سوق “التنابل” الشامية.. كسل الأغنياء وربح الفقراء/ ناصر علي
إلى الغرب من جادّة الصالحية في قلب العاصمة دمشق، تلتقي بأحد أشهر الأحياء الدمشقية “الشعلان”. الحيّ بُنِيَ خلال الاحتلال الفرنسي، وداخله تجد “سوق التنابل”، حسب التسمية المعروفة. وهي تسمية لا علاقة لها بحادثة تاريخية، أو أنّ المقيمين فيه من “التنابل” مثلاً، بل لأنّه يقدّم إلى زبائنه الخضر منظّفة ومقطّعة وجاهزة للطهو فوراً.
روّاده من الطبقة المخملية، وتحديداً من الذين يحبّون الحصول على كلّ شيء جاهزاً. ولطالما كان محطّ تندّر السوريين، لأنّه يعرض الفواكه واللحوم، إلى جانب الخضروات، جاهزة للطبخ الفوري، من ثوم مقشّر، وكوسا محفورة، وبازلاء مفروطة… انتهاء بالوجبات الجاهزة.
هنا لا أحد يناقش في سعر السلعة، على عكس متاجر الخضروات خارجه، حيث تجد النساء والرجال “يحارجون” و”يشارعون” و”يفاصلون” في السعر “على الليرة والليرتين”، قبل أن يشتروا حاجاتهم من الأسواق الشعبية.
“يأتون بسياراتهم الفارهة قبل آذان المغرب بقليل، ليشتروا الأطباق الجاهزة والحلويات العربية من نافذة السيارة، وبكلّ لطف يمضون، من دون أن ينسوا البقشيش”. هكذا وصف أحد باعة الخضروات الجاهزة زبائن “الشعلان”.
في زاوية السوق يقع أشهر محل لصنع العصائر في دمشق. يقدّم أنواع المشروبات الرمضانية كافة، من عرق السوس، إلى التمر هندي، والجلاب، على مدار العام، لكنّ الأسعار خاصّة هنا. فعلى سبيل المثال كيس السوس يبيعه بـ150 ليرة، أي ما يعادل دولاراً واحداً، وثلاثة أضعاف سعره في سوق “باب سريجة” الشعبية وبقية أسواق دمشق.
أما “الناعم”، وهو طبق رمضاني، عبارة عن خبز “مقمّر” مقليّ في الزيت، يُرش فوقه الدبس البلدي، فسعر الكيس منه، وفيه رغيفان، 500 ليرة سورية، أي أّقل من 4 دولارات بقليل، بينما يمكن أن تحصل عليه في أحد شوارع العاصمة بنصف ثمنه مقارنة بسوق الشعلان.
لم يغيّر زبائن “التنابل”عاداتهم الشرائية، رغم تضاعف الأسعار، والصراع الاقتصادي الذي ألقى ظلاله السوداء حتّى على ميسوري الحال. وما زال الفقراء، قرب المحال التجارية، يفرشون “بسطاتهم” الأنيقة، وبضاعتهم الغنية بما لذّ وطاب من أجبان وألبان وزيوت بلدية، مصنوعة منزلياً، ويعرضون الحشائش الطازجة، وأنواع من الفواكه المجفّفة كالمشمش والتين، والزبيب (العنب المجفّف).
أم خالد، بثوبها الريفي الأنيق، ورسم الحنّة الذي يُزين يديها وأسفل فمها، تأتي كلّ يوم مع ساعات الصباح الأولى من قريتها في جبل الشيخ بريف دمشق، وتتّخذ مكانها في زاوية السوق، حيث “تقيم” منذ عشرين عاماً. لا تغيب عبارة “الله يفرجا” عن شفاهها، تجلس على الرصيف وتنادي على “اللبن والشنكليش البلدي” وخبز الصاج. سعر الرغيف الواحد عندها يوازي ثمن خمسة أرغفة من الفرن، ومع ذلك لها زبائنها المخلصون يشترون ربطة الخبز بـ200 ليرة سورية.
أم خالد وكثيرات غيرها، وجدنَ في سوق “التنابل” مكاناً لتصريف منتجاتهم المنزلية، وعملاً بسيطاً يعود عليهنّ بمردود مقبول نهاية كلّ شهر، يخفّف من ضغوط الحياة، وارتفاع الأسعارفي العاصمة دمشق. هكذا يعمل الفقراء على تقشير الثوم وتغليفه، ويقدمون البقدونس الناعم في أكياس أنيقة، والكوسا المحفورة الجاهزة للحشو، والفاصوليا المقطّعة، وكلّ ما يخطر في البال ليكون على موائد الإفطار، وعلى موائد الأيام العادية.
معظم المحلات التجارية في السوق مستأجرة بناء على عقود استثمار قديمة، ومن النادر أن تجد مالكاً. فسوق “التنابل” تعتبر من أقدم أسواق دمشق، وهذا سبب كاف للباعة لزيادة أسعارهم. يقول أبو علي، صاحب أحد المحلات: نحن نستثمر في مكان غال، سنبيع بخسارة إن خفّضتُ الأسعار أكثر من اللازم. وحتّى أجرة المحل لن نستطيع دفعها حينها. فهنا لا نبيع إلا الأصناف الممتازة من كلّ شيء. فالفواكه تُبَاع بضعف أسعار السوق لأنّنا نعمل على تنظيفها وتنسيقها بطريقة مميّزة تشدّ الزبون، وهنا لا تجد بضاعة متنوّعة السعر.
لا تقتصر سلع السوق على الخضر والفواكه، بل تجد هنا محلات تجارية ومجمّعات ضخمة متنوّعة المنتجات. مثل مطعم “بوز الجدي” العتيق، وهو من أشهر محلات بيع الفول والحمص في دمشق.
أما بعد الإفطار فلا تخلو هذه السوق من زحمة الناس، إذ “تتمركز” بين جنباته وكالات الألبسة الفاخرة، كما تبدو ساحة لعرض الأزياء، وآخر صيحات الموضة وتسريحات الشعر، إضافة إلى الموسيقى الصاخبة التي تنطلق من داخل سيارات أبناء المسؤولين وضبّاط الأمن. تلك التي تقف في زوايا الشارع أو تمشطّه جيئة وذهاباً.
فيكفي أن تمشي قليلاً في هذا الشارع حتّى تشعر أن لا حرب في سوريا وأنّ “سوريا بخير”، كما يردّد مؤيدو النظام والمقيمون في مربّعاته الأمنية، في حين تشتعل أطراف العاصمة برائحة الموت المنتشرة في كلَ زاوية… كما على متداد سوريا كلّها.
دمشق
العربي الجديد