صفحات العالم

سورية و قافلة الربيع التائهة


احمد القديدي

صادف في رحلة المنفى الطويلة أو ما بعدها أن ترافقت مع الصديق د. هيثم مناع أحد أبرزالمعارضين للنظام السوري و معه زوجته الفاضلة د. فيوليت داغر في ذلك الزمن الصعب حين كان يزورني رفقة الصديق المشترك د. منصف المرزوقي في بيتي الريفي في ضواحي باريس و تعرفت عن طريق هيثم على مناضلين مثقفين سوريين كبار أودعوا السجون بتهم “قروسطية عجيبة” من نوع “المس من الشعور القومي ! و تعطيل مسيرة الشعب السوري بقيادته الحكيمة !” وهي التهم التي لم يستح بعض القضاة من إلصاقها برجلين مثل ميشيل كيلو و هيثم المالح وغيرهما. كما كنت أساهم بقدر الإمكان في نشاطات اللجنة العربية لحقوق الإنسان التي ترأسها الدكتورة فيوليت بشجاعتها المعهودة و منها مؤتمر انعقد في البحرين منذ سنوات. وبصراحة فالسيدة فيوليت داغر بعد عقود من التضحيات و نصرة المضطهدين في صمت و صبر كانت أحق امرأة عربية بالجوائز العالمية من سيدة يمنية محترمة لكنها ذات إسهام موجز و ظرفي في إنضاج الثورات و تحقيق المكاسب.

كما التقيت في عديد المؤتمرات بالدوحة أو باريس د. برهان غليون قبل أن يتحمل مسؤولياته الثقيلة في رئاسة المجلس الوطني السوري المقاوم. أما الصداقات الأكثر حركية فهي تلك التي ربطتني بالمناضلين الإسلاميين السوريين و قد جمعتني بهم مدينة الدوحة الكريمة التي منحتنا الأمان و آوتنا مع أهلنا و عيالنا سنوات الجهاد والصبر و الإيمان ، جزى الله أميرها ألف خير و من بينهم فضيلة الشيخ مصطفى الصيرفي و فضيلة الشيخ البيانوني و الأستاذ الدكتور عدنان زرزوز و د. رامي دياب و تشاركنا في مقاومة الطاغوت الجاثم على شعوبنا في دمشق و تونس والقاهرة و طرابلس و صنعاء وهي الأنظمة التي يجمع بينها حكم العائلة الواحدة بالرغم من أنها “جمهوريات”.

و تعرفت من خلال هؤلاء الشوام النشامى على طبيعة الطغيان الذي رماهم و طوح بهم في المنافي كما رماني و طوح بي و اشتركنا في تأسيس موقع (إسلام أون لاين) الذي أصبح أهم موقع إسلامي حضاري بفضل رئيس لجنة التأسيس الشيخ يوسف القرضاوي و أمينه العام د. حامد الأنصاري، كما أشركتهم في عضوية اللجنة العالمية لمناصرة المفكر المسلم (رجاء جارودي) و في إنشاء اللجنة العالمية للحريات الفكرية التي نشط فيها معي د. عبد المجيد النجار وهو اليوم عضو في المجلس التأسيسي التونسي عن حركة النهضة.

و إني على مسافة من هذه الذكريات أتأمل الحالة السورية بعد حادثة مقتل أبرز القادة الأمنيين و العسكريين يوم الإربعاء الماضي و أملي أن يهدي الله سبحانه السوريين لسواء السبيل فيجدوا طريقهم للأمن و الأمان و يتوقف نزيف الدم الطاهر و يعود المهجرون إلى بيوتهم.

و لا بد أن النخبة السورية اليوم تتأمل بعقول حائرة تلك التجارب السابقة التي تسمى بالربيع العربي و ربما لا تجد فيها أنموذجا مشجعا ينبىء بنجاح كامل و تغيير سريع وتحول إيجابي. فالثورات أو الانتفاضات كلها إن لدى العرب أو سواهم من الأمم تعقبها دائما مراحل زمنية تطول أو تقصر يسميها علماء الاجتماع السياسي بمراحل فقدان البوصلة حتى لو كانت نوايا النخبة طيبة و وطنية و حتى لو حبلت تلك الهزات العنيفة باستعادة الحريات السليبة و العافية الحضارية و كرامة بني آدم وهي مكاسب غالية حققتها نهاية الاستبداد بلا شك. فالانتقال من حالة اللادولة إلى الدولة الضامنة للحق و العدل هو انتقال عسير طويل تعوقه التناقضات بين مصالح وطموحات و إنتماءات و ولاءات النخب التي تتزعم هذا الإنتقال و تتحكم في توجيهه طبيعة العلاقة بين الجيش و قوى المجتمعات المدنية و كذلك طبيعة العلاقة بين الماسكين برأس المال و بقية الطبقات الكادحة.

فانظر ما يحدث في ليبيا من تواصل حالة اللادولة و استعصاء نزع سلاح الجماعات المتنوعة قبليا و سياسيا و انظر ما يحدث في مصر من توافق هش وغير دستوري على استنباط يومي مرتجل لأسلوب الحكم و حدود صلاحيات القوى المشاركة في السلطة و انظر ما يجري في تونس من تلعثم و تعثر في اتخاذ قرارات هامة مثل تحديد دور المصرف المركزي أو تسليم البغدادي المحمودي إلى ليبيا أو إجراءات التعامل مع مواطني المغرب العربي الكبير ثم انظر ما يدور في اليمن من جدل حول مصير أفراد عائلة علي عبد الله صالح و المسؤوليات الهامة التي يتقلدونها حسب وثيقة الاتفاق الخليجي على نقل السلطة.

إن هذه النماذج بعراقيلها المتوقعة لا تسرع التغيير في سورية و لا تقدم أمثلة تيسر وقف الفواجع السورية ثم إن موقع سورية الاستراتيجي و انعكاس هزاتها ليس له مثيل في التجارب العربية الأخرى و ستظل قافلة الربيع العربي تمخر صحراء الأحداث الدولية في عواصف رملية ليس من السهل ألا تتوه فيها.

الشرق القطرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى