سورية: نهج الإبادة يقتل كلّ «حل سياسي»
عبدالوهاب بدرخان *
مرحلة أخرى تنتهي في الأزمة السورية وقد شاء العقل الأمني للنظام ترك بصمته الوحشية بدكّ أحياء حمص، تكراراً لسيناريو مذبحة حماه في اليوم الذي يؤرّخ لذكراها. طوال ثلاثين عاماً تمتّع النظام بالسكوت الغربي والعربي على هذه المذبحة، ثم نال في لوثة الحرب على الارهاب بما يشبه المديح العلني أو المكتوم، لكن تغليبه ارهاب الدولة في التعامل مع شعب سورية جعل من هذه الذكرى أخيراً وصمة عار وتثبيتاً للإجرام في حق الانسانية، كما كان يجب أن ينظر اليه منذ عام 1982 وبعده، فلا شيء في القوانين والأعراف – والأخلاق والأديان – يبرر مثل هذه الإبادة العارية التي يكررها النظام متخيّلاً أن الجريمة ستعود عليه بـ «أمجاد» جديدة، أو أنها تشكّل عشية سقوطه ردعاً استباقياً لخصومه.
بالنسبة الى كل الأطراف المعنية، أي النظام والعارضة والجامعة العربية وروسيا والدول الغربية، شكّل «الفيتو» الروسي – الصيني نهاية المرحلة، وقد باشرت جميعاً بلورة خياراتها المقبلة. لا مبالغة في القول إن المعارضة السورية تنفست الصعداء بعد «الفيتو» المزدوج. صحيح أنها دانت إمعان روسيا في توفير غطاء لنظام شرع فجر يوم «الفيتو» مجزرة في حمص، إلا أنها ارتاحت ضمناً لاطاحة قرار دولي أُفرغ عملياً من أي فاعلية بسبب التنازلات التي قدّمت لاجتذاب روسيا، وظلّت تنازلات بلا جدوى. ولا مبالغة أيضاً في تقدير أن القرار في حد ذاته، لو أمكن تمريره بـ «اجماع دولي»، لما كان غيّر شيئاً على الأرض، طالما أنه جُرّد من أي إلزام للنظام السوري، ولأن طبيعة المواجهة باتت تقدّم معطيين: فهي من جهة تجاوزت واقعياً خيار «حل سياسي بالمشاركة مع النظام»، ومن جهة أخرى لم تصل بعد الى مرحلة التعامل مع روح هذا القرار الدولي، أي البدء بـ «ما بعد النظام» عبر نقل السلطة. ما يعني أن الطرفين موقنان الآن أن الصراع سيطول.
خلال تفاوض المعسكرين الغربي – العربي والروسي على صوغ القرار، اتهم كلٌ منهما الآخر بأنه سيتسبب بحرب أهلية في سورية، اذا لم ينجح خبراؤهما في التمارين اللغوية لإنتاج «نص» يحظى بتوافقهما. لكن الروسي الذي كان شرطه الأول أن يُحذف بند يحظر بيع الأسلحة لا يخشى مثل هذا الاتهام، وهو يعرف جيداً الجهد الذي بذله نظام دمشق ليدفع الانتفاضة الى التعسكر والبلاد الى حرب أهلية. في أي حال، أصبح منطق هذه الحرب فارضاً نفسه، وهو انعكس على المواقف في مجلس الأمن. اذ تعتبر روسيا أنها تقف مع الطرف الذي لا يزال أقوى عسكرياً، أي مع النظام، ولا تعبأ بكونه متهماً دولياً بارتكاب جرائم ضد الانسانية. أما المعسكر الآخر ومعه المعارضة السورية فيرى أن الخيار المتاح أمامه هو الاعتماد على العسكريين المنشقين المنضوين في «الجيش السوري الحرّ»، وإن كان صعباً ومكلفاً ويتطلّب وقتاً قبل أن يصبح فاعلاً، أي قادراً على «تحرير» مناطق من سيطرة قوات النظام.
يعرف الجميع، واقعياً، أن نظاماً كهذا لا يُسقَط إلا عسكرياً، لكن دروس تجربتي العراق وليبيا وما انتهتا اليه من حرب أهلية وفوضى ميليشيوية ومن احتمالات تشظٍ للبلدين لا تزال تعطي أفضلية لـ «حل سياسي» في سورية. هذا ما كانت تركيا نصحت به وما تطرحه الجامعة العربية، وهذا على الأرجح ما ستحاوله روسيا من خلال زيارة وزير خارجيتها ورئيس استخباراتها، فلموسكو رصيد لدى دمشق مشفع بـ «فيتوَين» لكنها تعلم أن الوقت حان لكي يُظهر النظام السوري شيئاً آخر غير مآثر «الشبّيحة» من قتل ومجازر.
غير أن روسيا مرشحة لأن تخيّب الآمال أيضاً في حال ركونها الى أوهام «خطط الحوار والاصلاح» التي ما انفك النظام يثرثر عن استعداده لطرحها فيما يوغل في إراقة الدماء واستباحة كرامة الشعب. وواقعياً أيضاً يعرف الجميع، بمن فيهم النظام، أن أي حوار أو اصلاح لن يستقيم في ظل القتل وآلته، وأن الوقف الحقيقي للعنف يعني النهاية الفعلية السريعة للنظام، مثلما أن استمرار والعنف وتصعيده يعني غرق النظام واتجاهه الى نهاية محتومة ولو متأخرة.
بقي التدويل معطّلاً، اذاً، وأصبح التعريب هشاً ومكشوفاً. بقي خط المجازر مفتوحاً أمام النظام، فيما نجحت روسيا في دعمها له كما في ادعاء وجود «حل سحري» تملك وحدها أسراره. ولذلك ستتجه الأنظار الى ما تستطيعه موسكو وهل باتت مستعدة لتحريك «خطّها الأحمر» المتمثّل بعدم المسّ ببنية النظام أو تنحّي الرئيس. لا بدّ من أنها صارت مضطرة الى ذلك طالما أنها عرقلت بل عطّلت كل المساعي ليبقى «الحل» عندها. فإذا كان لديها فعلاً النفوذ الذي يُنسب اليها في سورية، فإن هذه هي اللحظة الحاسمة لاستخدامه، لا للسير في السيناريو «الاصلاحي» للنظام وإنما بإجراءات جراحية في بنيته الأمنية، أبعد وأعمق مما كانت تركيا اقترحت قبل أكثر من ستة شهور.
لكن روسيا تأخرت ولم تحسن الانفتاح على المعارضة الحقيقية، لذا فإن صدقيتها التي تلامس الصفر، بعد انحيازها الكامل الى نظام بات ورقة محروقة في يدها، جعلتها طرفاً غير موثوق بجدّيته ولا بحسّه بالمسؤولية وبالتالي لم تعد مؤهلة لقيادة «حل متوازن». واذا لم تظهر نتائج سريعة وذات مغزى لمهمة سيرغي لافروف وميخائيل فرادكوف، فإن أحداً لن يعوّل بعدئذ على ما تقوله روسيا وستتبلور على الفور الخيارات المتداولة منذ أسابيع، وأبرزها «تحالف الراغبين» أو «مجموعة الاتصال لأصدقاء سورية» على غرار ما أُنشئ للتعامل مع الأزمة الليبية، لكن خارج مظلة الأمم المتحدة هذه المرة. ولا شك في أن نهج الإبادة بات حاسماً في الدفع باتجاه اجراءات غير تقليدية، فما خشيته القوى الخارجية – العربية والغربية – وحرصت على تجنبه هو تماماً ما قاد النظام سورية اليه غير عابئ بتدخلهم أو عدمه. كانت هذه القوى استندت الى سوابق النظام، اذ يتراجع في اللحظة المناسبة لحماية مصالحه، وتوقعت أن يغيّر سلوكه الدموي، لكنها أخطأت التقدير لأن هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها معركة في الداخل تمسّ وجوده ومصيره. لذلك لم يعد مفيداً التعامل معه بمراقبين أو اقتراحات خجولة للحوار و «تفويض» سلطات، فإذا كان الرئيس متقاسماً صلاحياته مع عساكر «الحلقة الضيّقة» للقيادة ذات اللون المذهبي الواحد، فأي صلاحية يُتوقَّع منه نقلها الى نائبه المسكين، وأي حوار يرتجى وأي جكومة «تعددية» يمكن تصوّرها في ظل نهج الإبادة؟… هذه أفكار تجاوزتها الأحداث.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة