صفحات المستقبل

سورية… نحو عقد اجتماعي جديد/ إبراهيم العلبي

 

 

-1-

لم يعد سراً يذاع أن معاناة السوريين وبؤسهم خلال العقود القليلة الماضية وبصورة خاصة خلال أعوام الثورة تنبع من الاستبداد المتوحش الجاثم فوق صدورهم منذ عام 1970، كما لا يتمارى اثنان على خصوصية هذا النظام وتفوقه الاستثنائي على معظم نظرائه من الأنظمة الديكتاتورية التي يحكمها فرد مطلق السلطات.

وكذا لا يشك سوريان منعتقان من عبودية الأسد في أن جميع السوريين بمختلف طوائفهم وقومياتهم ضحايا لطغيان نظام الأسد، تارة عبر اضطهادهم والتمييز ضدهم على أسس طائفية، وتارة عبر استخدامهم وتجنيدهم في معركة بقائه هو من خلال ربط مصيرهم بمصيره.

ورغم ذلك يجادل بعضهم في بواعث الثورة السورية المجيدة، ويغرق آخرون في نزع أي صفة طائفية عن نظام الأسد، في سلوك مثالي يسعى على ما يبدو إلى تبرئة الطائفة العلوية (النصيرية) من جرائم النظام، وبالتالي الحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي، لكن هذا المسلك العاطفي والسطحية في النظرة إلى الأمور لا تغني عن ضرورة تحليل الواقع وتحديد أبعاد الأزمة وتفكيك عناصر الاستبداد والإجرام، بل لا ينبغي لمن يحرص على السلم الأهلي والوحدة الوطنية بين السوريين أن يحجب شيئاً من الواقع تحت أي ذريعة كانت.

إن علاج أي مرض لا يبدأ إلا من معرفته وتشخيصه بدقة والإقرار بوجوده ليتمكن الجميع من تلقي العلاج المناسب بجدية تعكس الإدراك الكامل لأهمية العلاج، ومن ثم لن يتمكن السوريون من تأسيس عقدهم الاجتماعي الجديد الذي يصلح من حالهم ما أفسدته عقود الفساد والقمع والجريمة المنظمة إلا عندما يقرون بداء الطائفية الذي يستبد بجسدهم الوطني، والذي لم تخلقه الثورة، بل لم تزد على أن فضحته وأبانت أعراضه وكشفت جرثومة الاستبداد التي تسببت به.

لم تنشأ سلطة قمعية في التاريخ إلا وقدمت نفسها كحل لمشكلة عامة، واستمدت ديمومتها وشرعيتها من التلاعب بعواطف الجماهير واللعب على تناقض مكوناتهم، سواء كانت طبقية أو طائفية أو عرقية أو مناطقية، وبهذا المعنى لم تكن سلطوية آل الأسد استثناء، ورغم أن العادة في هذه الأحوال جرت على أن تكون دائرة الحكم والنفوذ موزعة على شخصيات تتلاقى مصالحهم الشخصية والفئوية عند شخص المستبد، الذي يحظى بحصة الأسد لكنه لا يتجرأ على تجاوز معادلة النفوذ القائمة، فإن حافظ الأسد مؤسس النظام السوري الحالي تمكن من تجاوز كل المعادلات المحلية، واستأثر لنفسه بكل النفوذ، وترك الفتات، خاصة في المستوى المادي، لحلقة ضيقة حوله لضرورة تسيير أمور النظام، وحكم الجميع بشبح الأمن، وهو ما لا يمكن أن يفسر عادة بدهاء رجل السلطة الطامح فحسب، بل لا بد له من أن يحظى ببيئة اجتماعية فئوية كاملة الولاء لشخصه، تمكنه من انتقاء رجاله من عمقها، بحيث يمرون في فلاتر سلوكية عديدة يضمن من خلالها أن يحاط بعديمي الضمير عبيد المال والشهوات، فيحركهم المستبد كدمى كيفما شاء.

على هذا النحو أسس الأسد الأب أحد أكثر الأنظمة وحشية وقمعاً في العالم، حتى بات الأخ يخشى من أن يشي به أخوه من أمه وأبيه وهما في بيت واحد.

منذ البداية قدم الأسد الأب نفسه للطائفة العلوية في سورية باعتباره القائد المخلص لها من الفقر والتهميش، ورغم أنها خرّجت عشرات بل مئات المثقفين المعارضين للنظام بشراسة، ظلت الطائفة بصفة غالبة، وفية لمن اعتبرته ولي نعمتها، لا تغير في ولائها ولا تبدل، بل مارس متنفذوهم أسوأ تمييز عرفه المجتمع السوري على الإطلاق، وأفرغت في المجتمع عقد التهميش والفقر والخوف التي كانوا يعيشونها، لدرجة أن الشعب السوري الذي كان على مدى عقود يئن تحت وطأة القمع السياسي ونهب المال العام وانتشار الفساد، لم تحركه هذه المعضلات، إلا أن الطائفية الفجة التي مارسها النظام من أعلى الهرم حتى أدناه، والتمييز ضد الأغلبية العربية السنية بوجه خاص، وبقية الطوائف والأقليات بوجه عام، فجرت ثورته بوصفها أبرز بواعثها الرئيسية.

ولوحظ ذلك في تقييم حالة المدن والقرى والأحياء التي انطلقت منها الثورة في عموم المحافظات السورية، بعد اشتعال الفتيل في درعا، فالأحياء الحمصية واللاذقانية والدمشقية التي كان لها احتكاك وجوار مع تجمعات سكنية من العلويين، كانت أول من استجاب لنداء مظاهرات الأموي ودرعا، ورغم هذا الشعور البارز بالاضطهاد الطائفي طغت على المظاهرات التي خرجت في هذه الأحياء ولا سيما في الشهور الأولى شعارات السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، ونادت جميع تلك المظاهرات منذ الأسبوع الأول “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”.

عندما خرجت من سجون الأسد في 4 يونيو/حزيران 2011، وكان قد مضى على اندلاع الثورة شهران ونصف الشهر تقريباً، راجعت فرع فلسطين الذي كان قد أحالني إلى محكمة أمن الدولة وظل الفرع المسؤول عني، بقصد استخراج إذن سفر، واستغرقت المراجعة ساعات طويلة، عرضت خلالها على المحقق “هواري” الذي كان قد تولى قضيتي عندما حطت بي رحال السجن في هذا المكان المقتطع من جهنم، فطالعني بابتسامة الممتعض، وصارحني بأنه لو كان مكان رئيسه بشار الأسد لما أطلق سراحي ولا سراح أحد من الذين شملهم العفو آنذاك، وتابع بالقول: “أنا لست علوياً ولا طائفياً، ولكنني عاشرت العلويين وهم ليسوا كما يشاع عنهم، وفي المقابل ها هم السنة قد جُنوا وخرجوا إلى الشوارع يريدون هدم الدولة وتخريب مؤسساتها، ولا أحد يعرف ماذا يريدون”!

هي قصة واقعية تشير برمزية شديدة إلى عمق المأزق وحجم المتاهة التي جر حكم آل الأسد بلادنا إليها.

-2-

هل فعلًا كانت مظاهرات عام 2011 في عموم سورية، ذات الطابع السلمي والمطالب العادلة، “جنونًا سنيًا”، كما صوّره المحقّق في فرع فلسطين هواري، وكما هو الانطباع السائد في صفوف العلويين وشرائح عديدة من الأقليات في البلد؟

في الحقيقة لا يمكن فهم هذا التفسير “الضحل والاستعلائي” لتفجر المظاهرات السلمية التي واجهت الرصاص والاعتقال والتعذيب بصمود أسطوري، سوى أنه دليل على أن الأغلبية العلوية باتت، ولأسباب عديدة، تنظر إلى واقع سورية باعتباره هبة القدر لهم التي لا ينبغي لأي قوّة في العالم أن تسلبها منهم أو تنازعهم عليها، علمًا بأن المتظاهرين، والناشطين الإعلاميين منهم على وجه التحديد، لم يتركوا وسيلة لإقناع العلويين بأنهم ليسوا مضطرين لربط مصيرهم بمصير الأسد، وأن سورية العدالة لا سورية الأسد هي من تضمن مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، لكنهم باؤوا بالفشل، نتيجة التشوّه الذي لحق بتصورات العلويين حول الوطن وما يتعلق به.

فمن يريد تغيير حكم آل الأسد، بغض النظر عن البديل، إنما يريد الانتقام من حكم العلويين، وفقًا لهذه التصوّرات، ومن يريد إصلاحًا حقيقيًا في بنية النظام إنما يريد التآمر على مكتسباتهم في ظل هذا النظام.

هذا التخريب في الحس الوطني، الذي تسبّب به حكم آل الأسد، لم يقتصر على العلويين أو بعض الأقليّات، بل طاول الجميع بمن فيهم الغالبية السنية، بل طاول جميع فئات وشرائح الشعب على تنوّعها، فلا ثقة لأحد بأحد، وكل شريحة تشعر أنها مستهدفة والبقية يريدون العبور فوقها نحو مصالحهم.

من الشائع جدًا أن تجد السوري السني أو حتى في بعض الحالات، المنتمي إلى أقليات غير الأقلية العلوية، يتحدّث بلغة طائفية، ولا يرى سببًا لخراب سورية سوى حكم الطائفة العلوية، وأن جميع القادة والمسؤولين والضبّاط السنة أو غير السنة في نظام الأسد ليسوا سوى ديكور لا قيمة له في الواقع.

يستوي في هذه النظرة الإسلامي والعلماني، وإن كان البعض من الفئتين يفضّل حبس هذه اللغة في المجالس الخاصّة، وعدم التورّط في المنابر العامة بخطاب من هذا النوع، حرصًا على ترك الباب مفتوحًا أمام جميع المكونات الاجتماعية السورية لتفك ارتباطها بالنظام سواءً فرديًا أو جماعيًا، وعدم السماح بتعميم الجريمة على جميع أبناء الطائفة العلوية، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، بيد أن الفكرة السائدة على نحو واسع بين السنة، وحتى بين أفراد من بعض الأقليات، هي أن العلوي مجرم بطبعه، وهي فكرة لا يصعب دحضها واستحضار الأمثلة على تهافتها، لكن كيف لك أن تقنع ملايين المكلومين والمتضرّرين من وحشية النظام التي تفوح منها رائحة طائفية كريهة لا يمكن إخفاؤها؟

حدثني أحد قادة حزب العمل الشيوعي، وهو علوي من قرية دير ماما التابعة لمدينة مصياف بريف حماة، أنه قاد بصحبة أصدقاء له من الوجهاء من العلويين والسنة في محافظة حماة، بدءًا من عام 2005 جهودًا مكثفة لبث روح التآخي والتفاهم الوطني بين الطائفتين، وفي واحدة من المحاضرات التي كان يتحدّث فيها أبو حسين بحماسة ويقدّم مقاربة مقنعة لكيفية التخفيف من الأثر السلبي التخريبي لحكم الاستبداد على الروابط الوطنية والاجتماعية بين مكونات الشعب السوري، إذ به يلاحظ أحد الحاضرين المستمعين وهو يومئ برأسه مبتسمًا، وعندما فرغ صاحبنا من حديثه اتجه نحوه وبادله التحيّة والحديث ليكتشف أنه طبيب من مدينة حماة.

قاد الطبيب الحموي أبو حسين إلى منزل والدته حيث عرفه عليها ووجد أنها قد علقت صور أبنائها الأربعة الذين قتلهم نظام الأسد عام 1982 في مجزرة حماة الشهيرة، وقد بكت لذكراهم، وهنا التفت الطبيب إلى صاحبنا وقال له: “أنا اقتنعت تمامًا بما تنادي به من التآخي والتعايش.. لكن من يملك القدرة والمنطق الكافي لإقناع هذه المسكينة ومثلها الآلاف من النساء والرجال بهذا الذي تدعو إليه؟

كان ذلك حوالى عام 2005، أما إذا ضممنا مأساة سورية المعاصرة، التي نستطيع القول إن العلويين بعض ضحاياها ووقودها، إلى مأساة الثمانينيات، التي لا تبلغ معشارها، كيف عسانا ننعش في عقول السوريين وقلوبهم فكرة سورية الموحدة؟

في الواقع، لقد أبلى نظام آل الأسد بلاء حسنًا في هدم ما أمكن له أن يهدمه من الروابط الطبيعية، التي يمكن أن ينطلق منها عقد اجتماعي جديد يقرّه السوريون، بعد أن يمزّقوا عقد الإذعان والاستعباد، على النحو الذي بشرت به ثورة عام 2011، ليبقي الحل الوحيد هو استمرار نظام الاستبداد والفساد وحكم العائلة المتلوّن بألوان طائفية واجتماعية متعددة، كي تبقى سورية موحدة ولو على حطام المنازل المدمّرة، والدماء البريئة المسفوحة لمئات الآلاف، والقرى والبلدان والمدن المهجورة والمهجرة.

-3-

ما سبق بيانه في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة ركّز على مشكلة الطائفية والطائفية المضادة في سورية، وهي مشكلة سماها المفكر السوري اليساري الراحل صادق جلال العظم بـ”العلوية السياسية”؛ على غرار المارونية السياسية في لبنان، حيث تتسلح النخب الطائفية بأفكار عن المظلومية التاريخية، وتنال على ضوء ذلك حقوقاً تميّزها عن غيرها، بذريعة حقوق الأقليات، ما يمكنها من حكم الجميع وتهميش الأغلبية.

لتنتقل بها الحال إلى نشوء حكم الفرد المطلق، بوصفه المخلص للطائفة، وفارسها المقدام، وهكذا يصنع نظام استبداد قمعي سلطوي يضطهد الآخرين ويستعمل أبناءه المخلصين له ليس لمصلحته فحسب، بل لمصلحة المستبد الشخصية.

هذه المشكلة الخطيرة رغم أهميتها القصوى ليست الوحيدة التي تهدد السلم الاجتماعي وتمنع نشوء عقد اجتماعي حقيقي قائم على العدل والاختيار لا القهر والاضطرار، بل ثمة مشكلات أخرى عديدة، لا تقل عن تلك المشكلة أهمية، وتتداخل معها ويغذي بعضها بعضاً.

فالمناطقية في بعدها السياسي تملك نفس القدرة على التدمير، وتحمل بذوراً للصراع الأهلي، وتظهر خطورة هذه المشكلة عندما يعرّف السوري نفسه بانتمائه المناطقي (الإقليمي) قبل أي شيء آخر، كأن يرى نفسه دمشقياً أو حلبياً أو حمصياً أو ديرياً قبل أن يكون سورياً، وفي هذه الحال لا تكمن المشكلة في ضيق الفضاء الإقليمي الذي يريد أي إنسان مختاراً الانتماء إليه غير عابئ بما بعده، بل بكونه رغم هذا الاختيار لا يسعى للانفصال والاستقلال عن البلاد ولا يخطر ذلك في باله أصلاً، فهو يريد أن يكون مناطقياً في قضايا محددة، وسورياً في قضايا أخرى، وذلك كله وفقاً للمصلحة.

وللمناطقية وجه آخر أكثر قبحاً، حيث التفريق بين الريف والمدينة، والتفريق العنصري هاهنا هو تفريق استعلائي أخلاقي بين خير مطلق وشر مطلق، وليس بين خير وشر من وجوه متفاوتة، وهنا يكمن الخطر.

في السنوات القليلة الماضية راجت على ألسنة وأقلام باحثين ومفكرين أفكار وتصنيفات بعضها ينمط النظرة إلى المدينة باعتبارها مهد الثورة السلمية، والريف باعتباره بؤرة العمل المسلح العنيف، وبعض آخر يجعل من المدن الكبرى حاضنة النظام الحقيقية، فيما يمثل الريف ضمير الثورة الحقيقي على النظام، إلى آخر ذلك من التصنيفات المتحمسة التي تستند إلى دراسات سطحية لظاهرة الثورة السورية وديناميكياتها وتقع في فخ الثنائيات، فيما تفتقر إلى التحليل العميق للتأثير النسبي والمتفاوت لكل عامل من العوامل المُشكّلة لظاهرة الثورة خاصة وجميع الظواهر الاجتماعية بوجه عام.

هذه التحليلات رغم مظهرها الأنيق وقالبها البحثي ليست سوى دليل ساطع على حجم الهوة التي سقط فيها المجتمع السوري إلى درجة جعلت بعض أعتى مثقفيه وأدنى سفهائه سيان، كما أنها تكشف حقيقة تهمنا كثيراً في هذا السياق، وهي أن التمايز الاجتماعي بجميع مستوياته لا يمكن لأي ثورة أو نظام أو تطور تاريخي أن يقضي عليه، فهو مشكلة تتكيف مع جميع الظروف، وتملك من السيولة ما يمكنها من التشكل على هيئة جميع القوالب المختلفة.

هذه التمايزات لم يتمكن أحد من القضاء عليها تاريخياً، لكن استطاع العديد من القادة الأفذاذ الحد من أثرها السلبي في وحدة المجتمع، وتمكنوا من تحويل خطرها إلى طاقة إيجابية انصبت على البناء بدلاً من الهدم، وليس ثمة مثال أوضح في هذا الصدد من المجتمع الذي أرسى رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام دعائمه في المدينة المنورة، حيث تحولت الصراعات البينية إلى تنافس على الحق والخير والمصلحة العامة، وإن كان هذا المجتمع قد انهار أو تبدلت معالمه بعد جيلين أو ثلاثة فذلك لأن أي عقد اجتماعي مهما بلغ به العدل بين أطرافه لا يمكن أن يجرى توارثه عبر الأجيال، إذ لا مناص من أن يعي كل جيل بنفسه أهمية ذلك العقد وضرورته ومفاسد الانحياز عنه.

من البديهيات أن الوحدة قوة والتفرق ضعف، وليس أصدق في هذا المقام من المثل القائل “فرق تسد” رغم انحرافه الأخلاقي، وإذا كان توحد أي جماعة بشرية يعد مصدر قوة كبيراً لها ولأفرادها على حد سواء، وخاصة لمن يقودونها، فإن طغيان القادة الأقوياء كفيل بهدم أي عقد اجتماعي قائم، ما يجعلنا أمام حلقة مفرغة، لا مخرج منها إلا بالتسليم لضرورة إقرار مجموعة من الأدوات والوسائل التي تصون المجتمع من جور بعض أفراده مهما بلغت قوتهم وطغيانهم، وترسخ ذهنية التعاقد العام بين الجميع، وعدم اقتصار مظاهر هذا التعاقد على مؤسسات الدولة بل امتداده إلى كافة مناحي الحياة العامة.

-4-

إذا كانت الطائفية والمناطقية أعقد مشكلتين تواجهان المجتمع السوري ومستقبله السياسي، فإن مشكلة الفردية وعدم القدرة على العمل ضمن فريق لا تقل، في رأيي، خطراً أو تعقيداً عن هاتين المشكلتين، وتملك تأثيراً تخريبياً واسع النطاق قادراً على الإضرار بأي صيغة لعقد اجتماعي يحظى بقبول السوريين.

لقد دعا جان جاك روسو قبل نحو قرنين من الزمن إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس سليمة، تعود فيه السلطة إلى الشعب حقاً لا شكلاً، وناقش الموضوع من زاوية عدم شرعية وضع أي حاكم اعتلى سدة الحكم بعيداً عن إرادة الشعب بدعوى حق خاص أياً كان جوهره، معتبراً أن شرعية الحكم لا تستمد إلا من حرية الشعب باختيار حكامه على أساس عقد يتساوى طرفاه، لا إذعان فيه ولا إطلاق في صلاحيات الحاكم. لكننا في سورية اليوم تجاوزنا تحدي إقناع الناس بهذه الأسس، لنقل في الأدبيات الرسمية على الأقل، لكننا نواجه معضلة كيفية الحفاظ على أي عقد اجتماعي نتعاقد حوله، وهنا تبرز ضرورة آنية، لا يمكن لأي عقد اجتماعي أن يبرم وينجح ويستمر بدونها، وهي أن يؤمن الشعب بأهمية تنظيم نفسه وممارسة العمل الجماعي مع توطين النفس على تبعات ذلك.

في أي عقد من العقود يتنازل المرء عن جزء من حقه أو يقيد حقه المطلق في قضية ما مقابل الحصول على جزء من حق الآخر أو الآخرين، أو تقييد حقوقهم في تلك القضية، وهذه قاعدة عامة لا تكاد تتخلف في أي من فروعها المفترضة، وعليه فإن العقد الاجتماعي، الذي تنتج عنه صيغة معينة للحكم، ليس استثناء، ومن قبل فكرة التعاقد العام وشكل الحكم الناتج عنه وآلياته قد لا يشعر بالرضا الكامل عن الأشخاص الذين يصلون من خلال هذه الآليات إلى الحكم، أو لا يتفق معهم في بعض الأمور، وقد تجمعه بهم بعض الأطر بما يمكن أن يؤدي إلى مشاجرات ومشاحنات.

هذه المشاحنات الشخصية تعد أمراً مفهوماً ومألوفاً في إطار العمل الجماعي حتى في أضيق أشكاله، ولطالما أعاقت الخلافات الشخصية النشاطات العامة والخاصة، لكنه من النادر أن تتفاقم وتطغى على كامل المشهد، كما يحصل فيما بين السوريين، الذين يميلون إلى تحويل مثل هذه الخلافات، حتى في أتفه صورها أحياناً، إلى صراع جوهري يعيد بناء منظومة علاقات كل فرد منهم، على أنقاض المنظومة السابقة، وإذا ما حظينا بمجموعة أفراد ذوي حضور وتاثير في المستويات العليا لبعض مؤسسات الدولة من هذا النموذج لنا أن نتخيل حجم التدمير والخراب الذي سيلحق هذه المؤسسات والمصالح العامة التي تتصدى لتحقيقها.

قد يستغرب القارئ غير السوري من جعل مشكلة الفردية ضمن المشاكل المعيقة لقيام عقد اجتماعي سليم ومستقر، لكن السوريين يدركون جيداً الأثر المأساوي لهذه المشكلة، إذ لا يغيب عن الأذهان تلك الفترة الذهبية التي نعمت بها سورية بديمقراطية فاعلة في خمسينيات القرن الماضي، فترة خرجت منها سورية تحت سمع وبصر النخب، إلى نفق الانقلابات العسكرية، لينتهي في مستنقع الاستبداد المطلق ذي الصبغة الطائفية والعائلية.

بالنظر إلى ذلك، ينبغي على كل من يتصدى للشأن العام في سورية ويخوض في بلورة عقد اجتماعي جديد أو يكون طرفاً فيه، وكل من يسهم في إنتاج نظام الحكم المنبثق عنه أن يضع في حسبانه كل ذلك، دون أن يستهين بشيء منه.

ليس من المبالغة القول إنه إذا ما تمكّنا كسوريين من حل مشكلة الفردية وعدم الانصياع لمقتضيات العمل الجماعي، فإن مشاكل الطائفية والمناطقية، بل وحتى العلوية السياسية وما جرته على البلاد من دمار ودماء ومشاعر الانتقام والعزلة الاجتماعية لن تشكل عقبة كأداء أمام إعادة بناء العقد الاجتماعي الجديد، فإن العدل إذا كان المبدأ الأساسي لهذا العقد، والعدالة وصون الحقوق وعده الأسمى لكل أبناء الشعب، سواء من المتضررين والضحايا، وكذلك المجرمين والخونة أو المحايدين، فإن أحداً لن يتمكن من إفساده أو إسقاطه بعد أن يثبت فعاليته.

على أن المنغصات لن تتوقف يوماً، والتحديات ستستمر في اعتراض الطريق، والمؤامرات ستجد طريقها إلى إلحاق الضرر بعقدنا الاجتماعي المنشود، والفطنة تقتضي إدراك حجم الأخطار والاستعداد لمواجهتها بأفضل الوسائل، والتطلع نحو المستقبل بعين الأمل والحرص على الإنجاز وتوريث الوعي بأهمية كل ذلك للأجيال اللاحقة قبل أن يرثوا القوالب الجاهزة فلا يحسنوا استثمارها أو صيانتها فيتيهوا في بحر الطغيان وصراع الأقوياء.

جيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى