“سيريزا” اليونان: أوان «ما بعد الديمقراطية»؟/ صبحي حديدي
في القرن الخامس قبل المسيح، كانت اليونان هي التي اقترحت على الإنسانية مفردة الديمقراطية، في مدلولها الأصلي على الأقلّ، أي النظام التمثيلي الذي يقوم على حكم الشعب، بواسطة الشعب. وقبل أيام، في القرن الحادي والعشرين بعد المسيح، كانت اليونان إياها هي التي اقترحت قلب المعادلة رأساً على عقب، أو تصحيحها بالأحرى، وردّ الحكم إلى الشعب، في طور لعله سوف يستحقّ قريباً صفة «ما بعد الديمقراطية». وقبل الانتصار الكاسح الذي حققه «ائتلاف اليسار الراديكالي»، «سيريزا» في الاختصار الشائع الذي يتصادى مع معنى العودة إلى الجذور؛ كان مفكر سياسي فرنسي مثل جاك رانسيير قد خصص فصلاً كاملاً من كتابه «الاختلاف: السياسة والفلسفة» لتشخيص هذه الحال: «حيث المفارقة تقتضي، باسم الديمقراطية، التشديد على الممارسة الإجماعية الهادفة إلى طمس أشكال الفعل الديمقراطي. ما بعد الديمقراطية هو طور ممارسة حكومية وتشريع مفهومي يؤسس لديمقراطية بلا شعب، ديمقراطية استأصلت ظهور، واعتراض، وسخط، واحتجاج الشعب، فاختزلت النظام بأسره إلى تبادل الأدوار بين أجهزة الدولة ومزيج المصالح النافذة».
تحالف «سيريزا» بدا، منذ صعوده المبكّر الأوّل، سنة 2004، وكأنه مظلة للخروج الانشقاقي على تلك الحال: 13 تنظيماً، بين يسار شيوعي انشقّ عن الحزب الرسمي التاريخي (ويشكل الكتلة الأكبر في التحالف)، ومجموعات الخضر والبيئة، والفصائل التروتسكية والماوية، وروابط معاداة الإمبريالية والعولمة الوحشية والليبرالية الجديدة. في انتخابات 2004، نال الائتلاف 3,3٪ فقط، وفي أيار (مايو) 2012 قفز إلى 16,8٪، وقبل أيام كان بحاجة إلى مقعدين فقط ليحصل على الأغلبية المنفردة، بواقع 36,3٪ و149 نائباً. في الانتخابات الأوروبية، بوصفها معياراً موازياً لبرامج الائتلاف الاجتماعية، من حيث الاعتراض الجوهري على سياسات الاتحاد الاوروبي تجاه اليونان؛ حصل الحزب على مقعد واحد (4,7٪) في انتخابات 2009، ثم قفز إلى ستة مقاعد (26,6٪) في دورة 2014..
ولا تكمل دلالات هذه المؤشرات إلا الحصيلة المقابلة لأحزاب اليونان التقليدية، أو رعاة أطوار ما بعد الديمقراطية، على اليمين واليسار الرسمي معاً؛ حيث السقوط من شاهق ليس نتاج ردّات فعل الشارع الشعبي، فحسب؛ بل هو، أيضاً، ثمرة الانشقاقات المتتالية التي أخذت تعصف بهذه الأحزاب عموماً، والثنائي التاريخي خصوصاً: «حزب العمال»، الـ»باسوك»، ممثل اليسار؛ وحزب «الديمقراطية الجديدة» اليميني المحافظ، الذي كان في الحكم قبيل الانتخابات. وأما المشهد الاجتماعي العريض، خلف هذه الاصطفافات السياسية، فالأرقام فيه ناطقة بليغة: إعادة النظر في أجور مئات الآلاف من العاملين، وموجات صرف طالت 270 ألف عامل، أي قرابة 30٪ من قوّة العمل؛ وهبوط الأجور بمعدّل 30٪، وخفض نفقات قطاع الصحة بنسبة 25٪، والتعليم بنسبة 30٪. هنالك إضراب، لعمال الكوكاكولا، في تسالونيكي بتواصل منذ عام؛ وثمة عشرات الإضرابات الوطنية العامة، في معظم أشغال القطاعين العام والخاص. ديون اليونان، كما هو معروف، تبلغ 130 مليار يورو، وسيتوجب على ألكسيس تسيبراس، زعيم «سيريزا» بصفته الآن رئيس الوزراء، أن يتدبر 30 ملياراً عاجلة، قبل دخول شهر آذار (مارس) القادم!
وحين ظهرت للعيان أولى بوادر التأزم في الاقتصاد اليوناني، كانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية سباقة إلى كشف النقاب عن تواطؤ كبرى بيوتات المال الأمريكية، وعلى رأسها مصرف «غولدمان ساكس»، في صناعة أزمة اليونان، ثمّ التسبب في تفاقمها أكثر وأشدّ. فعلى امتداد عقد كامل، وبالأحرى منذ دخول البلد في منطقة اليورو، أغدقت تلك البيوتات قروضاً سخية على الحكومات اليونانية المتعاقبة، وكانت تموّه عمليات الإقراض تحت بنود شتى ومسمّيات مختلفة، تسمح بالتملّص من القيود التي كان الاتحاد الأوروبي قد فرضها على سقوف التضخم الحكومي. وهكذا، وسط عويل البورصات وضجيج منظّري الليبرالية الجديدة، اتضح أنّ مجموعة «غولدمان ساكس» ليست قصة نجاح رأسمالية باهرة تعود إلى سنة 1869 فحسب، بل هي «أخطبوط عملاق يمتصّ الدماء» في تعبير مجلة «رولنغ ستون». وعلى نقيض المبدأ الشهير «دعه يمرّ، دعه يعمل»، بوصفه أحد أكثر أقانيم اقتصاد السوق قدسية وعراقة؛ كانت المجموعة تعتمد مبدأ النقيض الأقرب إلى هذا الشعار: «لا تدعه يعمل، إلا إذا مرّ من هنا»، أي من تعاملات الزبائن مع مصارف المجموعة. الأمر الذي لم يسفر، البتة، عن أية مراجعة نقدية لهذه السياسات المالية، فاستمرّ العزف على نغمة انتصار اقتصاد السوق، والتنظير المكرور لعبقرية النظام الرأسمالي!
لكن «غولدمان ساكس» لم تكن الأخطبوط الوحيد، بل لعلها كانت الأخطبوط الظاهر فقط، الذي لا تتغذى شراهته الوحشية إلا من القوانين الأوروبية ذاتها، الراسخة في صلب الدستور الأوروبي الموحد. الموادّ والبنود المعتمدة لا تتحرّج من اعتماد هوية سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية لأوروبا الموحدة، تضمنها تشريعات صارمة تُلزم الأمم القابلة بهذه الاتفاقية على اعتناق الفلسفة النيو ـ ليبرالية، واعتمادها حصراً في تسيير مختلف المؤسسات العامة أو الخاصة. أكثر من هذا، ثمة بنود تهدّد، دون أيّ لبس، بإنزال العقوبات بالأمم التي تخرق هذا «الإجماع»، ذاته الذي كان موضوع هجاء رانسيير ونقّاد دولة ما بعد الديمقراطية؛ وتسمح للدولة بالتدخل في شؤون اقتصادية أو خدماتية أو تربوية أو ثقافية، الأمر الذي يهدّد بتكبيل المبادرة الفردية، وكسر حرّية التنافس المطلقة في السوق. ليس هذا فحسب، بل ثمة بنود تشكّل ردّة صريحة، وعنيفة وحشية حقاً، عن مكاسب كبرى وحقوق اجتماعية أساساً، فضلاً عن كونها سياسية ـ اقتصادية أيضاً، أنجزتها الشعوب الأوروبية بدرجات مختلفة وعبر نضالات شرسة كان بعضها دامياً مأساوياً.
بين هذه، مثلاً، مسألة القطاع العام وتقليص أو حجب التمويل الحكومي (أي الشعبي في عبارة أخرى: ذاك الذي يموّله المواطن عن طريق الضرائب المباشرة وغير المباشرة)، عن المشاريع والمؤسسات والخدمات التي تمسّ حياة المواطن اليومية، كالتأمين الصحي والنقل والمواصلات والبريد والهاتف والكهرباء. صحيح أنّ بنود الدستور الأوروبي الجديدة تستبدل تعابير «الخدمة العامة» أو «القطاع العامّ» أو «قطاع الدولة» بمصطلح جديد واحد هو «الخدمات ذات النفع الاقتصادي العامّ»؛ إلا أنّ المحتوى الملموس ليس مراوغاً غائماً أو غائباً فحسب، بل إنّ الخدمات هذه تخضع بدورها لمبدأ حقّ التنافس، الأمر الذي يعني عملياً عجزها عن منافسة الاحتكارات العملاقة. ولقد زاد الطين بلّة مشروع القانون الأوروبي المعروف باسم المفوّض الأوروبي السابق والليبرالي الهولندي الشهير فريتس بولكشتاين، الذي يبشّر المجتمعات الأوروبية بأنّ جميع مؤسسات القطاع العام في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سوف تُطرح على السوق كبضاعة، أي سوف تدخل بالضبط في ذلك النوع من المنافسة غير المتكافئة مع الاحتكارات العملاقة. الأمر، بالطبع، لن يقتصر على هذا، لأنه ببساطة سوف يعني انحطاط الكثير من تلك الخدمات إذا ما بيعت للقطاع الخاصّ (كما باتت عليه حال السكك الحديدية في بريطانيا جرّاء سياسة مماثلة اعتمدتها مارغريت ثاتشر، على سبيل المثال الأبرز)، فضلاً عن ارتفاع أسعار خدماتها على نحو لا تتحكم به سوى البورصات.
وكان تسيبراس، المرشح للبرلمان في حينه، قد أطلق صفة «البربرية» على سياسات الاتحاد الأوروبي في استيفاء ديون اليونان؛ وبالتالي لم يكن غريباً أن يتصدر برنامج «سيريزا» الانتخابي بند أكبر هو الرجوع عن برامج التقشف، وإعادة جدولة الديون، أو حتى إلغاء بعضها. هيهات، غنيّ عن القول، إذْ أنّ إعادة اقتراح ديمقراطية شعبية جديدة وبديلة، شيء؛ وانتشال اليونان من مآزقها البنيوية العضال، شيء آخر مختلف تماماً: دونه زحزحة الأكروبول، أو… تلويحة الوداع لليورو وللاتحاد الأوروبي معاً!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي