سورية… الانتظار شقاء الروح/ محمود الوهب
مرت أربع سنوات على حادثة أطفال درعا شديدة الفظاعة في سورية، والتي كانت بمثابة “الشعرة التي قصمت ظهر البعير” بالنسبة إلى الشعب، فزادت في الهوة عمقاً واتساعاً، بينه وبين جلاده (حاكمه)، واستتبعت ما استتبعته من قتل وتخريب وفجور كان مخبأ، على الرغم من كل عوامله ومسبباته، خلف سطوة الأجهزة الأمنية، وربما خلف بعض العادات والأعراف الاجتماعية التي لا تسمح لممارسة مثل ما ارتكب من فظائع في وضح النهار. إنها الشعرة نفسها التي أشعلت النار في جسد البوعزيزي، ثم ما لبثت أن طيَّرت زين العابدين من تونس كلها، نعم هي نفسها التي أتت بعد ذلك على حاكم مصر فجعلته يذهب وأحلامه في التوريث هباء. وهي التي أودت بمعمر القذافي، فجعلته يطلب الرحمة والعطف من أحد الثوار “الجرذان”، بحسب توصيفه: “لا تقتلني يا ولدي!”. وهي نفسها التي جعلت ثعلب المفاوز والجبال، علي عبد الله صالح، يناور ويراوغ ويحالف خصومه التاريخيين ضد شعبه، إلى أن ضاقت عليه معارج اليمن، ومغاور جبالها.
وإذا كان الأولان قد تصرفا بحكمة وجنّبا شعبيهما، وإن بنسب مختلفة، القتل والدمار. فقد أوقع التاليان شعبيهما في المحنة، وما اتعظا، إذ قضى الأول على نحو مؤذ للعين والنفس معاً، ومما لا يليق بملك ملوك أفريقيا. أما الثاني فأبى واستكبر وأدار ظهره للنصيحة المشفوعة بالخلاص الآمن المشرِّف، وذهب يتحالف مع الشيطان ضد قومه، متناسياً من أكرمه وداوى جروحه، لكنه الآن يَذِلُّ ويتصاغر، وروحه الثعلبية معفرة بالمهانة، إذ هو يطلب من أهل النصيحة أنفسهم الخروج الآمن من مغارة تكاد تخنقه.
حدث ذلك كله أمام عيني رأس النظام السوري وأقطابه، وكان الأجدر بهؤلاء أن يتعظوا، وأن يتخذوا من تجربة الأول كوة ضوء لدربهم المعتم! لكنَّ المصابين، فيما يبدو، بجنون العظمة، وفرط الوطنية، وادعائها الكاذب، يجهلون أنَّ أساس الوطنية الحقة، وجوهرها المشع، يكمنان في إحساس الشعب العفوي، وكان عليهم أن يستجيبوا للشعب الذي يترجم حسه في الشارع السوري من أقاصي الجزيرة إلى غوطة دمشق، رمز العنفوان الوطني، ومن درعا إلى الشمال الأقصى، حيث أمجاد إبراهيم هنانو لا تزال تسري في الدماء حرة، ترفض الظلم والظالمين، وكان عليهم أن يعتدّوا، بقوة الشعب وإرادته، ويأخذوا برأيه ومشورته، لكنهم انسجموا مع أنفسهم، واختاروا الاستعلاء عليه، والاستناد إلى صبية الأجهزة الأمنية، الذين لم يعرفوا من حياتهم غير الطيش والفساد، والسوط الذي يلازمهما. وجاء شعارهم: “ليذهب الشعب ويبقَ الحاكم”. ألم يتحدث أحد أقطاب الجبهة التقدمية يوماً عن “رجل في أمة وأمة في رجل”، إذاً فلتذهب الأمة، وبإمكان الرجل استيلادها من جديد، وهكذا كان، إذ بقي الحاكم، وقضى الشعب بين قتيل ومعتقل ومشوَّه ومهجَّر. أمَّا الخراب فحدِّث، وزد بما شاء لك الخيال، فصور الواقع أكثر قوة وتأثيراً وإيضاحاً.
“إيران كانت على نحو أو آخر خلف تلك الأجهزة التي وضعت الحاكم، وفق مصالحها طبعاً، في كفة والشعب ووطنه في الكفة الثانية”
نعم ذلك ما حصل على الأرض حتى اللحظة. لكن السؤال هو: ما الذي تخبئه الأيام المقبلة؟ وهل تقبل الحياة أن تبدل من سننها، تلبية لرغبة هذا الحاكم الفرد أو ذاك، حتى وإن استعان بعتاة الأرض كلهم؟ لا، لا يبدو الأمر كذلك أبداً، إذ لا يمكن للحياة أن تقبل باستبدال قوانينها، التي أوكلتها إلى الشعوب من صناعها ومحققي إرادتها. ولمن لا يبصر جيداً، ويجادل في الأوهام، لا في الوقائع والحقائق، فهذا هو التاريخ ليقرأه بإمعان، ولا بأس من أن يعود إلى واقعنا اليوم، وليقرأ ما نحن فيه الآن، فهذه إيران التي كانت على نحو أو آخر خلف تلك الأجهزة التي وضعت الحاكم، وفق مصالحها طبعاً، في كفة والشعب ووطنه في الكفة الثانية. إيران اليوم لم تحرِّك ساكناً جراء ما حدث لأنصارها في اليمن، إذ تركتهم نهباً للموت والتشتت، وها هي ذي روسيا أيضاً تحشرها أفعالها في زاوية ضيقة، وها هو ذا ممثلها في الأمم المتحدة “كالبعير المعبد”، منكفئاً على ذاته، ممتنعاً عن التصويت في مجلس الأمن، واحداً إلى أربعة عشر، إنها الحياة تقتص من فعل الظالمين: “وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”.
ما يؤكد ما نذهب إليه هو العود إلى البدايات، ومعاودة قراءة صفحات ذلك الزمن الجميل المشحون بنبض الشعب السوري وروحه، التي راحت تملأ الشوارع شباباً وبنات، تراهم يخرجون من أمام المساجد، مسلمين ومسيحيين، طوائف وأقواماً وتيارات تأبى إلا أن تمثل اللوحة السورية كاملة.
اليوم، لا بد من أن نستذكر تلك الأحداث، وما استتبعته من نهوض شعبي على مدى مساحة الوطن، نهوض احتجاجي لم يكشف عن نواقص وسلبيات كثيرة تطول السياسة والمجتمع، وما يتبعهما في عمل المؤسسة الحاكمة، إن جاز لنا أن نسميها مؤسسة، بل كشف عن ذلك الانفجار الشعبي الغاضب عن حاجة عميقة إلى الخلاص والبناء، ولا خلاص من غير الحرية التي سالت حروفها على ألسنة الجميع أضواء فرح، وتباشير أمل. فالحرية وحدها ألف باء كل عمل إصلاحي لما تهرَّأَ وتآكل، وهي المفتاح السليم لكل بناء يراد منه التنمية والنهوض بالوطن إلى حالات أرقى فأرقى. ومن يفكر في غير ذلك، ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، قرن “فيسبوك” و”يوتيوب”، “فايبر” و”واتس أب”، فلينتظر مصير من سبقه، وما الانتظار إلا نوع من شقاء الروح.
العربي الجديد