صفحات سوريةنبراس شحيد

سوريا ومقامات التكبير

نبراس شحيد
ـ الشارع و«الله»
تتصاعد النبرة الدينية، بصبغتها الطائفية، على «الفيس بوك» بعد مذبحة كرم الزيتون، وتتعالى أصوات المطالبين بالجهاد، ونقرأ في تعليقات بعضهم شتائم مشينة لطوائف أخرى، ودعواتٍ إلى إبادتها! لا نستطيع أن نحدد مدى إمكانية صفحات التواصل الاجتماعية هذه على التعبير عن حقيقة الشارع السوري، ولا نريد أن نقلل من شأن ووعي وعدد المناضلين الذين يقاومون الطائفية مثلما يقاومون طغيان النظام، لكننا لا نستطيع أن نضرب بعرض الحائط شهاداتٍ عدّة تتسرّب من حمص عن أعمال القتل الطائفيّ، من دون أن نكون قادرين في المقابل على التأكّد دوماً من صحتها ومن هوية فاعليها.
لست بمحللٍ سياسي لأشرح كيف كان لفرط عنف النظام، ولآلته الإعلامية وتكتيكاته الأمنية، ولطريقة استعماله المؤسسات الدينية، دوراً مهمّاً في دفع بعضنا باتجاه الطائفية. ولست خبيراً لأدرس تداخل الأبعاد الإقليمية والدولية في واقعنا السوري الراهن، أو لأحلل أخطاء المعارضة وتشرذمها الذي ساهم في الوصول إلى ما نحن عليه. ولا يسعني أيضاً أن أسلط الضوء على تداخل الجماعة المذهبية في مركّبات الهوية الفردية، لأضع يدي على الخلفيات الاجتماعية التي يمكنها حضن بعض حالات التطرّف، ولكنّني أردت ببساطةٍ أن أتأمل مجدداً في مكانة الدين.
– لتصاعد النبرة الدينية، التي قد نختلف في شدتها اليوم، بعدٌ ماورائيٌّ، على ما أعتقد. فمع مشاهد الرعب الوحشية، ومع تفجّر العواطف، وأمام القلق من الموت، أو اليأس من استعصاء الحاضر وانغلاق آفاقه السياسية، يصير الدين واحةً في صحراء! لكن الدين، الذي هو «مربط الروح حيناً ومطارح اللجوء دائماً» (نصري الصايغ)، يصير مقاماً من مقامات الموت حين يستولي عليه حفنةٌ من المتشددين أو المشعوذين الذين يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة، ويَعِدوننا بالخلاص إن نحن أطعنا تعاليمه «تعالى» في دحر «الكافرين». وهكذا تتصلّب صورة «الله» في أذهان بعضنا، ليصير اسمهُ تعويضاً عن عجزنا، أو مسكِّناً لقلقنا، أو بديلاً عن رغباتنا في التشفي، فتنقلب الواحة سراباً، وتُسفك قيمة الحياة مهراً «للجنّة الموعودة»، ويصير الدين «أفيون الشعوب»! من قلب الحاضر المؤلم، يصير التشدد الديني محض تنهدٍ مختنقٍ خانق، ويصير «الله» معه عداءً للآخرين، واسماً لاغتراب الإنسان عن ذاته، ودلالةً على انقسام الفرد على نفسه بين رغبته في الحرية وخضوعه للظلامية باسم «الحرية» نفسها! وهكذا، قد يصير الدين حالةً من التناقض، ليعبّر عن بؤس الإنسان في الواقع الدموي السوري، من جهةٍ أولى، معزِّزاً البؤس هذا، من جهة ثانية، حين يستبدل ديكتاتوريةً بشريةً بأخرى إلهية تصنف العدو انطلاقاً من طائفته لا من موقفه!
لكن، كما يمكن شعار «الله أكبر» أن يخيف بعضنا حين يكون مصدر انغلاق، يمكن الشعار نفسه، عندما نكون أوفياء لدلالاته (أمؤمنين كنا أم لا)، أن يفتح لنا آفاقاً واسعة، حين تستطيع العبارة هذه أن تقول إن «الله» أكبر من الجميع: أكبر من النظام وظلمه وإعلامه وأمنه، وأكبر من شيوخنا وكهنتنا، ومن مؤسساتنا الدينية التي أثبتت في كثيرٍ من المطارح فشلها، وأكبر من حاجاتنا الماورائية وتجيّش عواطفنا، وأكبر من طائفية بعضنا، وأكبر من الأديان والشعائر… وهنا يمكن شعار «ألله أكبر» أن يقول إن «الله» يبقى أكبر من «الله» الذي نؤمن به!
عندما أقول لنفسي اليوم «ألله أكبر»، أتذكر فدوى سليمان: «وجدتُ نفسي أنتمي إلى كل الأديان وإلى كل الطوائف وإلى كل فكرٍ إنساني، ووجدتُ نفسي أنتمي إلى الحب وإلى التسامح، وإلى الحزن العميق على كل إنسانٍ غير قادرٍ على الحب… إنها لنعمةٌ كبيرةٌ أن تنتمي إلى الإنسان، وإلى الإنسان وحده لأنك بذلك لن تضحّي بأحدٍ في سبيل أحد، ولن تدعو إلى موت أحدٍ ليعيش أحد. إن من ينادي بالحرية ينادي بها ليعيش لا ليموت، لأنها ضد الموت ومع الحياة!». وكأنّ «الشيخ الأكبر»، ابن عربي، الراقد في دمشق، يا فدوى، يعيد علينا من بين كلماتك ما قاله يوماً: «أدينُ بدين الحب أنّى توجهتْ/ ركائبُه فالحب ديني وإيماني»!
كنت مع أحد الأصدقاء أحاوره في أهمية الإعلام الحر، وفي جرأة بعض صحافيي الثورة على الخروج عن الوصاية الأخلاقية عليها، ليسلطوا الضوء على أماكنها المظلمة، طائفياً وأخلاقياً. وفي نهاية الحديث، قال لي صديقي بعد هنيهةٍ من الصمت: «الصحافيّ الذي يتجرأ على نقل محدودية ثورته لتجاوز أخطائها هو أكبر الثائرين، لأنه لا يخاف من ديناميكيّة الحقيقة… هو وأمثاله قادرون على الوقوف في وجه الطائفيّة!» …عندها أغمضتُ عينيَّ وقلت في نفسي: «ألله أكبر»!

(راهب يسوعي من سوريا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى