سيناريوهات سورية محتملة
احسان طالب
أعلنت جهات سورية معارضة مسلحة عن انشقاق ثلاثة طيارين مقاتلين تابعين للقوات الجوية السورية ووصولهم إلى الحدود التركية، سبق ذلك خبر عن طائرة يقودها ضابط برتبة عالية ـ عقيد ـ يتجه بها إلى الأردن ويحظى بلجوء سياسي بموافقة مجلس الوزراء الأردني، الطائرة الميغ 21 تحط رحالها في مطار المفرق الأردني العسكري البعيد عن الحدود السورية 50 كيلو متر. سُربت أخبار صحفية تفيد باعتماد ذلك المطار مركز لعمليات إغاثة إنسانية بعد انتهاء مناورات الأسد المتأهب التي جرت مؤخرا وشارك فيها سبع عشرة دولة وما يقارب اثني عشر ألف جنديا و سيتحول إلى مقر عسكري لقيادة قوات حفظ الأمن والسلام المؤلفة من قوات عربية وإسلامية تدخل عبر الحدود الأردنية والتركية بعد تشكيلها بقرار أممي أو قرار صادر عن مجموعة أصدقاء سوريا، استنادا لميثاق الأمم المتحدة الذي يدعو للتدخل لحفظ الأمن والسلم العالمي المهدد بدولة ما في العالم، وذلك بتوصية من ثلثي أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بدون موافقة من مجلس الأمن بما يعني التخلص من الفيتو الروسي الصيني. في غضون ذلك أعلن روبرت مود بمؤتمر مشترك مع كوفي عنان ، وقف عمل المراقبين الدوليين موضحا استحالة استمرار عملهم لوجود مخاطر أمنية جسيمة، مبينا عدم جدوى تسليحهم أو زيادة عددهم ، مشيرا إلى مقترحات جديدة قيد البحث، كوفي عنان بدوره نعى خطته بعد ثلاثة شهور من بدء العمل لتطبيقها محملا النظام الجزء الأكبر من المسؤولية لتعثر تطبيق البنود الستة المفترض أن تفضي لحل سياسي مرتقب ، هو اليوم أبعد من أي وقت ومضى. أكد الجنرال مود خروج ما يزيد على 50% من الأراضي السورية عن سيطرة النظام الذي يحاول استرجاعها بكل الوسائل المتاحة لكن دون جدوى، بل تشير الأخبار الموثقة بالصور الفضائية استمرار نزيف الدماء فوق مناطق عجز النظام عن استعادتها بعد قصفها بمدافع الهاون والصواريخ والمروحيات، في وقت ترتفع فيه وتيرة المواجهات بين قوات نظامية وأخرى منشقة في الريف الدمشقي ـ سوار النار ـ وفي داخل أحياء دمشقية لا تبعد عن مقرات قيادات رسمية وأمنية سوى بعض مئات من الأمتار كحي كفر سوسة والمزة والميدان.
في وقت ما زال النظام فيه عاجزا عن إعادة السيطرة على قلب حمص وريفها رغم قصفه المستمر لأحياء حمص القديمة وما حولها، و مناطق البياضة والرستن، في حين تتخذ المواجهات في ريف حماة طابعا دمويا يخسر فيه النظام أعداد هائلة من قواته مثل ما حدث مؤخرا في دار عزة بريف حلب، حيث نصبت قوات منشقة كمينا سقط فيه العشرات من الجنود والشبيحة عند حدود البلدة، ما يفيد بحالة عجز واضح لقدرة القوات النظامية على اقتحام البلدة أو السيطرة عليها. أمام تلك المقتطفات مما يدور على الأراضي السورية لن يكون صعبا الاستدلال بما يمكن حدوثه وما ستؤول إليه الأحداث ، حيث نستطيع تقرير ما يلي: 1 ـ تعاظم قدرات المقاومة المسلحة وتزايد أعدادها وعتادها وارتفاع مستوى تنظيمها، وسيطرتها على مساحات جديدة ، مقابل إنهاك واضح لدى القوات النظامية بدليل حدوث انشقاقات جماعية مترافقة مع انضمام ضباط برتبة عميد كما أعلن مؤخرا بانضمام خمسة من كبار الضباط من عائلة واحدة كذلك إعلان جهات رسمية تركية عن تزايد عدد الانشقاقات ولجوئها لتركيا . وتواتر الأنباء عن اعتقال مئات الضباط بتهمة محاولة الانشقاق، بل وأكثر من ذلك اعتقل ضباط على خلفية أحاديث جانبية تشي بنية أو رغبة بالانشقاق .
2 ـ تطور الأوضاع في مدن كبرى كمدينة دير الزور التي باتت عصية على الأمن النظامي حيث يسيطر الثوار على مقار أفرع أمنية في وسط المدينة وتراجع كثيف للقوات النظامية تحت وطأة اشتباكات بين قوات أمنية والمقاومة الشعبية المسلحة. كذلك استعصاء الوضع على ما هو عليه في مدينة حمص والتطورات الميدانية في مدينة درعا وثوران الريف الحلبي ببلداته ومدنه وانتقال المظاهرات لداخل العاصمة الاقتصادية لسوريا ـ مدينة حلب ـ ينهي ما كان يتردد على ألسنة أوساط إيرانية بأن الثورة السورية ثورة أرياف وطالما أنها خارج المدن فلا خوف على النظام.
3 ـ الريف الدمشقي خارج عن السيطرة الحقيقية للنظام وحالات الكر والفر مستمرة في مدن رئيسة كدوما وحرستا وبقية بلدات الغوطة الشرقية ، فالنظام لم يجد بدا من استخدام القصف المدفعي والجوي بواسطة المروحيات للحد من انتشار فصائل المقاومة المسلحة ، التي تحظى بحاضنة اجتماعية مؤيدة تقدم الملاذ والعون المادي واللوجستي للثوار، ولا يختلف الحال في الغوطة الغربية حيث لم يتمكن النظام من إنهاء التمرد العسكري المنتشر من داريا إلى المعضمية والهامة وقدسيا، وفي بلدة رنكوس التي لا يزيد عدد سكانها عن عشرين ألفا ، انقسموا بين مقاتلين ومهجرين، ما زالت القوات النظامية مضطرة للتواجد بكثافة عالية حتى تتمكن من إبقاء سيطرتها الظاهرية على المنطقة مع العلم بأن الجغرافيا السورية تتيح للمقاتلين المعارضين إمكانية تواصل لوجستي بين المناطق الثائرة عبر خطوط اتصال آمنة يؤسس لإخراج نهائي عن سيطرة السلطات الحاكمة، كما هو حاصل في مهد الثورة السورية، مدينة درعا المترامية الأطراف، حيث بات من شبه المستحيل لقوات الجيش النظامي إعادة السيطرة عليها أو حتى إخضاعها عسكريا رغم التواجد الهائل لكتائب قوات الجيش النظامي هناك حيث كانت تعتبر مدينة درعا حليفا تاريخيا للنظام قبل الثورة
4 ـ خبر إسقاط طائرة تركية من قبل الدفاعات الجوية السورية في الأجواء الإقليمية وما يمكن أن يسفر عنه من ارتدادات عسكرية دولية باعتبار تركيا القوة العسكرية الثانية في حلف الأطلسي، يؤكد تعدد مراكز اتخاذ القرار السوري وتشكُل مراكز قوى تسيطر على تشكيلات عسكرية وعتاد عسكري وأسلحة متطورة تقليدية وغير تقليدية و لن يكون من السهل السيطرة عليها أو التنبؤ بما تُقدم عليه دون الرجوع لدائرة القرار السياسي الضيقة المؤلفة من مجموعة من ضباط الأمن العسكريين، المتواجدين في العاصمة ويتحكمون بخيوط العملية العسكرية والأمنية والسياسية، ولعلنا نستطيع تأكيد تشتت القرار المركزي بردود الأفعال المتناقضة التي خرجت عن وزارة الخارجية السورية وتلك التي أعلن من خلالها عن إسقاط الطائرة التركية.
5 ـ تعتقد المخابرات الروسية بأن النظام غير قادر على إنهاء الثورة أو إعادة السيطرة على المناطق الكبرى الخارجة عن حكمه وتسارع نزيف القوات المسلحة بالانشقاقات والخسائر الهائلة بالأرواح والعتاد ، يؤكد ذلك الاعتقاد إرسال ثلاث بوارج عسكرية روسية محملة بجنود المهام الخاصة المدربين على إجلاء المدنيين في مسعى لحماية ما يقارب من مئة ألف روسي يتواجدون على الأراضي السورية.
قد يرى البعض في مناورات لم يتأكد إجراؤها على الأراضي السورية لجيوش سوريا ، روسيا ، الصين ، إيران ، باعتبارها أكبر مناورات في الشرق الأوسط مؤشرا على فقدان الحلفاء الثقة بالنظام، ودليلا على ضعفه الشديد ما يستدعي تدخل مباشر لتثبيته ، وربما تكون خطوة لإعادة إنتاج نظام الأسد من داخله ، بمعنى إحداث تغيير مهم وجوهري يساهم في استقرار المنطقة ويساعد على إعطاء الحقوق للسوريين، وينهي الاحتجاجات، عن طريق التفاوض، لكن هذا السيناريو لا يبدو واقعيا وكان ممكنا في مراحل سابقة لم تكن فيه المقاومة المسلحة للنظام على ذلك المستوى من القوة والتنظيم.
6 ـ قد يبدو الموقف التركي من الحدث السوري متردد وحائر بين حسابات سياسية داخلية ومؤثرات دولية، خاصة بعد حادثة إسقاط الطائرة التركية التي أكد وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أنها كانت في مهمة تدريبية وكان من الممكن التعرف عليها وتحذيرها قبل إطلاق النار عليها، وما تردد من أنباء عن دراسة حلف النيتو للواقعة يؤكد ارتباط تركيا بالإرادة الغربية
لكن في النهاية لن تتمكن تركيا من الانسحاب من الرمال السورية المتحركة ، ويعود الالتباس والشك بالإرادة التركية ، للتذبذب والتعثر الملازم للتحرك الدولي ، لا تخرج تحركات حكومة اردوغان عن دائرة قرار التحالفات الدولية ، نظريا السلطات التركية لديها مخططات ودراسات لمجمل السيناريوهات المحتملة أو المتوقعة ، وستخرج عمليا من محور رد الفعل والانفعال بالحدث إلى صناعته أو تحديد مساره.
7 ـ وصول طائرة مقاتلة سورية وهبوطها بسلام في مطار عسكري أردني وقبول اللجوء السياسي لقائدها ليس حادثا عابرا أو خارجا من سياق التحضيرات الدولية السائرة في مخطط إنهاء النظام السوري، ولا يغيب عن ذاكرتنا مقترح أمير دولة قطر بإرسال قوات عربية إلى سوريا عبر الأردن المطلع بدور رئيس في الأزمة السورية، فاللاجئون السوريون لديه اقترب عددهم من مئة وخمسين ألفا ، وربما لن تكون المنطقة العازلة التي نوقشت وبحثت كثيرا في الأوساط الدولية وحيدة في الشمال على الحدود التركية السورية بل ستكون مزدوجة بإقامتها بالجنوب على الحدود الأردنية السورية.
8 ـ يرى محللون دلائل على محاولة إثارة حرب إقليمية طرفها الأول محور إيراني سوري عراقي لبناني والثاني تركي خليجي عربي ومن ورائهما التحالفات الدولية الرئيسية حلف النيتو من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى ، وذلك في محاولة للحفاظ على نظام الأسد ما يترتب على وجوده وبقائه من مصالح إستراتيجية واقتصادية ومشاريع أيديولوجية. لكنني أرى في ذلك تضخيما للدور السوري وتقليلا من شأن التوازنات الدولية في ظل نظام عالمي جديد لا يصح فيه التضحية بالمصالح الكبرى للدول العظمى في سبيل الإبقاء على نظام متهاو يمكن تغييره دون إخلال جذري بمنظومة التفاهمات الدولية السائدة
9 ـ من المسلم به دوليا عدم حدوث تغيير جذري بالأوضاع السائدة بالشرق الأوسط دون الأخذ بعين الاعتبار متطلبات دولة إسرائيل العدو التاريخي للدول والشعوب العربية، إلا أن التغيير الجاري في مصر يساعد في إمكانية فهم حدوث تبدلات جوهرية دون المساس بالحالة العربية الإسرائيلية المعتادة.
الحل المقترح في سوريا يحمل في طياته خليطا يمنيا ليبيا، إضافة لتدخلات عسكرية جوية وبرية عبر قوات عربية إسلامية وإشراك جزئي لبعض عناصر الصف الثاني من المنظومة العسكرية والسياسية لنظام الرئيس الأسد. ولا يستبعد مشاركة روسية رئيسة باعتبارها جزءا من الحل والمشكلة في آن واحد ، ورغم تصلب الموقف الإيراني ومرجعياته الدينية المذهبية إلا أن العقل والمنطق ينبغي أن يفرض على الإدارة الإيرانية الرؤية ببعد نظر، يتيح لها تخفيف خسائرها الناجمة عن انتهاء عصر هيمنتها على سوريا نظاما ودولة مقابل تفاهمات بتخفيف الخناق الاقتصادي والدبلوماسي المفروض عليها والذي سيساهم في آجال ما، بتصدع داخلي وشيك سيسفر عن انهيار محتمل لكيان الدولة الإيرانية بمواصفاتها الراهنة، وستتحول قوة الردع النووي المنشود إلى عبء يثقل كاهل الاقتصاد الإيراني ويبقي البلاد تحت وطأة تهديد عسكري دائم، ربما يدرك الإيرانيون بأن الإمام الخميني عاد إلى إيران بعد قيادة الثورة من باريس وها هي عاصمة النور تشهد اليوم تجمعا لآلاف الإيرانيين يحتشدون لبث الروح في الربيع الإيراني العازم على تأكيد التغيير بعد ثلاث قرون من ثورة لم تحقق ما صبا إليه الشعب الإيراني من العدالة والحرية والمساواة والرفاه المأمول.
لم يعد ممكنا إنهاء التمرد العسكري المسلح للثوار في سوريا بل لابد من إشراك للقوى الثورية السياسية والعسكرية في صياغة وبناء المرحلة الانتقالية، ولن يكون مجديا للنظام استمرار الهروب إلى الأمام والركون إلى منطقته الخضراء ـ مركز العاصمة دمشق وما حولها ـ التي تسيطر عليها قبضة أمنية حديدية تمنع انفلات احتقان شديد يؤذن بمواجهات مسلحة دامية، فالفئة الصامتة باتت حانقة غاضبة، من كثرة ما تعرضت له من مضايقات وانتهاكات لكرامتها ومحارمها ومن كثرة ما شاهدته من مجازر، وخيبة أملها بإعلام كان يخدعها بفرضية المؤامرة الخارجية ويوهمها ، بانتهاء الأزمة وإذا به يعرض عليها يوميا أعداد الخسائر بالأرواح والمعدات وتزايد عدد المسلحين وتعاظم نوعية عملياتهم ناهيك عن عجز السلطات المعروفة ببطشها وقوة تغلغلها الأمني في المجتمع السوري عن إحباط عمليات إرهابية ضخمة أودت بحياة المئات من السوريين. لقد حول الحل الأمني العسكري ونظرية الحسم سوريا إلى حلبة صراع مسلح، فإرادة الشعب لا تخدع كما لا تهزم ، لقد كان استشراء الحل المسلح المفرط باستخدام القوة سببا في إحلال فكرة عسكرة الثورة عمليا، لكنه لم يتمكن من إنهاء المحاولات السلمية المستمرة والدائبة والشجاعة التي تعبر عن نفسها يوميا في كافة المناطق السورية، وتبقى الثورة السلمية في حالة تأهب تام منتظرة الفرصة السانحة لاحتلال الشوارع والساحات مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية ، ولا ينخدعن أحد بمظاهر الحركة الاقتصادية النشطة التي تشهدها العاصمة دمشق، فالقلوب ممتلئة والعواطف جياشة وما يمنع الانفجار الضخم قشرة سطحية قاسية ستتكسر قريبا بفعل تزايد الضغط نحو الداخل فلم يبقى منزل في دمشق لم يدخله الأمن بحجة المسح الأمني كما لا تخل عائلة دمشقية من شهيد أو معتقل أو غائب مهجر، لن يحتمل الناس المزيد وكل فرصة للحسم ستكلف أرواحا وتخلف أحقادا وإضغانا .