صفحات المستقبل

سوريّون يهجرون الإعلام.. بانتظار دورهم في الموت!

رشا رفاعي

تتحاشى شريحة واسعة من أبناء المجتمع السوري مشاهدة القنوات الفضائية أو دخول مواقع التواصل الاجتماعي، عند وقوع تفجير أو قصف أو أي اعتداء من نوع آخر على المدنيين في سوريا.

الأمر لا يعكس سلبية هؤلاء في التعاطي مع الأحداث أو عدم التعاطف معها. يسعون فقط «لوقاية أنفسهم من الأمراض التي يحاول طرفا الأزمة نقلها لجميع السوريين»، بحسب قول أحدهم. فكل من الطرفين يحاول شدّ البساط ناحيته، لذا يختار كثيرون العزوف عن التعرض لمضامين الرسائل التي تبثها وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، سواء كانت تابعة للمعارضة أم مؤيدة للنظام. وصار الحل الأمثل تجنّب الجدال، لما يخلفه من آثار سلبية، بغض النظر عن مأساوية الحدث وقيمته المعنوية.

وكَرَدِ فعلٍ على طريقة تعاطي القنوات الإخبارية مع الأحداث في سورية، اختار وائل (اسم مستعار، كسائر الأسماء الواردة في النص) صاحب محل أدوات كهربائية في ريف دمشق، أن «يعتزل» مشاهدة كل ما يعرض على هذه القنوات. «أشعر بالحرقة، فما يجري في سوريا مؤلم جداً وتصعب علي مشاهدته، لذا قررت اعتماد سياسة لا عين تشوف ولا قلب يحزن». زوجته تضامنت معه، واختارت متابعة قنوات الدراما والمنوعات، معللة ذلك بعدم قدرتها على التحمّل: «بيكفي عم نعيش الأزمة خارج البيت. كمان بدنا ننقلا لجوا؟ شبعنا، وبدنا نخفف عن حالنا شوي».

مواقع التواصل الاجتماعي تفعل فعلتها أيضاً. تتداول ما يجري على الأرض من أحداث، وأهميتها تعادل وسائل الإعلام التقليدية، «فهي لم تعد فقط وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبحت مصدراً بحد ذاتها، ومنبراً لتبادل الآراء ومناقشتها»، بحسب قول فريال، مهندسة كمبيوتر وموظفة في شركة اتصالات.

لكن، وفي ظلّ الحراك الدائر في سوريا، لم تعد هذه المواقع تؤدي مهمتها بالشكل المطلوب، بحسب رفيف، طالبة الدراسات العليا في قسم الإعلام في جامعة دمشق. فهي تحولت من كونها مصدراً للأخبار والأحداث إلى حلبات مصارعة فكرية، ووسيلة لتبادل الشتائم والتهم، و«الشاطر هو من يستطيع كم أفواه خصومه في الرأي».

أذكر على سبيل المثال لا الحصر انفجار العدوي الذي وقع بالأمس القريب في دمشق مخلفاً عشرات الضحايا، والذي كان الحدث الأبرز على صفحات الـ«فايسبوك»، فبمجرد وقوعه انهالت على الصفحات آلاف البوستات، من شجب، واستنكار، واستهجان، وتبادل للشتائم، وتراشق التهم بالمسؤولية تارة في ملعب النظام وتارة في مرمى المعارضة.

وكنوع من الامتناع عن التعرض لهذه الوسيلة قررت مروى الصحافية في أحدى المواقع الإلكترونية، إلغاء حسابها على الـ«فايسبوك» حتى انتهاء الأزمة، معتبرة أن الموقع «لم يعد للتواصل الاجتماعي بقدر ما أصبح وسيلة للتناحر الاجتماعي».

وتأكيداً لهذا الرأي، يقول محمد الشامي، وهو الاسم الذي اعتمده صاحب إحدى الصفحات المتخصصة في نقل أخبار الثورة السورية، إن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد تؤدي وظيفتها الحقيقية في نقل الحدث بشفافية ووضعه موضع نقاش جاد. الأكثر إيلاماً في كل ذلك، تعامي الناس عن الخبر الأساسي مهما كان مؤثراً، والدخول في دوامة تبادل التهم وتحميل كل طرف سواء من المعارضة أم من النظام، مسؤولية ما يجري في البلاد.

ويضيف: «رغم محاولتي الحفاظ على حيادية صفحتي وفتح باب التعليقات للطرفين، إلا أنه في لحطة نشر خبر أو معلومة على الصفحة تبدأ المبارزة بين الطرفين… أفكر جدياً بإلغائها».

ويقول أحد المتخصصين في العمل الإعلامي إن من الطبيعي عدول المتلقي عن التعرض لوسائل الإعلام، تجنباً للإصابة بالاكتئاب والإحباط، لأن الكم الهائل من الأخبار التي تضخ يومياً، من صور ومقاطع فيديو لعمليات القتل والذبح والتعذيب، كفيل بإثارة مشاعر الحزن والاستياء لديه، وبالتالي إصابته باضطرابات نفسية، خصوصاً إذا كانت هذه المشاهد لأطفال.

ويضيف المتخصص، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، «أن الخطورة تتجلى في محاولة هذه الوسائل تحقيق الاستثارة العاطفية لدى المتلقي، فمن المعلوم أن أحد أهم وظائف وسائل الإعلام دفع المتلقي للتفاعل معها، وتبني رأي معين. إلا أن كثافة ما تعرضه هذه الوسائل أدى إلى حدوث عكس المتوقع».

لم يعد لدى الكثير من السوريين الرغبة في مشاهدة بلادهم جثة تتجاذب أطرافها هذه الوسيلة مع تلك. لم تعد لديهم القدرة على تحمّل المتاجرة بأكثر الأحداث إنسانية ودموية، ولعل هذا ما دفع أحمد، مدرس تاريخ، إلى اختيار الصمت كوسيلة للتفاعل. يقول: «أحزن على كل شهيد بصمت، وأتألم لدموع الأطفال وصيحات الأمهات بصمت، لم يعد يهم ما تعرضه هذه الوسائل. سئمنا منها ومن مضامينها، لا يوجد ما هو أسوأ من هذا الوضع، لذا هيأت نفسي سلفاً لأكون من الضحايا، جلّ ما أفعله هو انتظار دوري فحسب!».

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى