الابتعاد عن الحرب مع إسرائيل عبر تفجير حروب لبنان والتصدي للقرار الفلسطيني المستقل، وكذلك من خلال حبك شبكة توازنات بين الصديق السوفياتي والغرب الأميركي خصوصاً، وكذلك بين الحلف الاستراتيجي مع إيران من جهة والعلاقة المتينة مع المملكة العربية السعودية من الجهة الأخرى.
بيد أنّ الحكم السوري الحالي الذي استمر على النهج نفسه مع اسرائيل في جبهة الجولان، اندمج في المحور الإيراني من دون مراعاة عمقه العربي، وراهن في مرحلة 2007 – 2010 على تفاهم ثلاثي إيراني ـ تركي ـ سوري من دون إحاطة دقيقة بلعبة التحالفات وسقوفها.
عشية الذكرى الثانية للحراك الثوري السوري، يستمر الإمعان في العنف والتدمير من نظام يتغول على شعبه بتفاعل مع شركائه، وبتواطؤ خفي ممّن يصنّفون كأعدائه. ويكشف معسكر اللاعبين الإقليميين عن أوراقه. فها هي إيران التي لم تتردد على لسان أحد مسؤوليها في اعتبار سوريا بمثابة المحافظة الـ35، تلوّح بإرسال جيش من 60 ألف شخص للقتال فيها لأنّ “سقوط دمشق يعني سقوط طهران”.
أمّا مع تركيا فالحال ليس بأفضل، إذ يستنتج من يراقب ما يجري على الحدود التركية ـ السورية والمعارك العبثية من سري كانيه (رأس العين) إلى الشدادة وغيرها، سيطرة الهاجس الكردي على صانع السياسة التركية المندفع في لعبة إعادة رسم للمعادلات من خلال لعب ورقة التركمان مثلاً وتضخيم حجمهم الديموغرافي إضعافاً، أو من خلال عدم المساعدة الفعلية في دعم الجيش الحر والقوى الديموقراطية والمدنية أمام التغلغل الآتي من وراء الحدود لمجموعات متشددة.
وكان سونر چاغاپتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن وباراغ خانا الباحث في مؤسسة أميركا الجديدة، قد تساءلا في مقالة لهما في مجلة ذي اتلنتيك (تشرين الثاني 2012) بما فحواه: “لماذا يمثل تقسيم سوريا فرصة تاريخية بالنسبة إلى تركيا؟”. ومن يرجع لتاريخ ما قبل انهيار السلطنة العمانية وما بعده، يتراوح تقييمه للدور التركي بين خضوعه لوزن الأطماع التاريخية (إقليم الاسكندرون) ومنطق المصالح المشروعة.
لكن احتمال اقتطاع أجزاء من سوريا او العودة لنغمة الولاية، سيستحيل تطبيقهما لأنّ تفتت سوريا سيكون بداية تفتت النسيج المعقد في كل الإقليم، ولأنه في ضوء كل الأسباب المقنعة التي ربما تبرر دعم كيان كردي مستقل في سوريا، توجد عقبة رئيسية تقف أمام تركيا وتتمثل في سكانها الأكراد الذين ظلوا لأمد طويل يثيرون مسألة استقلالهم.
أما بالنسبة إلى إيران، فقد سقطت الأقنعة وبانت جلياً تبعية النظام السوري لها، وقد شهد شاهد من أهلها حينما اعتبر رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب بأن الحاكم الفعلي في سوريا هو اللواء قاسم سليماني قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني.
تعتقد الأوساط الأوروبية أنّ طهران الذاهبة إلى التفاوض حول ملفها النووي آخر هذا الشهر والتي طرحت بسخرية وضع ملفّي البحرين وسوريا على الطاولة، لا تتردد في المزايدة ورفع وتيرة التوتر قبل التفاوض. ومن هنا أتى الهجوم الإسرائيلي في جوار دمشق أواخر كانون الثاني ليسهم بخلط الأوراق عشية المفاوضات. وهكذا تتحول سوريا حتى إشعار آخر إلى ساحة لعبة أمم في اشتباك إقليمي أوسع.
يجزم البعض بقرب انهيار منظومة سايكس بيكو، لكن أحد هؤلاء، الكاتب محمد حسنين هيكل يستدرك ولا يتوقع ذلك على صعيد رسم الحدود وتحديد الكيانات بل على صعيد تقسيم الموارد والمواقع. في مناسبات عديدة منها حرب العراق ـ إيران أو حروب لبنان أو حرب العراق (2003) ثبُت أنّ الدولة الوطنية بحدودها ووحدتها الإنسانية قد صمدت على رغم الانقسامات المذهبية والتجاذبات الخارجية.
واليوم على ضوء عدم قدرة الفعل العربية وفي ظل الاستنزاف بين الغرب المتراجع وروسيا المصممة على الاحتفاظ ببوابتها السورية، تحتدم اللعبة بين مشروع إيراني يعتمد على القوة الفظة للحفاظ على نفوذ إقليمي، وبين مشروع تركي طموح يعتمد على القوة الناعمة، وفي خلفية المشهد توجد إسرائيل ولعبة مصالحها.
يصعب إذن تصور النتيجة الختامية للصراع حول سوريا التي لن تذوب لا في إيران ولا في تركيا، ومع أنّ خيار التقسيم يبقى انتحارياً، لكن الأمر الواقع من اهتراء ومناطق نفوذ في المدى القريب سيمدد المأساة بانتظار الحسم الإقليمي يوما وعند استنفاد النزاع السوري لوظيفته الجيوسياسية كنقطة تقاطع لصراعات الآخرين.
جامعي وإعلامي لبناني