سورية إسقاط …أم إصلاح…؟
عادل امين
بأي منحى يجب ان تسير الانتفاضة السورية ؟ بأتجاه اسقاط النظام السياسي، أم بأتجاه اصلاح النظام اصلاحاً جذرياً يضمن معالجة لكل معاناة الشعب السوري الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية ولكل ما يثقل كاهله منذ عدة عقود ؟ بأعتقادي هذا السؤال يجب ان يطغي على تفكير ومناقشات المعنيين بالشأن السوري .
بدءاً، اقول ان الوضع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والأخلاقي …إلخ في الدولة السورية، شبيه بهذا الشكل أو ذاك، بالوضع في الدول العربية الأخرى، زائد أو ناقص قليلاً، دولة يتربع على نظامها السياسي حزب واحد ، يمسك بكامل مفاصل الحكم فيها بإسم الثورة، الثورية والقومية، وما شئت من التسميات، ويقودها قائد واحد وهو”الأب” لا يمسك بزمام أمور الدولة ومفاصلها لعقود طويلة فقط ، لا بل يخطط للتوريث أيضاً، وإذا وجدت أحزاب أخرى فيها، ما هي إلا أحزاب كارتونية، أو أحزاب ذوات تأريخ عريق لكنها ولظروف معينة، وربما خوفاً من القمع والأرهاب دخلت في فلك أحزاب قومية “ثورية” حاكمة، فأصبحت شريكة أو مساهمة شكلية في الحكم، لا تحل ولاتربط، لا حول لها ولا قوة، لكنها تحمل وزر اخطاءها فقط، كل شئ في هكذا الأنظمة مزيفة ومنسوخة، من البرلمان المعين أعضاءه مسبقاً ومروراً بدساتيرها التي تعد من أجود ما أوجدت في تأريخ الشعوب والأمم من حيث الشكل، لكنها مطية تمتطيها القوانين الإستثنائية بإسم الثورة المستمرة لعقود، وسلطتها التنفيذية التي تدير شؤونها الاجهزة المخابراتية والتي هي الناهية والمنكرة في كل أمورها و الوزير ليس أكثر من دميةٍ مكانها في الواجهة التزينية وانتهاءاً بالسلطة القضائية خاضعة لمشيئة المخابرات، الإعتقالات كيفية وغير قانونية، ومن الممكن أن يقبع شخص بريء فترات طويلة في أحد المعتقلات لمجرد الإشتباه لا أكثر، تشديد القبضة الحديدية والإرهابية على كل مفاصل الحياة، حتى على الشؤون الشخصية والعائلية، بكلام آخر أنظمة حكم شمولية إقترفت ما لا يعد ويحصى من الجرائم بحق شعوبها، الدولة السورية ونظامها السياسي لا يُستثنى من هذا البلاء الذي إبتليت به الدول العربية في المنطقة.
هذه هي أحوال أغلب الدول العربية، مصرالناصري والساداتي والمباركي، عراق عبد السلام والبكر وصدام، سورية الأتاسي والأسدين الأب والأبن، آل السعود في السعودية، أردن طلال وحسين وعبد الله، تونس البورقيبة وإبن علي، مغرب الحسن والمحمد، ليبيا القذافي…و سودان السلال ونميري وحمدي وصالح، كلها على شاكلة واحدة مع الاختلاف قليلاً أو كثيراً، كلها الأب القائد، والبطل المغوار، والمنقذ، وهو عزرائيل وجبرائيل والكل بالكل، أوصلوا أنفسهم و دولهم وشعوبهم إلى مهزلة أمام شعوب وقادة دول العالم .
لقد إندلعت منذ اشهر الثورات والحركات الثورية والإنتفاضات الجماهيرية في هذه البلدان، البداية في تونس ثم مصر، وامتدت السلسلة إلى الدول الأخرى، أغلبها عفوية ، انها نهضة تأريخية وان جاءت متأخرة لإستحقاقات قديمة، تعبر عن حالات اليأس والإحباط التي أصابت شعوب هذه البلدان، نتيجة ممارسات الفئات والشرائح التي تربعت على السلطة منذ الإستقلال في خمسينيات القرن الماضي ودون أن تقدم لشعوبها شيئاً يذكر سوى المآسي ، الفقر، تدني الوضع الإقتصادي، التخلف، القمع، الحروب العبثية، الفساد والإغتناء غير المشروع للفئات الحاكمة على حساب مأساة هذه الشعوب، …إلخ.
إنها حقاً نهضة جماهيرية جبارة، لم تكن متوقعة ليس لدى قادة دول العالم التي تحيط بهم حلقة كبيرة ومجربة من المحللين والخبراء الدوليين والمختصين بشؤون العالم العربي، لا بل حتى لدى قادة الحركات والأحزاب السياسية في الدول العربية نفسها، إن الجمود والإسترخاء عند هذه الشعوب لعقود طويلة ، خلق حالة من اليأس والإحباط عند الحركات السياسية فيها، إلا ان هذه الإنتفاضات التي صحبها النهوض الجماهيري المفاجئ والسريع كانت بمثابة الصعقة الكهربائية إذ حولت بعض هذه الحركات والزعامات وادارت بوصلتها من حالة الإحباط والتشاؤم إلى حالة الحماس المفرط والإنجرار العاطفي وراء الهياج الجماهيري في كل هذه البلدان بالجملة، دون أخذ حالة كل بلد بذاته، و دون التفكير العميق فيما تؤول إليه الإنتفاضة في هذه الدولة أو تلك، والنتائج المستقبلية التي تترتب عليها على ضوء موازين القوى فيها .
نظراً لإختلاف مستوى ونمو الحركات السياسية والإجتماعية في بلدان المنطقة، على المرء تمييز حالة دولة عن أخرى، بالرغم من مساوئ كل الأنظمة الحاكمة في هذه الدول وما إقترفت من الجرائم بحق شعوبها والأضرار التي ألحقتها ببلدانها، إلا أن الحماس المفرط في مسايرة الهياج الجماهيري بقضه وقضيضه ووضع معيار واحد أو سمات متشابهة لسير الإنتفاضات وثمارها في كل هذه البلدان، ودون الأخذ بالاعتبار القوى التي ستحاول القفز لركوب الانتفاضة وجني ثمارها وادارتها وفق منهجها الفكري والفلسفي، ستكون له عواقب سلبية على شعوبها ومستقبلها السياسي، لا تقل ضرراً عن ما أصابتها خلال العقود السبعة الماضية .
المنطق السليم يتطلب تحليل الوضع في كل بلد من هذه البلدان وظروف تطوره ومعرفة موازين القوى فيه والبديل القادم، فالبديل القادم في تونس من حيث تركيبته الإجتماعية والسياسية يختلف عن البديل في مصر الذي ما زال قلقاً من حيث تركيبته السياسية والإجتماعية، التي تحاول فيها القوى التي لم تساهم في الثورة أساساً من جني ثمارها، تلك القوى التي هي ليست من حيث الجوهر، بأفضل من النظام المنهار، وهذا لايعني بأي حال من الأحوال من أن نظام مبارك كان نظاماً مقبولاً، عندما أقول بديلاً قلقاً أعني أن الأمور لم تحسم بعد، ومفتوحة على كل الإحتمالات، لكن كل الدلائل تشير إلى الأخوان المسلمين يحاولون السيطرة بإعتبارهم القوة الأكثر تنظيماً وقد إنتعشوا خلال حكم مبارك ، بالرغم من المضايقات التي كان النظام يفرضها عليهم بين فترة وأخرى، ويفسح لهم في الوقت نفسه مجال التنفس لتخويف أوربا وأميركا ببعبعهم، والآن يحاولون(الأخوان المسلمين) من إنتزاع السلطة بالاتفاق مع المجلس العسكري الحاكم وليس بعيداً عن مباركة الولايات المتحدة، وسوف لا يكونون( الأخوان) بالتأكيد بأفضل من الأنظمة الأسلامية الحاكمة في الدول الأخرى سواء في سياساتهم الداخلية إتجاه شعوبهم، أو دورهم في الصراعات الدولية في المنطقة، أما البديل في ليبيا يختلف أيضاً عن تونس ومصر، إنه خليط غير واضح الملامح لحد اليوم، لكن في كل الأحوال البديل هو أفضل من المهرج الدكتاتوري (القذافي) الغني عن التعريف، وهكذا الحال في اليمن.
من هذا المنطلق يجب أخذ خصائص كل دولة بذاتها، دول بحاجة إلى إسقاط أنظمتها السياسية ودول بحاجة إلى الإصلاحات السياسية من كل النواحي، السياسية والإقتصادية والإجتماعية . في الوقت ذاته، من الضروري الأخذ بالحسبان الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة وسعي الكثير من الدول الإقليمية والدولية لترتيب المنطقة وفق مصالحها الستراتيجية ومخاوفها ايضاً الى جانب مطامعها في ملئ الفراغ السياسي فيها، إيران تسير نحو بسط نفوذها في المنطقة وحصلت على الكثير وتسعى للمزيد، تركيا تريد استرجاع نفوذها القديم في العالم العربي، سواء بالدخول من البوابة الفلسطينية (غزة) أو من خلال دعم الإخوان المسلمين في مصر وسورية (بقوة) لإستلام السلطة في البلدين، وهذا يلاقي ترحيباً أمريكياً وسعودياً، بالرغم من أن الارتياح السعودي من الدور التركي مرحلي لأن لها هي ايضاً طموحاً في زعامة العالم العربي لاحقاً.
لكن ماهي الأوضاع في سورية ؟ الإنتفاضة السورية كانت أهدافها في البداية بسيطة وواضحة تطالب بالإصلاحات السياسية والإقتصادية ومكافحة الفساد المستشري فيها كبقية البلدان العربية، والآن توسعت أهدافها وحجم المشاركة فيها ودخلت دول إقليمية أخرى على الخط، وتأخرت القيادة السورية عن إجراء الإصلاحات التي باتت ضرورية، وبغباء تصرفاتها وسلوكها الدموي أوصلت الأوضاع إلى ما عليها الآن، وبالرغم من توسع حجم المشاركة في الإنتفاضة وتوسع مطالبها لحد إسقاط النظام، إلا أن هناك ما زالت بعض القوى لها مكانتها في المجتمع السوري، تتمسك بمطالب الإصلاحات وليس الإسقاط ، لأنها تدرك النتائج التي تترتب على الإسقاط .
الحال في سورية ونتائج الإنتفاضة فيها مقلقة اذا نجحت قوى غير سليمة وبمساعدة اقليمية في ركوبها، وهذا الاحتمال يلوح في الأفق، اكثر من الدول العربية الآخرى، فإذا كان البديل في تونس واضحاً وفي ليبيا واليمن تحجبهما الضبابية وفي مصر قلق وغير محسوم، فأنه في سورية واضح وضوح الشمس، بعيداً عن التشفي والحقد والكراهية واستذكار الماضي المرير و تسهيل هذا النظام لأعمال المجاميع الإرهابية التي قامت بالمجازر بحق الشعب العراقي، وأعماله في لبنان، ووضع كل بيضاته في السلة الإيرانية الخاسرة، بعيداً عن كل هذا وذاك، من هو البديل القادم في سورية ؟
لحد الآن الأخوان المسلمين يتحركون بفعالية منقطعة النظير، لكن بصمت، ومن دون الإفصاح عن أنفسهم تجنباً لردود فعل الدول والمنظمات الدولية التي تؤيد الإنتفاضة السورية، وكذلك تنشط بعض المنظمات اليسارية المتطرفة التي عانت من الممارسات القمعية لنظام البعث السوري لكنها منظمات صغيرة ومن الممكن إبتلاعها من قبل الأخوان المسلمين المدعومين بقوة من تركيا، يضاف لهم المنظمات الإسلامية السلفية، كذلك البعثيون المنشقون عن النظام، وبعض الأحزاب الكوردية (ليس الكل)و من المعروف أن الشعب الكوردي الذي يشكل القومية الثانية في النسيج الإجتماعي السوري( ثلاثة ملايين نسمة) يعاني منذ عام 1961 من أبشع تمييز عرقي، حيث إنتزعت منهم جنسيتهم السورية ويعاملون كأجانب، وهم منسيون في القاموس الإجتماعي والإقتصادي للنظام، إلى جانب هؤلاء هناك منظمات وشخصيات ديمقراطية يأست من النظام الجمهوري الوراثي الذي يتربع على قمته حزب واحد احد منذ خمسة عقود لم يجر أية إصلاحات في البلاد لا إقتصادية ولا سياسية ولا إجتماعية ينخر الفساد والفقر وتدني المستوى المعاشي جميع مفاصلها، عموماً يمكن القول إن البديل هو خليط غير متجانس، والقوة القوية والضاربة فيه، هم الأخوان المسلمين الذين يريدون جني ثمار الإنتفاضة وهم المدعومون من تركيا والسعودية ولكلا الدولتين حساباتها الآنية والمستقبلية في المنطقة، أيمكن أن يكون هذا البديل أفضل من النظام الحالي بكل مساؤي النظام؟ لا أعتقد ذلك .
من البديهي هنا أن على التقدميين و الديمقراطيين والمتتبعين لمسيرة لأنتفاضة الشعب السوري، مساندة التيار الذي يطالب في الإنتفاضة بالإصلاحات وليس بالإسقاط، ويمكن أن تطال الإصلاحات حتى قمة النظام وأجزاء كبيرة من طاقمه، وفك ارتباطه مع المحور الإيراني، لكن ليس الإسقاط بمفهوم إقامة بديل مدعوم من تركيا والسعودية، وإدخال سورية في محور طائفي آخر ، والذي سيجلب الكوارث لهذا الشعب المسالم .
الحوار المتمدن