سورية.. كمن ينفذ حلماً
غسان زقطان
كمن ينفذ حلماً، هكذا يبدو السوريون منذ أكثر من مائة يوم، يُعيدون تذكّر الصور القديمة على جدران بيوتهم ويمسحون الغبار الذي تراكم على أحزمة الرصاص التي تزنّر أولادهم القدامى، ويعيدون علينا رواية تاريخ سورية وجغرافيتها، الأسماء والوقائع التي مر وقت طويل على تذكّرها للمرة الأخيرة، البلدات والقرى والقصبات البعيدة جداً التي بقيت في أماكنها بعد جراحة الاستعمار الفرنسي والاقتطاع التركي والاحتلال الإسرائيلي وسيادة الحزب الواحد وحكم العائلة وملكية الفرد وعبادته!.
هكذا يهبط فجأةً من الإطارات القديمة صالح العلي بكل نبله وزهده وترفعه عن السلطة، سيداً نبيلاً قاد ثورةً حقيقيةً ورفض ملكاً طائفياً على حساب وحدة وطنه، وعندما تأكد من جلاء الاستعمار الفرنسي عاد إلى منزله ليعتني بأشجاره، لا أظن أن هناك نموذجاً ورمزاً أقدر من هذا الأمير السوري على تغذية ثورة شعبه بالصلابة والنبل والشجاعة، هكذا يهبط سلطان باشا الأطرش ليقود ثورة جبل العرب وليبايعه السوريون من كافة مواقعهم وعقائدهم على قيادة ثورة بلادهم… هكذا تتذكّر سورية وتذكّرنا بـ يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وآخرين كثر، هم في النهاية روح ما يحدث الآن في سورية، سورية التي لم تكن في يوم طائفيةً وكانت أم الشام الكبير الممتد من لبنان إلى فلسطين والأردن المطلة على بغداد. هكذا وصل الشيخ القسام من جبلة إلى فلسطين ليؤسس لثورتها ويبايعه الفلسطينيون على امتداد أجيالهم قائداً لثورتهم في الـ36 وملهماً لثورتهم المعاصرة، وعبر هذا الدرب عبر سليمان الحلبي ليخلص الشرق ومصر من “كليبر” وعلى الدرب نفسها عبر فيما بعد جول جمال… .
القنيطرة المهجورة بوابة الصاعد إلى الجولان كانت دائماً ممر الثوار السوريين إلى فلسطين عبر الشمال، قبل تقطيع الأرض وتفكيك الحكاية واختزال التاريخ، كانوا يعبرون من هناك فرادى وجماعات ببنادق قديمة معتنى بها وبذكريات زوجاتهم في أحواش دمشق وقرى الكرد وجبال العلويين ومدائن الساحل، مندفعين بحمولاتهم نحو البحيرة.
درس طويل في الجغرافية الأولى للشام الكبير، درس غير مقصود ولكنه ضروري لنهوض ثورة حقيقية في سورية، هكذا يبدو سهل حوران بيتاً كبيراً للأردنيين والسوريين ونتذكر أسماء إخوة لنا في الشمال والشرق، أسماء أليفة وبيوت كدنا ننسى أصوات أهلها وغناءهم…هذا هو الفرق الكبير بين انقلاب بضعة ضباط وبين ثورة شعبية، الثورة تذكّر بالبيت والأخت والأغنية ورائحة الطعام المنزلي، الثورة تذكّر باللغة ودلالة الأسماء والأشقاء الغائبين، تذكّر بالطرق والعتبات والشبابيك المنخفضة على الدروب، الثورة هي ذكريات عميقة تتفتح في الشوارع مثل ينابيع صافية طال انحباسها، هي أيضاً أمانات الغائب والراحل والمفقود وحنينهم وهي أحلامهم التي راكموها وواصلوا ذلك عبر عقود قاسية وطويلة.
كمن ينفذ حلماً، هذا هو ما يبدو أن السوريين يفعلونه منذ أكثر مائة يوم.
http://www.al-ayyam.ps/article.aspx?did=169150&date