سورية.. خلسة وعلانية!
صبحي حديدي
تزايدت، خلال الأسابيع الأخيرة بصفة خاصة، محاولات وسائل الإعلام الأجنبية لتغطية الانتفاضة السورية من الداخل؛ وتعددت، بالنظر إلى الحصار الخانق الذي يفرضه النظام على دخول الصحافة المستقلة، أشكال التحايل على الأجهزة الأمنية، وابتداع طرائق ذكية لمخادعة الرقابة اللصيقة، وتهريب المادّة المصوّرة خارج الحدود. تكللت بعض المحاولات بالنجاح (كما في شريط ‘داخل جحيم القمع’ للفرنسية صوفي عمارة)، وتعثّر بعضها وكاد أن يعرّض حياة صانعيها إلى أخطار جسيمة (كما في محاولة البريطاني شون ماكالستر، الذي اعتُقل من أحد مقاهي دمشق، فصار شاهد عيان على ما يتعرّض له نشطاء الانتفاضة من تعذيب وحشي).
لكنني أكتب اليوم في إطراء شريط تسجيلي جديد، أرى أنه ـ ضمن ما شاهدت من أشرطة مماثلة، وكثيرة ـ ليس الأشدّ جسارة على صعيد المجازفة المهنية فحسب؛ بل لعلّه بين الأعلى مخاطرة بالسلامة الشخصية، بهدف بلوغ الصدقية القصوى في التسجيل والتوثيق. الشريط عنوانهUndercover Syria ، قامت بتنفيذه الصحافية البريطانية ـ الإيرانية الأصل راميتا نافائي، وصوّره وأخرجه وائل دبوس، ويقع في 23 دقيقة تتوغل في مشهد سورية الانتفاضة، خلسة كما يشير العنوان، وعبر تفاصيل ترسم مشهد الصراع بين سلطة غاشمة لا تنظر إلا إلى الوراء، وحراك شعبي لم يعد ينظر إلا إلى الأمام؛ بين حدَّيْ القتل الوحشي بكلّ سلاح متاح، والمقاومة العنيدة بالصدور العارية؛ وبين يأس النظام وتخبّط خياراته. وقد عُرض الشريط على القناة الرابعة البريطانية، ضمن برنامجها الشهير Unreported World، الذي يُعدّ بالفعل اسماً على مسمّى لأنه يتناول عوالم خافية أو مهمشة لا تغطيها التقارير عادة، إمّا لأنّ تغطيتها ممتنعة أمنياً، أو لأنّ أخبارها لا تتمتع بجاذبية استهلاكية تبرّر تقديمها.
نافائي دخلت إلى سورية بصفة سائحة (ومن حسن الحظّ أنّ جهاز أمن سفارة النظام في لندن لم يتنبه إلى مهنتها، رغم أنها صحافية معروفة وسبق لها أن أنجزت سلسلة أفلام وثائقية متميزة في السودان وأفغانستان ومصر ونيجيريا والسلفادور وزيمبابوي، وعملت مراسلة في إيران والباكستان والعراق…)؛ ومن جانبه، لم يحمل دبوس سوى آلة تصوير فيديو صغيرة، من النوع الذي يصطحبه السياح عادة، ولا يثير الريبة. وهذا الفريق الصغير استعدّ جيداً، من الوجهة الأمنية تحديداً، وأجرى سلسلة ترتيبات مع تنسيقيات الداخل، الأمر الذي أتاح له إمكانية البقاء قرابة أسبوعين، تضمنت التجوال في دمشق العاصمة، وبلدات حرستا ودوما ومضايا، والمغادرة بعدئذ بحصيلة مصوّرة جيدة، بعضها ممتاز ونادر التحقيق في شروط التقييد الصارمة المفروضة اليوم على الأجانب عموماً.
وبين مشاهد الشريط الجبارة، ويحدث أيضاً أنه بين أكثرها عفوية وصدقاً (إذْ تمّ دون أي تخطيط مسبق، وقادت إليه الصدفة، أو بالأحرى تصاريف أجهزة النظام في مسعى قهر الانتفاضة)، ذلك الذي شهده أحد بيوت الانتفاضة السرّية في بلدة مضايا، منطقة الزبداني، شمال غرب دمشق. كان فريق الفيلم قد قصد البلدة للقاء بعض النشطاء، عندما فُرض حصار عسكري مفاجىء هناك، ونفّذت أجهزة الأمن وقطعان الشبيحة مداهمات للبيوت بحثاً عن أسماء محددة، بينها بعض الذين كانوا في البيت السرّي.
والمشهد يبلغ ذروة درامية خاصة حينما يضطّر النشطاء إلى التخفي، عبر سقيفة البيت، وتوصية نافائي ودبوس بالبقاء في الدار، لأنّ مواجهة الأمن بجواز سفر بريطاني أخفّ عاقبة من المجازفة بالخروج. تُطفأ الأضواء، ويُوضع المفتاح في قفل الباب من الداخل، ويغلق المصــــوّر جهاز التصوير، ويستخدم هاتفه الجوّال لاقتناص بضع لقطــــات لاهثة؛ كما يفلح في تسجيل صوت أمّ، من البيت المجاور، تبــــكي وتتوسل إلى عناصر الأمن لكي لا يعتقلوا ابنها. كذلك لا يتردد دبوس في تثبيت علائم الرعب على وجه زميلته، حين كان الموقف معلّقاً عند احتمالات الخطر كافة!
وفي مشهد أخر بالغ التأثير، يقود النشطاء فريق الفيلم إلى بقعة سقط فيها، قبل يوم واحد، فتى في الرابعة عشرة من عمره، برصاص قناص. خيط الدماء ما يزال مرسوماً على قارعة الرصيف، والرصاصات الفارغة على الأرض، وآثار الرصاصات الأخرى حُفرت في الجدار القريب. تتحدّث نافائي مع والد الفتى الشهيد، فيقول لها ـ بنبرة ثقة مذهلة، ويقين لا يخالجه ارتياب ـ إنّ الثورة قائمة، وهكذا ستبقى حتى يسقط النظام، طال الزمان أم قصر. مشهد ثالث يزور أحد المشافي السرّية، أي تلك التي تُقام في بيوت سرّية لمعالجة الجرحى، بعد أن صار رجال الأمن والشبيحة يخطفونهم من المشافي العلنية، الحكومية أو الخاصة، ويقتادونهم إلى أقبية الأجهزة، أو يبادرون إلى تصفية بعضهم وهم على أسرّة العلاج. أمّا مشهد الفيلم الأخير فيعود بنا إلى مضايا، ولكن ليس إلى البيت السرّي الذي حُبس فيه الفريق 72 ساعة، بل إلى تظاهرة حاشدة في رابعة النهار، تتعالى من صفوفها هتافات المطالبة بإسقاط النظام.
سورية المنتفضة علانية إذاً، وليــــس خلسة فقط! وشريط نافائي ودبوس شهادة جديدة تفسّر هذه المعادلة العبقرية التي تترسخ كلّ يوم، كما تؤكد ما قاله شون ماكالستر: شجاعة الشعب السوري ليس لها مثيل معاصر، ولن يقوى أي استبداد على كسرها