سياسة أميركا وروسيا بين كييف ودمشق/ محمد سيد رصاص
مع تفكك الاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991، عادت الدولة الروسية إلى حدود غير مسبوقة من حيث الصغر الجغرافي منذ تأسيس الدولة القيصرية في موسكو من قبل ايفان الرهيب عام1547. كان التوسع الأول لتلك الدولة غرباً من خلال وضع أوكرانيا عام 1654 تحت حكم موسكو ولو عبر صيغة من الحكم الذاتي قبل أن يجري ضمها عام 1685 للدولة الروسية.
عملياً، كانت أوكرانيا المدخل لروسيا كي تصبح دولة أوروبية وللامتداد نحو شرق ووسط أوروبا وهو ما كان مترافقاً مع تحولها لدولة كبرى تقاسمت بولونيا مع النمسا وبروسيا بدءاً من عام 1772 ثم لعبت دوراً أساسياً في هزيمة نابليون في واترلو عام 1815.
منذ تولي فلاديمير بوتين الرئاسة الروسية في اليوم الأخير من عام1999، بعد قليل من سحقه التمرد الشيشاني كرئيس للوزراء الروسي، كان واضحاً أن برنامجه متركزاً، بعد تثبيت حدود الاتحاد الروسي الذي كان مهدداً بالتزعزع والتفكك عبر التمرد في شمال القوقاز، على إعادة النفوذ الروسي في المجال السوفياتي السابق: استطاع جعل بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان ضمن الفلك الروسي وعندما حصلت «الثورة البرتقالية» الأوكرانية في خريف 2004 لعب على تناقضات الحكم الجديد الموالي للغرب في كييف حتى جاءت صناديق الاقتراع برئيس أوكراني جديد موال لموسكو في عام 2010 هو يانوكوفيتش. في آب (أغسطس) 2008 خلال الحرب مع جورجيا استطاع بوتين، الذي كان رئيساً للوزراء منذ أيار (مايو) 2008 قبل أن يعود للرئاسة في أيار 2012، أن يجعل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا خارج الدولة الجورجية وتحت الحماية الروسية. في عام 2010 أصبحت قرغيزيا في الفلك الروسي ثانية.
خلال الأزمة السورية البادئة منذ 18 آذار (مارس) 2011 استطاع بوتين أن يثبت أن الاستيقاظ الروسي في المجال السوفياتي السابق ستكون له ترجمات للكرملين في المجال الدولي عبر ثلاثة فيتوات في مجلس الأمن عامي 2011 و 2012 حتى اقتنعت واشنطن، التي انفردت رغماً عن موسكو في كوسوفو 1999 وفي العراق 2003 ضد إرادة باريس وبرلين وموسكو، أن عصر الانفراد للقطب الواحد في الساحة الدولية قد انتهى وهو ما كانت ترجمته العملية في قصر الكرملين في 7 أيار 2013 في موسكو عبر الاتفاقية بين كيري ولافروف حول الأزمة السورية التي مهدت الطريق إلى مؤتمر جنيف2 المنعقد في 22 كانون الثاني (يناير) 2014 من أجل حل أكبر أزمة دولية – اقليمية في عصر ما بعد الحرب الباردة برعاية روسية – أميركية كان ملفتاً تسبيق كلمة لافروف على كيري في جلسته الافتتاحية.
في 22 شباط (فبراير) 2014 سقط الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش نتيجة ثورة شعبية استمرت ثلاثة أشهر قادتها أطراف «الثورة البرتقالية» السابقة مع تأييد واسع في الوسط والغرب الأوكرانيين مترافق مع عداء كبير لاقته تلك الثورة في وسط الروس الأوكرانيين (17 في المئة من السكان) الذين يشكلون غالبية سكان شرق اوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
أدت الأزمة الأوكرانية إلى تبخر أجواء الوفاق الروسي – الأميركي البادىء سورياً في 7أيار 2013 والذي ترجم يوم 14أيلول (سبتمبر) بالاتفاق بين الوزيرين كيري ولافروف حول الكيماوي السوري ثم في 20 تشرين ثاني (نوفمبر) في الاتفاق الأميركي- الأفغاني (رغماً عن الرئيس كرزاي صادقت عليه اللوياجيركا الأفغانية) لتنظيم الوجود العسكري الأميركي حتى 2025 ومن دون هذا المناخ بين واشنطن وموسكو ما كان ممكناً عقد اتفاق مجموعة 5+1 مع ايران بخصوص الملف النووي الايراني.
عملياً قاد ما حصل في كييف إلى أكبر أزمة أوروبية في مرحلة ما بعد انهيار نظام الثنائية القطبية خريف 1989 ولكنها كانت مجالاً لبوتين لكي يتصرف، مستغلاً الضعف الأميركي الذي لا يعرف على وجه الدقة إن كان يعود إلى الفشل العراقي أم إلى الأزمة المالية – الاقتصادية الأميركية منذ أيلول 2008 أو للإثنين معاً، باتجاه رسم مرحلة جديدة من الاستيقاظ الروسي وصلت في أوكرانيا إلى مرحلة أعلى مما كانت روسياً في الأزمة السورية: في خطاب الرئيس الروسي عند اعلان ضم القرم بيوم 18 آذار 2014 كان هناك اعلان عن انتهاء مرحلة القطب الواحد وعن عودة الثنائية القطبية وعن بدء ثان للحرب الباردة كانت فيها الأزمة الأوكرانية منصة لانطلاقها كما كانت أزمة الحرب الأهلية اليونانية منصة لانطلاق الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو من خلال مبدأ ترومان -آذار 1947- الذي أعلنه الرئيس الأميركي كمبدأ لتدخل واشنطن ضد الامتداد الشيوعي. ظهر بوتين وهو يقتطع القرم من أوكرانيا قيصراً روسياً جديداً يملك الكثير من الشهية التوسعية، التي كانت عند أسلافه القياصرة وعند جوزيف ستالين، ولا يؤمن بمبدأ في العلاقات الدولية سوى بالقوة العارمة التي لخصتها عبارة ستالين عن بابا الفاتيكان في مؤتمر يالطا عام 1945، كما بدا بوتين من خلال الأزمة الأوكرانية، كما كان في الأزمة السورية، مالكاً لاستراتيجية واضحة وبنكاً للأهداف، فيما بدت واشنطن في تخبط وردود فعل في كييف وبلا استراتيجية كما كانت في دمشق.
من الواضح أن ما بدأ في الكرملين في 7 أيار 2013 بين موسكو وواشنطن قد انتهى في قاعة مبنى الدوما الروسي في 18 آذار 2014 وأن (جنيف) 2 قد أصبح في خبر كان إثر التوتر الروسي – الأميركي بعد أن كان وفاقهما في الكرملين يومها قد قاد لما جرى في سويسرا يوم 22 كانون الثاني2014 إلا إذا قادت تسوية أميركية – روسية حول «أوكرانيا فيديرالية من دون القرم» إلى توافق جديد ستكون له انعكاسات من جديد على حلول للأزمة السورية، من المحتمل – أي تلك التسوية – أن تجرى قبل موعد الانتخابات الأوكرانية المقررة يوم 25 أيار 2014، ويمكن عندها أن تجعل الحرب الباردة الثانية في حالة استبدال بأجواء وفاقية ولكن في ظل ثنائية قطبية جديدة بين موسكو، ومن ورائها الصين ودول البريكس، وبين واشنطن ومن وارئها مجموعة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل التي هي أيضاً مقر الناتو.
* كاتب سوري
الحياة