سوريا والتهافت الطائفي
عبدالعزيز الحيص
الوضع الطائفي يشتعل في سوريا، تبعا لقيام “ميليشيات طائفية” تابعة للنظام السوري باستباحة أكثر من بلدة، في مشهد ترافق فيه حضورها مع حضور الجيش وهجومه على أماكن الاحتجاجات في سوريا. وقد يتفهم الإنسان اليوم وجود اشتعالات طائفية في سوريا تبعا لوضع قام النظام بتسميمه.. أما الغير مفهوم فهو وجود من يشعل الطائفية -وهو خارج سوريا- تبعا لأحداثها، مع أن ما يحدث في سوريا هو ثورة شعب على نظام تجلّت فيه مظاهر الاستبداد والفساد. وإبقاء هذه الحالة في بعدها السياسي والواقعي هو المطلوب، بما في ذلك جرائم الكراهية والطائفية التي وقعت.. فلم تكن بداية الأحداث وجود طائفة تريد قتل أخرى، كما أن نهايتها لن تكون كذلك!.
ومع اعدام النظام السوري لأية حلول ممكنة، تم تضخيم العقبات الأخرى الملاصقة لعقبة النظام، مثل: دعم روسيا، وتوحد المعارضة السورية، والصراع الطائفي. وبالنسبة للنقطة الأخيرة، من المراقبين والمنظرين من رسم وأسّس لمشهد طائفي يهيمن على أحداث الثورة السورية، وهذا هو عين ما يبحث عنه أساس المشكلة، وهو النظام السوري.. لأنه يعلم أن الصراع حين يتحول إلى طائفي، فهناك كثير سيقاتلون لأنفسهم لا لأجله.
وقد تواجدت ومنذ بداية الثورة العبارات العاطفية والحسّاسة التي تتكئ على بعد طائفي.. وهي تقدم خلطاً واسعاً بين ما هو سياسي وما هو طائفي. فمأساوية أي وضع في المنطقة لا يجب أن تمنعنا عن محاكمة الوضع بعقلانية وكما هو، لا كما تأخذنا إليه عواطفنا أو بلاغات الخطباء.. فهل الوضع هكذا فعلا، وهل نحن في حرب طائفية سوف تأتي إلينا بين لحظة وأخرى؟!.
إن ما يحدث في المنطقة في حقيقته هو اختلالات سياسية يستغل بعضها المسارات الطائفية الموجودة. وهي مسارات ثقافية كامنة، وقابلة دوماً للاستثارة. وقد تكون هناك حالة مواجهة طائفية اشتعلت بالفعل في الداخل السوري تبعا لما فعله النظام، لكن لا يوجد أي مبرر لتوسيع وتعميم الصراع الطائفي في المنطقة بناءً على ما حدث في سوريا. إضافة إلى أن الرؤية ليست واضحة تبعا لما يجري في سوريا، ولا يوجد قدرة على قراءة الوضع بوضوح والحكم أن هذه الطائفة بعمومها تمارس التعدي والإساءة، فهناك قطاعات من السنة وعلماء مثل المفتي وغيره قد وقفوا مع نظام الأسد!. كما يوجد فرق بين من يقف مع النظام، ومن يمارس “الإجرام” معه!.
لقد كانت الطائفة جزءً قديماً ومستمراً من المنطقة، وهي جزء طبيعي، لكن البعض (خصوصا من التيارات الدينية) ينطلق منه كأساس للمشكلة!. ونتيجة لوضع الأزمة الذي يتصاعد حالياً بسبب دموية النظام السوري، من المحتمل أن تنتج فعلا حالة جهادية في المنطقة، خصوصاً مع انزواء الغرب عن التدخل وعدم وجود تحرك سياسي إقليمي. بل قد يسأل الإنسان اليوم: أيهما سيسبق الأخر، حالة التدخل الدولي أم الحالة الجهادية؟. وكلاهما صعب، ولكن الثانية أخطر. فحالة التدخل الدولي قد تعقب تقسيماً لكن في النهاية ستكون حالة مسيطر عليها (بوجود الدعم والشرعية الدولية)، أما الحالة الجهادية (مع طائفية هذه المرة) فالله أعلم إن كانت ستنتهي إن بدأت، فهي ستعقب “تقسيمات” وصراعات مستمرة.
ومن السهل على دول فتح منافذ للقتال، لكن من الصعب أن يزعم أحد أنه يسيطر على الحالة في الميدان بعد ذلك. الموقف القتالي الغير مدعوم بشرعية دولية، قد يجعل الدول التي دعمته تنسحب عنه في أي لحظة، فلا يوجد ما يربطها بمواقف لا يعترف بها أحد!. فحالة الصومال تركت للفقر والموت حين تباعدت عنها المواقف السياسية. وفي أفغانستان، يموت اليوم عُشر الأطفال ويلقى “الأسيد” الحارق عل وجوه الفتيات في المدارس، ولا يوجد من يقف ليساعد الحالة الأفغانية مع بوادر انسحاب الاحتلال عنها (خصوصاً من أولئك الذين ألهبونا عاطفياً ببطولاتهم هناك!)..
وعلى الطرف المقابل هناك من يسيطر عليه المشهد الطائفي ويعتبر أن كل تحركات سياسية ليست سوى تحركات طائفية!. صحيح أن الحالة الطائفية موجودة في المنطقة على مستوى شعبي ونخبوي وسياسي، لكن الحكم على تحركات طائفية في حالة محددة هو حكم حسّاس لابد أن ترافقه استدلالاته، لا أن يكون موقفاً انطباعياً فقط!. يكتب البعض أن السعودية وقطر تختطفان وضع الثورة السورية وهذا غير صحيح، فالسعودية وصل بها الأمر إلى منع تبرعات شعبية تحوّطاً مع أن الحالة السورية جيّشت وآلمت قلوب الكثيرين.. ولم يبادر أحد لاختطاف مأساوية الوضع السوري، فالوضع كان مأساويا منذ البداية ومنذ انطلاق صرخة درعا وسوق الحميدية قبل أكثر من عام، بينما السعودية وقطر لم تصعدا اللهجة تجاه النظام السوري سوى في أواخر العام الماضي وبعد أشهر طويلة من بداية الثورة. وهو موقف انتظر طويلا وليس موقف من يسارع لاهتبال فرصة!. ومن الطبيعي أن تتحرك السعودية كدولة كبرى في المنطقة مثلما تتحرك تركيا، مع انشغال مصر حالياً، ومن الطبيعي أيضاً أن تتحرك قطر كدولة نشطة سياسيا، قد فتحت وساهمت في ملفات كثيرة في المنطقة من دارفور وحتى طالبان.
أمّا مسألة التكفير الطائفي، فلا تحسب على تحركات أحد، فهي مسألة تشدد مستمرة في المنطقة ولا تعتبر “متغيراً” جديدا تم انتاجه تبعاً للحالة السورية. كما أن تضخيم النظام السوري للحالة الجهادية واضح، فالجماعات الجهادية المعروفة لم تصرح بتواجدها في سوريا، ولا يوجد أي دليل على ذلك، على عكس الحالة الجهادية التي في العراق سابقاً والتي كانت واضحة. وتنظيم “النصرة لأهل الشام” الذي يُنقل أنه تبنى تفجيرات في سوريا، من الأقرب أنه تنظيم مصطنع.
ولا ينحصر هذا التأسيس الطائفي للحالة على من في داخل المنطقة، بل حتى المواقف الدولية. فالرؤية الغربية فيها اتكاء واسع على طائفية (ستقسم المنطقة)، وروسيا تحاول تقديم الوضع على أن ما يحدث في المنطقة هو حرب طائفية بين إيران من جهة وقطر والسعودية من جهة أخرى. ويتجاهل الروس عمداً وببلاهة أن ما حدث هو ثورة وشعب قدم الغالي والرخيص لأجل حريته وكرامته. ولم تكن روسيا لتقف موقفها لولا أنها لمست عدم جدية أميركا. فأميركا حين تكون جادة ستتدخل حتى من دون مجلس الأمن، لكنها وجدت في روسيا السبب الذي تريد لتفسر به موقفها. والآن يدخل القطبان في محادثات، ومفاوضات غير واضحة. لكن ما هو واضح وأكيد هو أن شبح الطائفية يجثم فوق المنطقة..
يبقى أن المواقف السياسية لدول المنطقة واضحة وطبيعية، ولا تتكلف موقفا طائفيا. الخوف ممن يتهمها بذلك، بينما هو يؤسس قناعاته ومواقفه طائفيا!.
ايلاف