سوريا والحماية الدولية: المثقفون والمحتجون
عبدالله بن بجاد العتيبي
ماذا يمكن أن يفعل الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي في دمشق؟ هبطت طائرته هناك والتقى الأسد، ونقل له رسالة الجامعة، ثمّ ماذا؟ هل يتوقّع أن يستجيب الأسد لأي شيء يطرحه؟ بالتأكيد لا إنّ الأسد ونظامه عاجزان تماماً عن فعل أي شيء آخر غير القتل والعنف والمزيد منه ولا شيء آخر.
تبقى تطوّرات الداخل السوري هي الرقم الصعب في المعادلة برمّتها، فالإصرار على الاحتجاج والعزيمة على الاستمرار فيه وانتشاره وتصعيده كفيلان بإحداث فارقٍ يدفع نحو تغيير حقيقي في المواقف السياسية العربية والدولية تجاه النظام هناك، وتأتي الجمعة الماضية التي اختار لها المحتجّون السوريّون اسماً لافتاً هو “الحماية الدولية” كمرحلة جديدةٍ من تصعيد المطالب تجاه المجتمع الدولي ليطوّر من مواقفه تجاه الوضع في سوريا.
المطالبة بالحماية الدولية فيها شيء من الغموض واللبس، وهي تفتح مأزقاً حقيقياً إن كانت تطالب بالتدخل العسكري الدولي في الشأن السوري، إن كان هذا هو المقصود بالحماية الدولية فإن النظام سيكون طبعاً الرافض الأكبر وسيعتبره استعماراً جديداً كما فعل القذّافي، وربما صوّره على أنّه هجمة صليبية. وسيسوّقه على روسيا بأنه ضرب لنفوذها في المنطقة في آخر معاقله.
بعض المثقفين من القوميين أو الإسلاميين أو اليسار العرب، أصبحوا في مأزقٍ حقيقيٍ تجاه دعوةٍ كهذه فمن جهةٍ هم يأملون بسقوط هذه الأنظمة العسكرية الديكتاتورية العتيدة، ويدعمون حقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية، ومن جهةٍ يرون استعار الأنظمة في القتل واستخدام القوات المسلحة ضد الشارع، ويرون أن الشارع مهما استمرّ في الاحتجاجات فلن يصل لنتيجة دون تدخلٍ عسكري أجنبي. ومن هنا فكثيرٌ منهم يريد لهذا التدخل العسكري أن يحدث ولكنّه لا يستطيع الدعوة إليه، أو يعبر بلغةٍ باهتةٍ عن رفضه له. طبعاً المثقف من داخل سوريا لا يستطيع أن يدعو لشيء من هذا القبيل لأنه معرّضٌ للاتهام بالخيانة العظمى.
لكلٍ طيفٍ من هذه الأطياف الثقافية الثلاثة تاريخ طويل من البناء المفاهيمي والخطاب الفكري والحزبي والسياسي المناقض لكل ماهو غربي، كل بحسبه، وهم يعتبرون أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي رأس الشرور في العالم، وهم غير مستعدّين بعد لمطالبتها بالتدخل أو تغيير موقفهم تجاهها، على الرغم من أنهم أبدوا استعداداً مختلف الدرجات لأمرين: الأول، تفهّم أن المنطقة تمرّ بمرحلةٍ جديدةٍ. والثاني، تفهم أنّ هذه المرحلة تحتم عليهم مراجعاتٍ عميقةٍ لمجمل خطابهم السياسي والثقافي والاجتماعي، وكذلك مراجعة الجانب الأيديولوجي أو الديني بناء على تطورات الأحداث.
كلٌ من هذه الأطياف الثلاثة يحاول تجاهل أو إغفال أنّ الولايات المتحدة كانت حليفته في يومٍ من الأيام، فالقومي يتناسى أنّه لولا تدخّل الولايات المتحدة في حرب السويس عام 1956 أو ما يعرف بالعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر لذهب أعتى أنظمتهم القومية أدراج الرياح. والإسلامي يريد أن يتناسى الحلف القوّي مع الولايات المتحدة ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي في كل العالم والذي يتجلى مثاله الصارخ في الحرب الأفغانية السوفييتية، التي لولا دعم الولايات المتحدة لهم فيها لكانوا وخطابهم وكياناتهم في خبر كان.
ربما يحلو للبعض استثناء اليسار العربي من هذا السياق، ولكنّ الصحيح أنّهم تحالفوا مع الولايات المتحدة في إسقاط صدّام حسين وطرح بعض رموزهم السوريين تبريراتٍ مشابهةٍ. وقد شارك الحزب الشيوعي العراقي في تأسيس المؤتمر الوطني ببيروت مارس 1991، والذي طالب أميركا والدول الغربية بالمساعدة في إسقاط نظام صدّام حسين.
هذا في محاولة قراءة وفهم مواقف وخطاب بعض الشرائح الثقافية في المشهد المعاصر، ولكن ماذا عن الشعب؟ ماذا عن رافعي الشعارات في شوارع حمص وساحات حماة وأزقة اللاذقية؟ ماذا عمّن لايرون من المشهد إلا فوهات الدبابات ومواسير البنادق؟ تلك الموجهة لصدورهم وأبنائهم وبيوتهم، باختصار، ماذا عن الشعب السوري؟ ماذا عن الشباب المحتج في الشوارع والبلدات، في المدن والأرياف؟ ذاك الذي لم يزل يواجه منذ أشهرٍ جيشاً مسلحاً وقوات أمنٍ باطشةٍ وشبّيحةٍ قاتلةٍ؟ كيف يرى هو التدخل الأجنبي؟
إنّه -وبعيداً عن أي حساباتٍ أخرى- يرغب فيه ويدعو إليه ويتظاهر لأجله ويستنكر تأخره، وقد عبّرت الجمعة الماضية عن مطالبة صريحة به، ويكفي تسميتها بجمعة “الحماية الدولية” لتأكيد هذا الموقف أو الرغبة.
يبقى السؤال ما هو نوع التدخل الأجنبي الذي يرغب فيه الشارع؟ وما هي “الحماية الدولية” التي يسعى إليها؟ هل يقصد التدخل العسكري الكامل كما جرى في العراق؟ أم يقصد التدخل العسكري الجويّ الذي يشل قدرات النظام العسكرية واللوجستية كما جرى في ليبيا؟ أم أنّه لا يعني شيئاً أكثر من فرض عقوباتٍ دوليةٍ ضد النظام ورموزه، ومطالباتٍ بتدخل مراقبين دوليين، والسماح لوسائل الإعلام بالتغطية، وبعض القرارات الحقوقية والإنسانية؟
لئن كان الخيار الأول مستبعداً، والخيار الثالث قائماً بالفعل -ماعدا المراقبين الدوليين- فالعقوبات الدولية تتزايد، والتغطية الإعلامية يقوم بها بكفاءة عالية شباب الاحتجاجات وينقلون التفاصيل بالصوت والصورة من كل مكانٍ وهم أكثر عدداً وأوسع انتشاراً من أية وسيلة إعلامية، والقرارات الحقوقية والإنسانية تدين النظام، فهل يمكن دون اعتبار الأمر مجازفةً القول بأن الخيار الثاني –ضمن هذا السياق- وهو النموذج الليبي يعدّ أفضل الخيارات في هذه المرحلة بالنسبة للمحتجين السوريين؟
هتف المحتجون في دير الزور “القورية” الجمعة الماضية بهتافٍ جديدٍ يقول “الشعب يريد الحماية دولية” في مقطعٍ فيديو نقله موقع شبكة شام على الفيسبوك. وفي إدلب كتب أحدهم “أنقذونا من أنياب الأسد”، كما رفع أحدهم شعاراً مكتوباً في درعا “تسيل” “أغيثوا الشعب السوري إنه يباد”، كما رفع آخر شعاراً معبراً يقول “نحن أطفال سوريا ننعى الجامعة العربية ونطالب بحماية دولية” إن هذه الشعارات والشعار الأخير تحديداً تشير إلى أنّ الحماية الدولية ليس المقصود بها العرب ولا تركيا ولا روسيا المشاركة في القتل حسب شعارات أخرى، فلم يبق مقصوداً بالحماية الدولية إلا الغرب أولاً والأمم المتحدة ثانياً. وهذا ما قاله صراحة أحد الشباب المحتجين وهو علي حسن الناطق باسم شبكة شام على قناة الجزيرة حيث اعتبر تفسير الحماية الدولية وكيفية تنفيذها بنجاعةٍ مسؤولية المجتمع الدولي لا المحتجين السوريين.
إن التدخل العسكري الدولي في سوريا سيسبب حرجاً كبيراً لمناهضي الولايات المتحدة والغرب، وسيدفع بإحساسهم بالتناقض المذكور أعلاه إلى مداه الأقصى، ولكنّ الأمر ذاته لن يحصل للمحتجين السوريين في الشوارع بل سيستقبلونه بالتهليل والزغاريد، كما جرى في بنغازي من قبل، والمقارنة هنا لتوضيح هذا الجانب من صورة المشهد في البلدين.
بعدما حارب العرب الاستمعار في بداية القرن الماضي آملين في الدولة الوطنية التي يصنعونها على أعينهم، هاهم اليوم يستنجدون بالمستعمر الأجنبي لينقذهم من المستبد الطاغي المحلي، وهم يفعلون هذا للنجاة من الغرق لا برؤيةٍ ولا استراتيجية، ويظل المستقبل مفتوحاً.
عبدالله بن بجاد العتيبي
الاتحاد